بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربِّ العالمين، والصَّلاة والسَّلام على أشرف الأنبياء والمرسلين محمَّد وآله الطيبين الطاهرين.
تتخذ بعضُ الحوازت العلميَّة (إجراءات عقابية) مع مَن يُخلُّ من الطلبة بالتزاماته تجاه الحوزة، مثل التأخير والغياب، وعدم العناية بتأدية الواجبات، وما نحو ذلك مِمَّا يُعدُّ خرقًا للنظام العام. وتتراوح العقوبات بين رسائل إنذار شفهية وتحريرية، واقتطاع من المُخصَّص الشَّهري، وما إلى ذلك مِمَّا يُرجى منه الرَّدع عن الإخلال بالالتزامات المعروفة.
منذ سنوات طويلة والإخوة في إدارة حوزتنا يطرحون فكرة (الإجراءات العقابيَّة)، وفي كلِّ مرَّة لا نتوافق عليها؛ لسبب فارد، وهو قناعتنا بأنَّ طالب العلم لا ينبغي أن يُعاقب؛ فهو إمَّا أن يكون طالبَ علمٍ سِمَتُهُ الالتزام دُون إلزام، وإلَّا فهو لن يكون طالبَ علمٍ، ولن يجدي حينها لو التزم عن إلزام.
روى الشَّيخ الكليني بسنده عَنْ إبراهيمَ بنِ عَبْدِ الحميد عَنْ أبي الحسنِ مُوسَى (عليهِ السَّلامُ)، قالَ: “دَخَلَ رَسُولُ اَللَّهِ (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ) اَلْمَسْجِدَ فَإِذَا جَمَاعَةٌ قَدْ أَطَافُوا بِرَجُلٍ، فَقَالَ: مَا هَذَا؟
فَقِيلَ: عَلاَّمَةٌ!
فَقَالَ: وَمَا اَلْعَلاَّمَةُ؟
فَقَالُوا لَهُ: أَعْلَمُ اَلنَّاسِ بِأَنْسَابِ اَلْعَرَبِ وَوَقَائِعِهَا وَأَيَّامِ اَلْجَاهِلِيَّةِ وَاَلْأَشْعَارِ اَلْعَرَبِيَّةِ.
قَالَ: فَقَالَ اَلنَّبِيُّ (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ): ذَاكَ عِلْمٌ لاَ يَضُرُّ مَنْ جَهِلَهُ وَلاَ يَنْفَعُ مَنْ عَلِمَهُ. ثُمَّ قَالَ اَلنَّبِيُّ (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ): إِنَّمَا اَلْعِلْمُ ثَلاَثَةٌ؛ آيَةٌ مُحْكَمَةٌ، أَوْ فَرِيضَةٌ عَادِلَةٌ، أَوْ سُنَّةٌ قَائِمَةٌ. وَمَا خَلاَهُنَّ فَهُوَ فَضْلٌ”[1].
وفي مُرسَل عبد السَّلام بن سالم، عَنْ أَبِي عَبْدِ اَللَّهِ (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قَالَ: “حَدِيثٌ فِي حَلاَلٍ وَحَرَامٍ تَأْخُذُهُ مِنْ صَادِقٍ خَيْرٌ مِنَ اَلدُّنْيَا وَمَا فِيهَا مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ”[2].
إنَّ السَّاعي لطلب خصوص هذا العلم؛ وهو الحلال والحرام من آية محكمة، أو فريضة عادلة، أو سُنَّة قائمة هو موضوع الأحاديث الواردة في فضل طالب العلم، ومِن عُمَدِها ما رواه شيخنا الكليني بسنده عَنِ القدَّاح، عَنْ أبي عبد اللَّه (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ): “مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَطْلُبُ فِيهِ عِلْمًا سَلَكَ اَللَّهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى اَلْجَنَّةِ. وَإِنَّ اَلْمَلاَئِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ اَلْعِلْمِ رِضًا بِهِ، وَإِنَّهُ يَسْتَغْفِرُ لِطَالِبِ اَلْعِلْمِ مَنْ فِي اَلسَّمَاءِ وَمَنْ فِي اَلْأَرْضِ حَتَّى اَلْحُوتِ فِي اَلْبَحْرِ. وَفَضْلُ اَلْعَالِمِ عَلَى اَلْعَابِدِ كَفَضْلِ اَلْقَمَرِ عَلَى سَائِرِ اَلنُّجُومِ لَيْلَةَ اَلْبَدْرِ. وَإِنَّ اَلْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ اَلْأَنْبِيَاءِ، إِنَّ اَلْأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلاَ دِرْهَمًا، وَلَكِنْ وَرَّثُوا اَلْعِلْمَ، فَمَنْ أَخَذَ مِنْهُ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ”[3].
ثُمَّ فإنِّ طالب العِلم إنَّما هو القاصِد دائمًا إلى ثالث الأصناف المُعيَّنة في مرفوعة عليِّ بنِ إبراهيمَ إِلَى أَبِي عَبْدِ اَللَّهِ (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)، قَالَ: “طَلَبَةُ اَلْعِلْمِ ثَلاَثَةٌ فَاعْرِفْهُمْ بِأَعْيَانِهِمْ وَصِفَاتِهِمْ؛ صِنْفٌ يَطْلُبُهُ لِلْجَهْلِ وَاَلْمِرَاءِ، وَصِنْفٌ يَطْلُبُهُ لِلاِسْتِطَالَةِ وَاَلْخَتْلِ، وَصِنْفٌ يَطْلُبُهُ لِلْفِقْهِ وَاَلْعَقْلِ. فَصَاحِبُ اَلْجَهْلِ وَاَلْمِرَاءِ مُوذٍ مُمَارٍ مُتَعَرِّضٌ لِلْمَقَالِ فِي أَنْدِيَةِ اَلرِّجَالِ بِتَذَاكُرِ اَلْعِلْمِ وَصِفَةِ اَلْحِلْمِ، قَدْ تَسَرْبَلَ بِالْخُشُوعِ وَتَخَلَّى مِنَ اَلْوَرَعِ، فَدَقَّ اَللَّهُ مِنْ هَذَا خَيْشُومَهُ وَقَطَعَ مِنْهُ حَيْزُومَهُ. وَصَاحِبُ اَلاِسْتِطَالَةِ وَاَلْخَتْلِ ذُو خِبٍّ وَمَلَقٍ، يَسْتَطِيلُ عَلَى مِثْلِهِ مِنْ أَشْبَاهِهِ، وَيَتَوَاضَعُ لِلْأَغْنِيَاءِ مِنْ دُونِهِ، فَهُوَ لِحَلْوَائِهِمْ هَاضِمٌ وَلِدِينِهِ حَاطِم، فَأَعْمَى اَللَّهُ عَلَى هَذَا خُبْرَهُ وَقَطَعَ مِنْ آثَارِ اَلْعُلَمَاءِ أَثَرَهُ.
وَصَاحِبُ اَلْفِقْهِ وَاَلْعَقْلِ ذُو كَآبَةٍ وَحَزَنٍ وَسَهَرٍ، قَدْ تَحَنَّكَ فِي بُرْنُسِهِ وَقَامَ اَللَّيْلَ فِي حِنْدِسِهِ. يَعْمَلُ وَيَخْشَى، وَجِلًا دَاعِيًا مُشْفِقًا مُقْبِلًا عَلَى شَأْنِهِ، عَارِفا بِأَهْلِ زَمَانِهِ، مُسْتَوْحِشًا مِنْ أَوْثَقِ إِخْوَانِهِ. فَشَدَّ اَللَّهُ مِنْ هَذَا أَرْكَانَهُ، وَأَعْطَاهُ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ أَمَانَهُ“[4].
إنَّ لطالب العلم وقفات دائمة مع نفسه، يراجعها ويحاسبها، ولا يتأخَّر عن تقويمها وتصحيح اخطائها، وليس بطالبِ عِلمٍ مَن يُكابِرُ ويُعانِدُ، وليس منهم مُصِرٌّ عن سلوكٍ خاطئ ومسلكٍ مرجوح، بل طالب العلم صاحبُ همَّةٍ في مساعي الخير والصلاح لنفسه ولغيره، ولا يكون كذلك غير الحُرِّ عزيزِ النَّفس.
مِن أشهر الهجاء قول المتنبي في كافور الإخشيدي[5]:
أَكُلَّما اِغتالَ عَبدُ السوءِ سَيِّدَهُ … أَو خانَهُ فَلَهُ في مِصرَ تَمهيدُ
صارَ الخَصِيُّ إِمامَ الآبِقينَ بِها … فَالحُرُّ مُستَعبَدٌ وَالعَبدُ مَعبودُ
نامَت نَواطيرُ مِصرٍ عَن ثَعالِبِها … فَقَد بَشِمنَ وَما تَفنى العَناقيدُ
العَبدُ لَيسَ لِحُرٍّ صالِحٍ بِأَخٍ … لَو أَنَّهُ في ثِيابِ الحُرِّ مَولودُ
لا تَشتَرِ العَبدَ إِلّا وَالعَصا مَعَهُ … إِنَّ العَبيدَ لَأَنجاسٌ مَناكيدُ
ما كُنتُ أَحسَبُني أَحيا إِلى زَمَنٍ … يُسيءُ بي فيهِ كَلبٌ وَهوَ مَحمودُ
فالعبدُ رهنُ إشارة سيده ما دام قائمًا على رأسه بالعصا، وبيده لقمته وكسوته، وهو أسرعُ شيءٍ إلى العصيان والتمرُّد بمجرَّد أن يُرْخَى حَبْلُ قَودِهِ. وبذلك فالمملوك الَّذي يُباع ويُشترى قد يكون عبدًا من الوجه الشَّرعي، غير إنَّه في واقع أمره حرٌّ؛ إنَّما العَبْدُ الَّذي لا يستقيم على الطريقة إلَّا أن يُقام عليه بالعصا ويُستَذلُّ بالمال، وهذا قد لا يكون مملوكًا بالمعنى الشَّرعي!
إنَّ الحُرَّ عزيزَ النَّفس غنيٌّ عن مُلزِمٍ يُلزِمُه؛ فهو مُلتزِمٌ بالقوانين والحدود بمجرَّد معرفته بها وكونه في حدود حكمها، ولا يُعرِّض نفسه لإعابة أو مهانة، لذا فهو لا يُخالف قوانين المرور، ولا قوانين جهة العمل والوظيفة..، وإن غفل مرَّة فبنظرةٍ يعود إلى رشده واستقامته، وحتَّى هذه النَّظرة تثقل عليه ويشعر معها بكآبة وضيق.
أمَّا الضعيف من هذه الجهة فَهيِّنة عليه نفسه، ولذلك احتاج لِرَدْعِهِ وإشْعَارِهِ بخطئه إلى عقابٍ، وبمجرَّد التَّراخي في تطبيق قانون الردع في حقِّه وجدتَه يعود لمخالفته وسوء التزامه.. وفي حالات أخرى قد يتمرَّد على الرَّدع إلَّا أن يكون من ذي سلطة قادر على إيقافه عند حدَّه، وحينها يخاف المخالفة.. أو يعتاد الإهانة والتعرض إلى العقاب، وعند ذاك فلا رجاء من ورائه.
الدَّعوى: طالبُ العلمِ حُرٌّ عزيزُ نفسٍ:
إنَّ الموضوع في مسألتنا هو طالب العلم الَّذي من شأنه أن يكون في موضع التصدي لشؤون العِباد مِمَّا يتعلَّق بدينهم من مختلف جهات العقيدة والفِقه والأخلاق والسلوك، ولا نعني الأعم منه المشمول في قوله (صلَّى الله عليه وآله): “طَلَبُ اَلْعِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ. أَلاَ إِنَّ اَللَّهَ يُحِبُّ بُغَاةَ اَلْعِلْمِ”[6].
إذا اتَّضح ذلك فإنَّ الركيزة الَّتي يقوم عليها عمل طالب العلم إنَّما هي التزام المؤمنين واتباعهم لنصوص الثقلين عن عقيدة وتسليم، وكيف لغير الحرِّ صاحب النَّفس العزيزة أن يطلب من غيره صدقَ الالتزام دون استعمال العصا والمال؟
الحرُّ يصنع أحرارًا، والعبدُ يجد للعبودية مساحةً في نفوس الأحرار ويعمل على تغليبها ونشر سطوتها حتَّى تكون في نظرهم حريَّةً وعِزَّة أوهمهم إيَّاها!
لِذا فإنَّ طلب العلم بهذا المعنى الخاص لا يليق بغير الأحرار، أو من يتطلعون لتحرير أنفسهم من عبوديَّة العناد والتمرُّد، والدعة والتراخي.
دعوى أنَّ العقاب طريق لصناعة الأحرار:
لا أجد في مباني قناعاتي ما يميل بي إلى هذه النظرية في خصوص طالب العلم، مع اتفاقي في الحاجة إلى تقنين يُبَينُ أهميَّةَ الالتزام لا سيَّما في سلوك طالب العلم ومنطلقات تفكيره وعموم مبادئه، وبهذا التقنين يكتفي الحرُّ عزيزُ النَّفس فيمضي دون حاجة إلى التفكير في قانون رادع أو ما شابه. ومن هنا نقف على أنَّ لهذا الطريق خصوصياته الَّتي قد لا تناسب الأكثر.
إنَّنا لا نُنكر نفع القوانين الرادعة في تقويم الكثيرين من المنتسبين للحوزات العلميَّة، ولكنَّنا نُصرُّ على أنَّ هذا الَّذي لا يلتزم إلَّا أن يُلزَم بتلكم القوانين سوف يُعامِل العِباد على غير المسالك السويَّة.. منها شدَّة إعابته لهم وحمل الشين عليهم، ومنها اعتماده على مبادئ ما يسمَّى بالبرمجة وتقنياتها وفنون الإقناع وأساليبه وغير ذلك مِمَّا يُمتطى للتسلُّط على النفوس وخنق العقول!
أمَّا الحرُّ فيحترم العباد وينأى بنفسهم وبهم عن سلوك البرمجة والتلقين وما في حكمهما.
المجتمع وواقع الحياة:
نقطع بقيام واقع الحياة على تكريس العبودية في النفوس، ومن الصعب أن يتخلَّص الإنسان من هذه الحالة الحاكمة، ولكنَّنا نقطع أيضًا بوجود من لا يخضع لها، كما ونقطع بوجود كثيرين مِمَّن يتوسَّم فيهم العودة إلى رُشد عِزَّة النَّفس مع شيء من العمل التربوي الرصين.
ومن هنا نقول: إنَّ من أهم المبادئ العلميَّة التربوية الَّتي ينبغي قيامها شاخصة في مدارس العلم مبدأ إنهاض الحريَّة وعزَّة النفس في طلبة العلم بما يأخذهم بقدم ثابتة على طريق الالتزام عن حِكمَةٍ، ورصانةٍ، ونظرٍ وازن.
ونُصِرُّ على كون قوانين العقاب والرَّدع من عُمَدِ الأخطاء الَّتي تخلق واقعًا تربويًّا وفكريًّا وسلوكيًّا غاية في التعقيد.
ومِمَّا تقدَّم يُفهم بأنَّ الدعوة ليست لترك الحبل على الغارب، بل على العكس من ذلك، فإنَّ العمل على مبدأ إنهاض الحريَّة والعزَّة في النفوس من أصعب المهام وأدقِّها وأشدِّها خطرًا.
السَّيد محمَّد السَّيد علي العلوي
3 ربيع الثَّاني 1446 للهجرة
البحرين المحروسة
……………………………………..
[1] – الكافي – الكليني – ج1 ص32.
[2] – المحاسن – البرقي – ج1 ص229.
[3] – الكافي – الكليني- ج1 ص34.
[4] – الكافي – الكليني – ج1 ص49.
[5] – الموسوعة الحرَّة (ويكيبيديا): “أبو المسك كافور الإخشيدى، لقبه الليثي السوري (905 – 968 م) كان من رقيق الحبشة وأصبح رابع حكام الدولة الاخشيدية في مصر والشام، كان الحاكم الفعلي لمصر من 946 بعد وفاة محمد بن طغج الإخشيد المؤسس الاول للدولة الإخشيدية في مصر، وأصبح كافور سنة 966 م على مصر حيث حكمها ثم توسع إلى بلاد الشام. دام حكمه لمدة 23 سنة وهو صاحب الفضل في بقاء الدولة الإخشيدية في مصر”.
[6] – الكافي – الكليني – ج1 ص30.