بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربِّ العالمين، والصَّلاة والسَّلام على أشرف الأنبياء والمرسلين محمَّد وآله الطيبين الطاهرين.
شِعرُ هُدىً[1]
تأخذُ القصيدةُ بِأحاسِيسِ الشَّاعِرِ ومُتَذَوقِ الشِّعرِ بِما تحملُ أبياتُها مِن معانٍ وَصُورٍ وتشبيهاتٍ ومُقَارَباتٍ أدَبيَّةٍ فَيَنْفَعِلُ بِهَا ويَطْرَبُ لها. ومِنَ الشِّعرِ ما يُوجِدُ في النَّفسِ حركةً وانبعاثًا عن تحريضٍ وتحفيز كما في شِعر الحروب والاستنهاض لها ورفع وتقوية المعنويات من أجله. ومِنهُ ما تكون له القوَّةُ الأدبيَّةُ للسيطرةِ على النُّفوس وصياغتها على أُسُسِ أدبياتٍ وفلسفاتٍ خاصَّةٍ كما في قصائد التنظيمات والأحزاب والكيانات القائمة على نظريات فلسفيَّة ورؤى فكرية خاصَّة..
لكِنَّ شِعْرًا يَهدي إلى الوعي ويفتحُ طُرُقَ البَحثِ والنَّظرِ لِقَارئِه أو مُسْتَمِعِهِ دُونَ تَحريض ولا استِلاب ولا إطْرَاب، فهذا هو النَّادر منه العزيز.
في بعض الأيَّام ضُحىً أَسْمَعَني وَلَدي السَّيد علي (وقاه الله تعالى مِن شرور الفِتن) قصيدةً للأخ العزيز صاحب القريحة الأدبيَّة الصادقة الحاج حُسين ابن الحاج علي مِن آلِ خَلَفٍ (صان الله مهجته) في المرحوم العلَّامة الشَّيخ سُليمان ابن الشَّيخ محمَّد علي المدني (1359 – 1424 للهجرة) في تأبينه الثَّامن (نوَّر الله تعالى مرقده)، وكانت علاقتي بأبي عليٍّ حينها سطحية، ولم أكن قد قرأتُ أو سمعتُ له شِعرًا، فكانت (يا رحِلًا والليالي السُّودُ تَنْتَظِرُ) أوَّلها..
أَعَدْتُ التسجيلَ ثانيةً وثالثة، ثُمَّ أتبعتُ آخر المرَّات باتِّصالٍ طلبتُ فيهِ مِن شاعِرِها لقاءً لا غاية مِنه سوى الاستماع إلى ما يَحمِلُهُ في صَدْرِهِ عن الشَّيخ المدني (قدَّس الله نفسه)؛ فالقصيدةُ موجَةُ مُحيطٍ فَزَّ مِنها في داخلي ريحُ السُّؤال وأثارت في وجداني بواعث المعرفة.
التقيتُ أبا عليٍّ صباحَ يومٍ في مجلسِ دَارِه في جِد حفص لاستمع منه مُصغِيًا؛ فما ماجت به (يا راحِلًا) وقع في نفسي قلبًا قد امتزج في أبْهَرِهِ صِدقُ تعبٍ وقهرٍ وحسرةٍ وعزاءٍ..
غادرتُ.. ولم يُغادرني ما سمعتُ، بل سكنَ داخلي وما أهملتُ مقامه؛ فانبعثتُ باحثًا متعقِّبًا لكلِّ ما تقع عليهِ يداي مِمَّا كُتِبَ وقِيلَ في العلَّامة المدني (طاب رمسُه)، ومِن هنا بَدَأتْ في التَّوَطُّدِ صَدَاقتي بالأخ العزيز الحاج حسين (حفظه الله تعالى) وبِكُلِّ ما فَتَحَتْ لي أبْوابَهُ قَصيدَةُ (يا راحِلًا) بَعْدَ إطلالةٍ عليه تَكفِي تَارةً، وسياحةٍ تُرَوِّي جَدْباءَ في داخلي تارةً أخرى. وليس بغير الصِّدقِ وَأحَاسيسِهِ حَضَرَتْ في نَفْسي أُحْدُوثَةُ خَيرٍ بُذِلَ لشرَفِها مَا بُذِلَ مِنَ الغالي والنَّفيس.
قال:
يا راحلاً وقفَ التأريخُ منحياً ….. أمامهُ وإليهِ الموتُ يعتذرُ
مَرَّتْ ثَمانٍ وجرحُ القلبِ متقدٌ ….. ونارُ فقدكَ في الأرواحِ تستعرُ
كأنَّما الدَّهرُ لم يمضِ بنا أبدًا ….. وما استطال بنا مِنْ بَعدك العمرُ
فهذهِ لوعةُ “الإثنينِ” ماثلةٌ ….. في عينِ كلِّ محبٍّ دمعُها مطرُ
لكنَّها شَاخَتِ الأرواحُ واجدةً ….. وشابَ كلُّ فؤادٍ هَدَّهُ الكدرُ
يا بهجةَ الروحِ والدنيا مخالفةٌ ….. وسلوةَ القلبِ والأحزانُ تنهمرُ
أتيتُ أنثرُ أوجاعي وأسكبها ….. نهرًا بِكَفَّيكَ علَّ السَّيلَ ينحسرُ
هناك واقِعٌ فِعلًا يعيشه ابنُ خلفٍ، لا أقول في علاقته بالرَّاحل المدني (طاب رمسه)، بل هو واقعٌ يعيشه في وجودٍ لأثَرِهِ لم يزل قائِمًا في النَّاس على مختلف الأصعدة والأبعاد من حُبٍّ ومودَّةٍ.. ثقافةٍ وفكرٍ.. حكمةٍ وبعدِ نظرٍ، ومِن إرجاعٍ دائِمًا إلى أصول الروايات الشَّريفة الواردة عن أهل بيت العصمة (عليهم السَّلام)، وهو ما وجدتُه حقيقةً وواقعًا في إخْوَةِ وأبْنَاءِ العَلَّامة المدني (قدَّس الله نفسه).
فرضَ صدقُ الشَّاعرِ نفسَه فلم أرَ سِوَاه، بل تَشَخَّصَ في كُلِّ مَعنى أرَادَهُ في قصيدته، ومن آثار ذلك ما حَازَتْهُ مِن شَرَافَةٍ نَأتْ بِها بعيدًا عن كلِّ دنيٍّ، بل وحتَّى عن شائبة دنيٍّ، وها أنا كلَّما أعدتُ الاستماع إليها أخذتني في صدقها مُجَدَّدًا دون أن يداخلني شعورٌ بمللٍ أو ما في حكمه.
ثُمَّ إنَّ مِمَّا أحْدَثَهُ الشَّيخُ المَدَنِيُّ (رضوان الله تعالى عليه) في نفوس إخوانه وأبنائه وجوبَ تحمُّل المسؤوليَّة تجاه الإسلام وما يمليه من وظائف على المؤمنين، وهذا بالفعل ما نجده فيهم وقد انخرطوا طواعية في حمل المسؤوليَّة بصدق وإخلاص.
قال في (يا راحِلًا):
حبيبةَ القلبِ لم يرأف بها أحدٌ ….. تَيتَّمَتْ واحْتَوَاها اليأسُ والضجرُ
جدحفصُ بَعْدَكَ أحلامٌ ممزقةٌ ….. ودوحةٌ جفَّ فيها الماءُ والشجرُ
وباغتتها ذِئابُ الليل ثانيةً ….. وعينُ حُرَّاسِهَا أودَى بِهَا السَّهَرُ
وَرَوَّعَتْنَا أعاصير وزلزلة ….. وزاغ مِمَّا دَهَاهَا القلبُ والبصرُ
ومُذ حُمِلْتَ على الأعواد مرتحلًا ….. تَنَاهَبَتْنَا بِليلِ الوحشةِ الزمرُ
إنَّ هذا الأسى الَّذي يوثِّقُه الشَّاعِرُ الكريمُ في هذه الأبيات ليس مجرَّد كلمات تنفعل في نفسه لحظات وحسب، بل هي معان لها واقعها في حياته، وإنَّما يوثِّقها في القصيدة مُضمِرًا لحركةٍ مباركةٍ تتنفَّسُ الشَّيخ المدني (رحمه الله تعالى) في واقعِ تَحَمُّلِ الإخوان والأبناء لمسؤوليَّة الرسالة؛ فقَال:
إِيهٍ سُليمان لو لا عُصبة صَبَرَتْ ….. لَقُلْتُ مَاتَ على أدْواحِكَ الثَّمَرُ
مازال في الكأس بعضٌ من صبابتكم ….. كأنَّها التبرُ والياقوتُ والدُّرَرُ
مازال في الأذن رَجْعٌ من تلاوتكم ….. صدىً تعود به الأحكام والسورُ
مازالت الجُمَعُ الغَرَّاءُ حَاضِرَةً ….. عن كلِّ حَادثَةٍ في مَتْنِها خَبَرُ
ما زال في الحي نورٌ من طهارتكم ….. وطاهرٌ منك يحوينا فننجبرُ
وفتيةٌ آمنوا بالكهف واحتسبوا ….. ما غرَّهم عارضٌ ما بعده مطرُ
بل كانت الريح تعوي وهي عاصفةٌ ….. مفازة وعذاب مقبل عسرُ
أكرم بهم فتيةٌ في الكهف قد ظمأوا ….. لكنَّهم من كؤوس القوم ما سكروا
فالمسألة ليست مجرَّد شعرٍ ونظم، ولكنَّها روحٌ وحياةٌ تعيشها جد حفص بنسيج “فتية آمنوا بالكهف واحتسبوا” فتراموا بين واقعٍ يحملون مسؤوليَّة الإسلام فيه، وبين ضريحٍ يملأ طيبُه فضاء صدورهم، وهذا ما نراه ماثِلًا في قوله:
كم أشتهي الموت كي ألقاك ثانية ….. حتى متى بيننا لا يحكم القدرُ
أبا سليمان أفكاري مبعثرة ….. مشاعرٌ في مهب الشعر تنتثرُ
تفرُّ مني بأبيات معاندة ….. لو رمت أشطرها أهوي وأنشطرُ
جرحي وجرحك ما التاما ولا اندملا ….. لكنَّني شاعر بالحرف أنتحرُ
ألقي على مذبح الأشعار تمتمتي ….. ولا أسالم حرفي حين ينحسرُ
لا أحبس النَّار في صدري وأكتمها ….. يا سَاعَدَ اللهُ قلبًا فيك يصطبرُ
أبا سليمان هاذي رجع شقشقة ….. طال الزَّمان بها في الصدر تختمرُ
وفجرتها على الأوراق خاطرةً ….. وساقها الوجد إلَّا إنها عبرُ
قال ابنُ خلفٍ في (يا راحِلًا): “عذرًا سليمان شطَّ الحبرُ في ورقي”، وأقول للقارئ عذرًا؛ فقد فَرَضَتْ عَلَيَّ (يا راحِلًا) نفسها مُجدَّدًا، وإلَّا فالنيَّة كانت معقودةً على الحديث عن تميُّز أديبنا المُكرَّم بصدقٍ حاضرٍ في قصائده لا ينقطع، وأنَّه يكتب بانبعاثٍ خالصٍ مِن أحاسيسه الصَّادقة لا يتكلَّف صورةً ولا يستعير جمالًا، بل صوره من جمال صدقه، وهذا ما نعيشه مع قصائده واقعًا لا نتكلَّفه ولا نستعير حسَّه. ومِمَّا يأخذ بنواصي وجدانِنَا صدرُ نونيَّتِهِ الحُسينيَّة الَّتي باتت أيقونةً في مُشرَّف جد حفص.
إنَّ عـينًا مَا بَكَتْ رزءَ الحسينْ ….. حـَجَرٌ تِـلكَ وَمَـا تُـدْعَى بِـعَينْ
إنَّ ثَــغْـرًا مَـــا تَـغَـنَّى بِـاسْـمِهِ ….. مَــا تَــلا تَـوحِيدَ رَبِّ الـنَّشْأتَينْ
وأَكُــفًّا مَـــا هَــوَتْ لَاطِـمَـةً ….. بِـعَـزَاءٍ، أيُّ مَـعَـنى لِـليَدَينْ؟!
أيُّ قَــلْــب عَـــرَفَ اللهَ وَمَـــا ….. ضَـمَّ حُـبَّ السِّبْطِ بَينَ الجَنْبَتَينْ
لا أخال ما أرومه تصيبُ بيانَه أقلامُ النقَّاد وفحولُ الأدبِ؛ فهو إحساسٌ لا أجد له ضابطةً ولا لإحرازه قانونًا أو قاعدةً، ولكنَّه من القلب خرج فوَقَرَ في القلوب، ولو كان من اللسان لما تعدَّى الأذان حتَّى لو جرى على ألسن وألسن فلن يكون عن إحساسِ هِدايةٍ ووعي، وهذا هو ختام مقالتي؛ فقصائد أديبنا الحاج حُسين بن علي بن خلف (صان الله مهجته) نابعةٌ من صدقه وإخلاصه وعموم حُسن صفاته التي يحرص دائمًا على أن تكون على جادَّة إسلامنا العظيم، وليست مقولتي إلَّا عن معاشرةٍ وتَجْرِبَةٍ امتدتْ مع أبي عليٍّ لبضع سنوات مكثَّفة أرجو أن تدوم إلى حين رحيلي عن هذه الدنيا الفانية.
السَّيد محمَّد بن السَّيد علي العلوي
كتابتها في 12 شعبان 1445 للهجرة، وأنشرها في 27 ربيع الثَّاني 1446 للهجرة
البحرين المحروسة
……………………………….
[1] – يُدشِّنُ (إن شاء الله تعالى) أديبنا الحاج حسين ابن الحاج علي خلف ديوانه (ابن خلف) في ليل الجمعة 28 ربيع الثَّاني 1446 للهجرة، في صالة المُشرَّف في جد حفص مِن مملكة البحرين.