كانت عادةُ العرب الفخر بآبائهم وأنسابهم وبالخصوص في الشعر، فقد كانوا يكرمون الشُعراء لمدحهم والثناء عليهم وتبيين منزلة ورفعة شأن القبيلة أو الشخص، وهذا عندهم لا يعد عيباً بل كان من الكياسة وحسن الإدارة، وهو (هذا الشعر) في كثير من الأحيان تزويرٌ للواقع لأن تلك الأوصاف والألقاب التي يعطيها الشعراء لمن يقولون فيه شعرًا ليست حقيقية وإنما لصلة يريدها الشاعر لنفسه، إلا القلة القليلة الذين خلد التاريخ مواقفهم وشهامتهم وبطولاتهم وعرفهم الناس بشجاعتهم وقوة بأسهم وفنهم في تدبير الأمور والخروج من الأزمات، ومع ذلك فهذه القلة القليلة أعتمدت في حال اختلال القوى بين الطرفين في المعارك أو المواقف أسلوب الفتك والمكر والخديعة في التغلب على خصومهم أو الهرب من العدو لتحيَّن الفُرص للإنقضاض عليه.
ولكنَّ أصحاب الحسين(عليه السلام) لم يكونوا كذلك..
لقد دخلوا معركة العاشر من المحرم وهم متيقنون من مقاتلهم كما أخبرهم بها الإمام الحسين(عليه السلام) في ليلة العاشر، فكانوا كما هم، رجالاً أشداء أولي عزمٍ مُجَّرَبين في الحروب، إذا ذُكروا في حربٍ تزلزلت لذكرهم قلوب الأعداء.
لكن أَنْ يقف القاسم في ذلك اليوم وهو لم يبلغ مبالغ الرجال وعلى أعلى التقادير أَنه كان بن ست عشرة سنة -لم يجرب في حرب- بين الدماءِ والأشلاء والحسين(عليه السلام) لا ناصر له ولا معين وهو على صغر سنه يسمعُ حمحمة الخيول وهدير الجند وينظر إلى الأسِنةِ والسيوف وتدافع الفرسان وارتفاع الغبرة في الميدان ليقولَ مرتجزاً: (إن تُنكِروني فأنا فرعُ الحسن..)
أيُ رباطةِ جأشٍ وشدةُ بأسٍ تلك التي في قلبه، ثُمَّ إنَّ قوله بأنه فرعُ الحسن لها عدة دلالات، لو تأملنا في واحدة منها وهي أن الحسن(عليه السلام) مصدرٌ لكلِ ما هو عليه اليوم من صفاتٍ وأخلاقٍ وقيمٍ، فالفرعُ يكون في أعلى الشجرة التي هي أصله الذي يغذيه ويمده بأسباب الحياة ثمَّ تجعلُ خلاصتها في الثمار التي تكونُ في تلك الفروع فلو لا الأصلُ ما أثمرَ الفرعُ بل لو لا الأصل ما وجِدَ الفرع، فكأنما أراد بقوله ذاك أنَّ الذي أوصله لهذه المكانة هو تربية بيت النبوة وأنه فَخِرٌ بنفسه مِنْ جِهة أنَّ ما يمدُ وجوده هي التعاليمُ الإلهية التي جاء بها النبي(صلى الله عليه وآله) ومِنْ بعده الأئمة الهداة الذي كان أبوه ثانيهم.
ومَنْ منا لا يرغبُ في أنْ يكون له ولدٌ كالقاسمِ بن الحسن(عليه السلام)!
لذلك مَنْ أراد أن يكون أولاده لا يخشون في الله المنون أصحاب بأسٍ وحنكةٍ وعلمٍ ومنطقٍ وحكمةٍ، عليه باتباع أهل البيت في كلِ تفاصيل حياته وحياة أولاده،فيربيهم على طريقة أهل البيت(عليهم السلام)، والتربية لا تكون بدايتها مع الولد بعد مولده بل قبل مولده بل قبل عقد نطفته وقبل زواج أبيه بأمه.
فليصلح الواحد منا حاله حتى يصلح حال أولاده، فمع بذل ما في الوسع في الإستقامة على نهج الأئمة(عليهم السلام) يكون الإنسان معذوراً أمام الله وأمام أطفاله، فلو وضعهم على الطريق الصحيح وشذ من بعد ذلك الأولاد لا يبقى لهم عذرٌ إذا تخلفوا عن ما أرشدهم إليه، وأما لو لم يفعل فهو محاسبٌ على ذلك، جعلنا الله وإياكم ممن يحسنُ تربيةَ نفسهِ وأولاده.
عبد الرضا الداروغة
٢٦ من ذي الحجَّة ١٤٣٩ للهجرة
قرية عراد – البحرين