السَّفرُ للدِّرَاسَةِ خِيَارٌ شَخصِيٌّ يتعلَّقُ بِهِ مَصيرُ المُجتَمَعِ

بواسطة Admin
1 تعليق 422 مشاهدة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربِّ العالمين، والصَّلاة والسَّلام على أشرف الأنبياء والمرسلين محمَّدٍ وآلِهِ الطيبين الطاهرين

السَّفرُ للدِّرَاسَةِ خِيَارٌ شَخصِيٌّ يتعلَّقُ بِهِ مَصيرُ المُجتَمَعِ

في البداية لا بدَّ لنا من التصريح الواضح بانحسار جِهَة الكُليَّة في الأحكام الكليَّة العامَّة في العلوم الإنسانيَّة مِنْ قَبيل علم النفس وعلم الاجتماع، فالباحث في مثل هذين العلمين ينتهي إلى قواعد وأحكام، ولكنَّه يبقى قاصرًا عن تقريرها قواعِدَ عامَّة مِثل (كلُّ مسكر حرام)، و(كلُّ ظهور حجَّة)؛ والوجه في ذلك هو أنَّ القواعد في عِلمَي النَّفس والاجتماع إنَّما هي بحَسَب الفرد الغالب استقراءً وتحليلًا، وهو ما سيتضح عن قريب إن شاء الله تعالى.

قال في مستدرك وسائل الشِّيعة: “في ديوانٍ يُنسَب إلى أمير المؤمنين (عليه السَّلام):

تَغَرَّبْ عَنِ الْأَوْطَانِ فِي طَلَبِ الْعُلَى *** وَسَافِرْ فَفِي الْأَسْفَارِ خَمْسُ فَوَائِدَ

تَفَرُّجُ هَمٍّ وَاكْتِسَابُ مَعِيشَةٍ *** وَعِلْمٌ وَآدَابٌ وَصُحْبَةُ مَاجِدٍ

فَإِنْ قِيلَ فِي الْأَسْفَارِ ذُلٌّ وَمِحْنَةٌ *** وَقَطْعُ الْفَيَافِي وَارْتِكَابُ الشَّدَائِدِ

فَمَوْتُ الْفَتَى خَيْرٌ لَهُ مِنْ مَعَاشِهِ *** بِدَارِ هَوَانٍ بَيْنَ وَاشٍ وَحَاسِدٍ

كثيرًا ما نقعُ في مشاكِل بسبب الإصرار على أحكام (بالمعنى الأعم) أُخِذَتْ في ثُبُوتِهَا ظُرُوفٌ كانَتْ قائِمَةً في زمن مُعَين ولم تكن كذلك في زمانِنا، وبالرغم مِن إطلاق التعاليم والإرشادات الواردة عن أهل بيت الوحي (عليهم السَّلام) لتشمل كلَّ زمانٍ ومكان إلَّا أنَّ هذا الإطلاق قد ضُرِبَ في مقتل عظيم بعد أن تسلط الإنسانُ بعبثه وعمق جهله على السُنَنِ الطبيعيَّة مُستبدلًا إيَّاها بما تفتق عنه جهده الفكري القائم على نظريات اختصار الزمن، وكان لكلِّ ما أنتجه جُهدُ البَشَرِ آثاره المباشرة وغير المباشرة على صحة الإنسان الذهنية والنفسية والجسدية، وعلى علاقاته الاجتماعيَّة وأساليبه التربويَّة وغير ذلك.

عندما يحثُّ أئمة الهُدى (عليهم السَّلام) على أكل وشرب أصناف معيَّنة مِنَ الأطعمة والأشرِبة فهذا الحثُّ منهم (عليهم السَّلام) مأخوذٌ فيه حركة الفرد اليومية وأوقات نومه واستيقاظه، وكون تلك الأطعمة والأشربة طبيعيَّة بدون إضافات كيميائيَّة وما نحوها، بل حتَّى في الجانب الفقهي نرى قيام البرنامج اليومي للإنسان على مواقيت الصلاة، كما وتبقى له السلطة في تكييف يومه بما يناسب عباداته المفروضة، فالحاكميَّة لأحكام الشرع، وكل شيءٍ محكوم بها وتحت سلطتها.

لذا؛ فإنَّ العاقل لا يأخذ بما ورد عنهم (عليهم السَّلام) في خصوص التعاليم والإرشادات دون ملاحظة الظروف المرضيَّة لله تعالى وما جرى عليها بعد عبث الإنسان وتسلطه بجهله على قوانين الحياة الطبيعيَّة[1].

مِنَ الموارد المهمَّة لعلاقتها بموضوع المقال مورد استعمال كلمة (السفر) في لسان ما قبل التقسيمات الجغرافيَّة السياسيَّة وقبل وسائل النقل التي تعتمد على إحراق الوقود، فالسَّفر يعني أحَدَ أمرين؛ اوَّلهما الانتقال من منطقة إلى أخرى تبعُد عنها بعدًا تلزم منه المشقَّة في العودة قبل أخذ فترة من الراحة المُعتَبرة، ولذا كان مَن ينتقِل مِنَ الدراز إلى الماحوز لا يعود إلَّا بعد أيَّام يقضيها في الماحوز، بل يُقال في بعض الحالات: (وقد هاجر فلانٌ الدرازي إلى الماحوز طلبًا للعلم)، هذا والحال أنَّ المسافة بين المنطقتين لا تتجاوز (18 كيلو متر)!

بل وكان انتقال بعض العلماء من منطقة إلى أخرى في حدود بلادنا البحرين لإقامة الجمعة داعيًا إلى الإقامة في المنطقة المقصودة، بل ويُزوَّجُ مِنها أيضًا؛ فالانتقال في تلك الأزمنة كان بالوسائط الطبيعيَّة مِن حمير، وخيول، وبغال، وجمال.

أمَّا ثاني الأمرين فهو السَّفَرُ بِمَعْنَى قَطْعِ المَسَافَةِ الشَّرعيَّة، وتترتَّبُ عليه أحكام خاصًّة في لو كان قاصدًا لقطعها وفي ضمن شروط معيَّنة مذكورة في محلِّها.

تشوشَّتْ الأذهان بعد صرف اللفظ قسرًا عن معناه إلى معنى قطع الحدود السِّياسيَّة بما يوجب ختم جواز السفر بختم الخروج، أو أن يكون الانتقال بالطائرة من منطقة إلى منطقة أخرى مِن نفس البلد أو بما يستغرق الساعات لو كان بالسَّيارة أو القطار كما هو في الحال في مثل الجمهورية الإسلامية في إيران. وقد أثَّر هذا التشويش على النظر الفقهي لقلَّة مِن العلماء إذ ربطوا حكم القصر والإفطار بالمشقَّة والتعب المنفيين مع توفُّر الطائرة ووسائل النقل المريحة!

والمهمُّ في المقام الانتباهُ إلى أنَّ السَّفر ليس محصورًا في قطع الحدود الجغرافيَّة السِّياسيَّة بما يوجب ختم جواز السَّفر خروجًا ودخولًا، ولكنَّ الإنسان بعد عبثه في سُنن الحياة الطبيعيَّة قارب بين المناطق بوسائل النقل الحديثة، ورسم الحدود الجغرافيَّا، وسنَّ قوانين تنظيميَّة خدمةً للهيمنة السِّياسيَّة والاقتصاديَّة والعسكريَّة، وسهُل بذلك سريانُ كُلِّ خفيف يشبه الذباب والبعوض في ما بين مدن وقرى الدولة السِّياسيَّة الواحدة ، وانزوى العلم فبرزت الحواضر في قبال تراجع ما في قبالها.

وفرة العلماء وانتشارهم في بلدانهم:

إذا اتَّضحتْ الفكرةُ العَامَّةُ التي أردتُها حاضِرَةً في هذه المقالة، قلتُ:

في بلد مثل بلدنا البحرين كان في كلِّ منطقة علماؤها الأعلام، ودونك لؤلؤة البحرين لفقيه العِترة الطاهرة شيخنا البحراني يوسُف بن أحمد بن إبراهيم مِن آل عصفور (نوَّر الله مرقده الشريف) فقد جمع فيه ما وقع في إجازته الشريفة لِـ”نورَي العين والناظر، وبهجتي القلب والخاطر” الشيخين العصفوريين؛ خلف ابن الشَّيخ عبد علي، وحُسَين ابن الشَّيخ محمَّد، مِن أفاضل الفقهاء وأكارم العلماء البحرانيين (قدَّس الله نفوسهم)، فكان منهم القدمي والمقابي والبلادي والماحوزي والسماهيجي، وغير ذلك ممَّا تثبت به النِّسبة إلى بلدة وقرية في نفس البحرين التي لم تكن مساحتها لتتجاوز (740 كيلو متر)، والمأهول منها لا يتجاوز الثُلُثُ من مساحتها! ومثل البحرين كانت القطيف والأحساء، والعراق وإيران، ولبنان والهند وغيرها من الأوطان والبلدان مِن حيث انتشار العلماء مِن أهل نفس البلد، وارتباطهم جميعًا بِعَصَبٍ قوي هو عصَبُ الإجازة في الرواية[2]، وكانوا يُسافرون مهاجرين يقصد بعضهم بعضًا وكلُّ واحد منهم أستاذٌ مِن جهة وتلميذٌ مِن جهة أخرى، فسفر العالم في تلك الأزمنة كان لطلب ما ينقصه مِن علوم وفنون، ولإعطاء ما عنده مِنها لِمَن يطلبها، ومحلُّ الشَّاهِد هو أنَّ المُهاجِر لطلب العلم يُهاجِرُ فقيهًا عالِمًا قد تأسَّسَ ونَضَجَ في بلده على أيدي علمائها وأفهام فقهائها، وتأمُّلُ ذلك بما يلي:

مِن الثَّابت في البحوث العلميَّة المعتَبَرة تأثير البيئة الطبيعيَّة والسياسيَّة والاقتصاديَّة في الأمزجة والثقافات والسلوكيات[3]، وقد قيل بأنَّ الإنسان ابنُ بيئته، لذا فمِن الأهميَّة بمكان أن يسافِرَ البحرانيُّ بحرانيًّا وأن يبقى بحرانيًّا ويرجع إلى البحرين بحرانيًّا، وهذا في غاية الصعوبة ما لم يكن قد نشأ وكبُر ونَضَجَتْ قواه الإدراكيَّة في بلده وبحسب بيئته بما يُمَكِّنه من التمييز ومِن ملاحظة تأثُّرِه الواقعي بغيره وبما ليس من طبائع وسجايا وأصول بيئته الأصل، وبالمقابل فإنَّ سفره قبل الفهم والنضج يجعله عرضة إلى التلبُّس والتطبُّع بصفات الغير ثُمَّ يرجع بها إلى بلده لينطلق بمشروع مِن المشاكل والأزمات، لا لسوء ما تطبَّع به وتلبَّسه، ولكن لعدم مناسبته لما عليه قومه. فافهم وتأمَّل رعاك الله تعالى وحماك من العجلة.

مسألة القوَّة والتقدير الخاص للنفس:

لو أنَّنا نلاحظ البريطاني إذا سافر لأي بلد غير بريطانيا لوجدناه يؤثِّر في غيره ولا يتأثَّر بغيره، فهو بريطانيٌّ ويبقى بريطانيًّا دون تأثُّر بثقافة أخرى مهما كانت؛ والسرُّ في ذلك الإكبار العظيم مِن البريطاني لبريطانيته، وسواء كان ذلك بدافع قومي جاهلي أو غيره فلا فرق من جهة النتيجة والمُحَصَّلة.

في المقابل نرى مَن يسافر إلى بريطانيا لا سيَّما إذا كان من خارج أوربا والولايات المتحدَّة الأمريكيَّة سرعان ما يتقمَّص البريطانيَّة في كلامه وملبسه ومشيته ومشربه وجلسته وطريقة تنزُّهه وغير ذلك.

إنَّها معادلة (العبد والسَّيد) ولا شيء سواها.

يعتقد النَّاس بأنَّ العبوديَّة مقصورة على ما تتعين بقوانين الرق والعبودية الخاصَّة، وهذا صحيح مِن جهة التقنين وإقرار الحقوق والواجبات، غير أنَّ العَبدَ يبقى عبدًا؛ حتَّى لو لم يكن ضِمن الدائرة الخاصَّة لقوانين الرق والعبودية؛ فالعبد هو مَن يرى نفسه تحت غيره، والحرُّ مِن لا يرى فوقه غير الله تعالى ومن يتَّصل به مِنَ أنبياء ورسُل وأوصياء (صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين)، ولا يعني ذلك أن يرى نفسه فوق غيره من سائر العِباد، بل المعنى أن لا يراها تحت غيره مهما كان إلَّا بالتَّقوى.

مِثَالٌ خَاطِفٌ: لو أنَّ اللبناني الذي يسكن قرية نائيَّة من لبنان جيء له بخبر مقتل الإمام الحسين (عليه السَّلام) في كربلاء وبالروايات الواردة في وجوب إحياء أمره وبكائه والجزع عليه (صلوات الله وسلامه عليه)، فإنَّه سينفعل ويتأثَّر ويقيم العزاء بحسب ما يوافق بيئته ونشأته اللبنانيَّة القرويَّة، ومِن المفترض أن لا تتأثَّر طريقته في إحياء ذِكرَى الفاجِعة في ما لو زار بلدًا شيعيًّا خارج لبنان، كما وأنَّ أهل ذلك البلد لا ينبغي لهم أن يتأثَّروا بطريقة إحياء اللبناني للذكرى، وكلٌّ مِن أهل البلدين يتأطَّرُ بما ورد عن أئمَّة الهُدى (عليهم السَّلام) ثُمَّ تظهر هويتُه الخاصَّة مُحدَّدة ومحكومة بالنصوص الشريفة.

يستسهل كثيرون استيراد المظاهر الخارجية في مثل موارد إحياء ذكر الطاهرين (عليهم السَّلام)، والحقُّ أنَّ هذا الاستسهال يكشف عن كون الأصول الثقافيَّة الناشئة عن البيئة الخاصَّة مغفولًا، بل ولا خطور له في البال أصلًا ولو طيفًا!

ثُمَّ أنَّ نفسَ مثل هذا الاستسهال ينشأ عن شعور عميق بعدم الرضا عن الواقع الثَّقافي الخاص، وعدم الرِّضا هذا يتولَّد عن مجموعة مُعقَّدة مِن المناشئ والأصول نفهمها إجمالًا بملاحظة عدم استيراد مِثل البريطاني مِن غيره إلَّا أن يراه فوقه وهو تحته. ولا تذهب بك المذاهب فتتوهم أنَّنا نقول بكمال الشعوب في نفس ثقافاتها فلا تحتاج لاستيراد ثقافات من خارج حدودها، فهذا وهم مدفوع بمجرَّد التنبُّه إلى أنَّ طلب الكامل ينبغي أن يكون تحت حاكميَّة نفس الأصول والمناشئ الثَّقافيَّة الخاصَّة لكلِّ شعبٍ وقومٍ. فافهم رعاك الله تعالى.

لا بأس بالاستغراب، بل والإنكار لما طرحناه لو كان مِن العامَّة، أمَّا مِنَ العلماء وذوي النظر فغير مقبول البَتَّة؛ لا سيَّما وهم مِن أهل المنطق والأصول والقدرة على التحليل والإرجاع، واستشراف ما يمكن أن يعرُض على الإنسان بالنظر في ما يعرض هو عليه، وقد قال رسول الله (صلَّى الله عليه وآله): “المَرْءُ على دِينِ خليلِهِ وَقَرِينِه”[4].

خصوصيَّة الهويَّة في زمننا المعاصر:

لم يعش المقابي أو الشاخوريُّ أو الماحوزيُّ قلقًا على اضمحلال هوياتهم وتراجع ثقافاتهم الخاصَّة لتحديات تستهدف ذلك عينًا.. نعم كانوا قد واجهوا تحديات اصطلام وجودهم، ولكنَّ الشيطان لم يكن حينها قد تطور تفكيره الملعون إلى مثل فكرة العولمة! وهي الفكرة التي تقوم في أصل جوهرها على حاكمية وسلطة الأقوى؛ ماليًّا، وإعلاميًّا، وعسكريًّا..

لفتة خاطِفة: لم نكن لنهتم إلى لبس البحراني للغترة على طريقة (جريمبة)، ولكنَّنا اليوم نؤكِّدُ على ضرورتها وضرورة الرجوع لكلِّ ما يُؤكِّد فيِنا تاريخنا الثَّقافي لنمتد مِن خلاله لصناعة واقعنا ومستقبلنا. أفهِمْتَ يرحمُكَ الله؟

التكون الاجتماعي للعقليَّة الحزبيَّة:

الحِزْبُ في المُصْطَلَحِ السِّياسي طَورٌ تَنظِيميٌّ لسلطة (الأنا) وشهوة التفرَّد والسيطرة، فما نراه هو تنظيم لاستبداد الإنسان واندفاعه الدائم لجمع وتكوين القواعد الأنصار والمحبِّين، ومن هنا نجد مدى انتظام أبناء الحزب في سلاسل ثقافيَّة وفكريَّة واحدة، وما إنْ تسنح الفرصة للإنسان إلَّا وسارع لاقتناصها بتنظيم حزبي بشكل من الأشكال، حتَّى لو نفى عنه صفة الحزبيَّة.

ثُمَّ أنَّ فكرة التنظيم الحزبي تأتي في كثير من الأحيان، بل في الغالب مِن قصد وإرادة مواجهة الآخر المقابل أيًّا كان شكلُ وجوده، ففكرة الحزب أوَّلًا، ومن بعد ذلك سلوك التحزُّب واقِعٌ يتَّسِعُ ويضيق بحسب مجموعة مهمَّة من العوامل، فحزبيَّة البعث العراقي في عهد حكمه ضيَّقةٌ في المجتمع بحيث لا تتَّسِع دائرتُه إلى غيره، وفي نفس الحقبة كان تشكُّل الأحزاب في العراق محكومًا بالهجرة والعمل لغاية الإطاحة بالبعث الحكام، فكان العراقي في المهجر مُردَّدٌ دائِمًا بين مجموعة من الأحزاب، وإن لم يكن كذلك فهو حزب جديد في طور التكوُّنِ والنشوء، وإلَّا فلا قيمة له ولا اعتبار.

عندما تشتدُّ وتيرة التشكُّلات الحزبية في ظروف تقضي بضيق دائرتها تنشأ عقلية المصادرة والخوف والقلق من الآخر دائمًا؛ فالأمر كما هو واضح سيطرة ومساحات جماهيريَّة ومغالبة في ميدان الواقع.

أمَّا في المجتمعات المنفتحة والمطمئنة لاستقرارها في ظلِّ حزب أو حزبين فإنَّ غالبية النَّاس فيها ينشغلون بأنفسهم بعد قهرهم العميق بحكومة الحزب أو الحزبين، فلا يبقى للإنسان هناك غير التفكير في نفسه.. ومخادعة النفس بمعارضة الحكم أو ما شابه.

يعيش أهلُ هذه المجتمعات أو تلك انسجامًا طبيعيًّا مع الواقع الثقافي والفكري والسلوكي كلٌّ مع مجتمعه، وأي حركة إصلاحيَّة أو تصحيحيَّة تخرج من رحم المجتمع فهي صحيحة وإن لم تنجح، وأيُّ تدخل من غير أهل المجتمع خاطئ وإن أصاب موضوعًا.

المهم هنا هو الانتباه الجيِّد إلى أنَّ لكلِّ واقعٍ آثاره ومخرجاته الثقافيَّة التي يتأثَّر بها كلُّ مَن ينخرط في واقع ذلك المجتمع، فمثل عقلية الإقصاء والفوقيَّة والجدل والتطرُّف في مظاهر كمظاهر التواضع والانتماء والتعظيم.. وغير ذلك من سلوكيات نفسيَّة وذهنيَّة فهي من آثار الوجود في مجتمعات تصوغها ثقافيًّا، ولا بدَّ من التأكيد دائمًا على أنَّ هذا طبيعيٌّ وهو من القوانين التي خُلِقَتْ مع المجتمع البشري، فالإنسان يقرأ ما يقرأ من خلال مكوناته الثَّقافيَّة، فنرى قراءة التُّركي للتواضع مختلفة في جهات عن قراءة الباكستاني له، وكلاهما يختلفان من جهات عن قراءة الخليجي، والخلاف إنَّما هو في الفهم والمشخصات أكثر من كونه في غير ذلك.

نحن نرى اختلاف المزاج الفقهي للفقيه اللبناني عنه في الفقيه النَّجفي، وهذا الأخير عن الفقيه الكربلائي. هذا واقع ومرجعه التكوُّن الثَّقافي والفكري الناشئ مِن البيئة وظروفها.

 

سلطة الحالة الحزبية على مفاصل وبُنى المجتمع:

لن يحتاج القارئ إلى جهد ليفهم مدى هيمنة وتسيير الحالة الحزبية لكل ما يكون له دخلٌ في خدمة نفس الحالة الحزبية، ولا فرق بين أن تكون دخالته مباشرة أم غير مباشرة.. قريبة أم بعيدة؛ فإنَّ العقليَّة الحزبيَّة مُتحرِّزة بطبعها، ولا تترك شيئًا للصُدَف.

مِن هذا التكون المُعقَّد غاية التعقيد تنشأ وتُصاغُ مناهج التربية والتعليم، ومسارات الاقتصاد والسِّياسة والتجارة، وسعة وضيقة الحريَّات وطبيعتها وموجهاتها، وغير ذلك ممَّا يكون من سمات المجتمع وخصائصه.

إنَّني لا أعطي الموضوع أكثر من حجمه، بل أراني مُقصِّرًا في توضيح المخاطر العظيمة للسفر الطويل لا سيَّما للتجارة أو العمل أو الدراسة، وليس من المنطق المخالفة وأنت ترى وتشهد وتعيش واقع العولمة وسلطتها المتوحشة تمام التوحش حتَّى فقدت المجتمعات خصائصها في أهمِّ موارد الظهور الشخصي، ولم تعد الخصائص أكثر من تراث و(فلكلور) محفوظ في الكتب والوثائقيات!

وكيف تُنْكِر ذلك وأنت ترى التغيرات الجذرية الكبرى في طُرُق طلب العلم وقد انحصرت في المؤسَّسات بعد أن كان سُلطَانُها العَالِمُ مِنْ على كرسيه الخاص الذي يقصده القاصدون ممَّن يبحثون عن العالِمِ للعلم، لا أن يكون في كيان مؤسسي ولا تَصِلُ إليه حتَّى يُفرَض عليك ما في المؤسَّسة من أدبيات وأصول، وإلَّا فلا!

وحتَّى في المناطق التي لا زالت تنافح من أجل بقاء الدروس الحرَّة فهي في الواقع ليست حُرَّة، بل مقيَّدةٌ بقيود أشدُّ عنفًا وشراسةً من قيود المؤسَّسات التعليميَّة مِن مدارس، وحوزات، ومعاهد، وجامعات…

ولو كان المقامُ مقامَ بيان وتفصيل لما أمسَكْتُ القَلَمَ قبل الوفاء بحقِّ الموضوع وعظيم خطره، ولكن لا بدَّ مِن الاستدراك للتنبيه على أنَّ توصيف الحالة القائمة لا علاقة له على الإطلاق بصدق العالمين ومبلغ تقواهم وورعهم وحفظهم للدين القويم، فما أطرحه هنا إسفارٌ عن جوهر العوامل المؤثِّرة بقوَّة في صناعة الواقع وتغيير أحوال ومعالم الفكر والنفس والثقافة بطغيان يخفي العِلل وأصول المُسَبِّبَات. ولا حول ولا قوَّة إلَّا بالله العلي العظيم.

المقام العلمي للمتخرِّج من الحواضر والجامعات العلميَّة الكبرى:

طرحتُ هذا العنوان للتنبيه على عبثيته وبعده الشاسع عن موضوع المقالة، فما نحن فيه لا يتناول العلم والتحصيل، ولكنَّه يعني ببيان التأثُّر الطبيعي لثقافة وعقليَّة من يتغرَّب لطلب العلم الأعم من علم الشريعة، فافهم يرحمك الله تعالى واحذر مِن حرج الصدور الذي طالما حرف عن الحق وأبعد عن الصواب.

بقليل من الانتباه فإنَّك لن تحيد عن فهم المرام، وهو بيان العلل والمؤثِّرات الواقعيَّة في تكوين الواقع الثقافي والفكري والسلوكي في كلِّ مجتمع، ولأقطع مادَّة العبث النفسي ببيان أنَّ بلادنا البحرين (حرسها الله تعالى وحماها مِن كلِّ شر وضر) تعيش واقعها الخاص الذي فرضته عوامل سياسيَّة واقتصاديَّة وما نحوها ممَّا لا يتمكَّن المجتمع من مقاومته أو الخروج عن سلطته، كما هو الحال في كلِّ مجتمع.. لذا فإنَّني أرى خطأ مجيء القطيفي أو الكويتي، فضلًا عن الأبعد والأبعد إلى البحرين للدراسة أو ما شابه، إلَّا أن يكون مهاجرًا دون رجعة إلى بلده ومسقط رأسه، وما لم يكن كذلك فسوف يرجع إلى أهله بعقليَّة لا تناسب واقع مجتمعه في بلده، وحينها لن يخلو صلاح يفعله من فساد يُحدِثه دون أن يقف أحدٌ على مرجعه ومنشأ حدوثه! فالمسألة كُبرى وبين يديك موارد تطبيقها.

قد يُنكر على هذا الطرح بعدم عقلانيَّة ترك الحواضر العلميَّة ودروس العلماء الأعلام مع ضعف الدرس في غير بلدها من البلدان.

فأقول وفي الجواب زيادة بيان لمقاصد المقال:

لا شكَّ في حُسنِ قصدِ الجاهل للعالم طلبًا للعلم، بل الحُسن في أن يطلب الأعلم ما استطاع إلى ذلك سبيلًا؛ فالأخذ من العالم ليس كالأخذ من غيره، إلَّا أنَّ هذه الجهة مغلوبةٌ في نظر مقالتنا بوقوع طالب العلم تحت السلطة الهائلة للتوارد الثقافي عليه في بلد الحاضرة العلميَّة المقصودة، وليس حديث المقالة حول تحصيله العلمي وقوته في ما إذا كان على يد الأكابر والأعاظم وأصحاب التاريخ العريض في حلقات الدرس والتدريس، ولكنَّ الكلامَ كل الكلام في مخارج العلم بعد عودته وقد تحوَّل في ثقافته وفكره وسلوكه إلى ما صاغته تلك المُؤثِّرات فآمن بها حتَّى أصبح يرى مجتمعه متخلِّفًا عنها.

تعاني المجتمعاتُ تلاحقَ التخلخل والوهنِ في أسسها وأصولها البيئيَّة الخاصَّة بعد الإصرار على الإعراض عنها واستصغارها ممَّن جاؤوا علماء ومفكرين من بغداد ودمشق، وبيروت، والقاهرة، وموسكو، وبريطانيا، وأمريكا.. وغيرها حتَّى أصبحنا كالغراب بعد أن نسيانه لمشيته وفشله في تقليد مشية الحمامة، وإلَّا فبالله عليكم ما علاقة قرية بحرانيَّة بـ(ها خوتي ها) وهي عراقيَّة تحكي روح العشيرة في العراق وأثر الموَّال إقامةِ سلوكٍ خاصٍّ في ظرف مُعيَّن كسلوك الحرب أو سلوك السلم أو سلوك العفو وما نحو ذلك؟!

بعد خمسين سنة سوف يُؤدِّي الجيل الثَّاني هذه (الهوسة) ولا يبعد أن يعدَّها بحرانيَّةً أصيلة، وربَّما بعد قرنين يتنازع الموثقون بحرانية أو عراقيَّة.. أو لبنانيَّة أصالتها!

هذا أدنى الأدنى ممَّا يمكن ذكره، وإلَّا فالقضية أعظم والخطر آخذ في الاشتداد.. فافهم، ولا حول ولا قوَّة إلَّا بالله العلي العظيم.

تدعو المَقَالَةُ بكلِّ تأكيد إلى تكوين القامات العلميَّة في كل بلد وصقع شيئًا فشيئًا حتَّى تكون العلاقة بين مدارس التحصيل ومواطن البحث علاقة تكامل وتباني، وهي غاية لا تتيسر بغير البذل والتضحية بالمكاسب والمصالح الشخصيَّة حتَّى تتحقَّق النهضة المنشودة بعد جيلين أو أكثر.

عوامل الشهوة والهروب من مسؤوليَّة صناعة وتكوين الواقع المناسب:

لا يصحُّ مِن أحدٍ إنكار ما لكلمة (خرِّيج أمريكا أو بريطانيا) من وزن في أوساط المجتمع العام والخاص، وهي عناوين أقوى بكثير من المستوى العلمي لخريج تلك الدول، بل ولن يسأل عن الجامعة التي تخرَّج منها إلَّا العارِف بالجامعات ومستوياتها، أمَّا الأعم الأغلب فيقعون في أسر (أمريكا وبريطانيا) دون حتَّى التفكير في مقاومة الوقوع في الأسر! وفي المقابل فإنَّ المتخرِّج على أساتذة أكفاء من البحرين لن يجِد مِن النَّاس التقدير الذي يحظى به خريج (غير البحرين) فضلًا عن أن تكون (أمريكا وبريطانيا)، والسِّرُّ في ذلك هو ما بيَّناه مِن ضعف الثقة والإيمان بالنفس، والزهد في كلِّ ما هو باليد انبهارًا بالآخر!

هذا يجرحني ويؤذي نفسي، فلا يظُننَّ أحدٌ بأنَّني هنا أُعَرِّضُ بمجتمعي وأستنقص وعيه وفهمه.. ليس الأمر كذلك على الإطلاق، فالجرح جرحي والألم يعتصرني، وقصور اليد يُهشِّم ظهري.. والأعظم مِنْ كلِّ ذلك أن لا يفهمني مَن أرجو وانتظر فهمه..

إنَّ لذكرى الكون في جامعة (عالميَّة) أو مدرسة في (حاضرة علميَّة) وقعًا خاصًّا في النَّفس وفي بناء التعامل والتواصل مع الآخرين، فربَّما كان أحدُ طلبة العلم قد درَّس في النجف الأشرف لستَّة أشهر فقط قبل أربعين سنة، فتراه يذكر (عندما كان في النجف) أكثر من ذكره لفضل أمِّه وأبيه عليه! والآخر يشيب ولا زال يذكر في كلِّ مجلس رحلاتهم في الـ(week end) مِن (برايتون إلى لندن ومن لندن إلى سكوتلند)!

إنَّها الذكرى ولا بأس بها، وليس من الصحيح فصل الإنسان عن ذكرياته، ولكنَّ الأمر هنا ليس مجرَّد ذكرى يستحضرها، وإلَّا فالذكريات كثيرة ومنها ما هو أهم وأرفع قيمة مِن ذكريات (الغربة للدراسة)، فالقضيَّة هي ما أشرنا إليه أكثر من مرَّة في بعض سطور مقالتنا بالتصريح تارة والتلميح أخرى.

ولكن.. لِمَ لا يتحمَّل أبناء كلِّ مجتمعٍ مسؤوليَّةَ تكوين وصناعة واقعهم العلمي الأمثل؟

ليس الجواب بأجنبي ولا هو ببعيد عن بعض ما بينَّاه، فمَن لا يؤمن بما أودع الله فيه من قوى وقدرات، وهمَّة وعزم، فإنَّه يخاف خوفَ الموتِ من أن لا يكون في موقع (تحت) وأن لا يكون فوقه أحد، وهذه عقدة خطيرة وفي غاية الإحكام المرضي الذي أورثته ظروف القسر والتقزيم وما نحوها ممَّا تكونه الظروف السياسيَّة والاقتصادية وما يدور في فلكها ويعمل في خدمتها.

إنَّ للنهوض من تحت جبال هذا الركام الثقافي والنفسي القاتل شروطًا وقوانين لا بدَّ من سلوكها وركوب الصعاب مِن أجلها، وهي ميدان ذوي الهمم والعزائم، ومحل الإعابة والسخرية لغيرهم.

المجتمع وباهظ الأثمان:

ازدحمتْ البحرين بثلاثة أحزاب كبرى ابتداءً من منتصف القرن الماضي، أحدها غير إسلامي، وكلُّها ممَّا جاء به اوَّلًا طلبة الجامعات مِن بغداد ودمشق وبيروت والقاهرة، ثُمَّ النجف الأشرف، ومن بعد ذلك طهران وقم المقدَّسة، وليس منها ما ينسجم في شيء مع واقعنا الثقافي الخاص، ولا نزال إلى اليوم ونحن ندفع الأثمان الباهظة لما أورثته تلك التيَّارات من تشوهات وانحرافات ثقافية وفكرية عميقة جدًّا حتَّى أصبحت اليوم من واقعنا وكأنَّها أصل لا يُفرَّط فيه!

قد لا يكون اليوم للأحزاب واقع تنظيمي كما كان لها من قبل، ولكنَّ العقليَّة الحزبية لا زالت قائمة ولا زال العائدون إلى البلد يفرضونها على المجتمع كلٌّ بحسبه، ولا يجد النَّاسُ باعثًا على الرفض والمقاومة بعد ارتمائهم في أسر العناوين الكبرى، وقد مرَّت الإشارة إليها..

زبدة المخاض ودعوة المقال:

أقف موقفًا معارضًا تمامًا للسفر من أجل الدراسة إلَّا في موارد خاصَّة لا كثرة لها في الخارج، ولكن بطبيعة الحال فالخيار في نهاية المطاف شخصيٌّ ولا سلطة فيه لأحدٍ على أحد. وكيف كان؛ فإنَّ التأثُّر وحمل الآثار وتوريدها إلى الأوطان لا يكون في الغالب عن قصد، بل هي هكذا تدور رحاها ولا نسمع غير أصوات الطحن حتَّى صرنا نحسبه بلابلنا تغرِّد تغريدة العصر!

انتثر في بعض سنوات التنظيمات السريَّة طلبةُ الجامعات من مختلف البلدان في بلدان المناشئ الحزبيَّة، وكان كلُّ جماعة منهم يتلقون الشباب القادم من بلدانهم للدراسة، ويشرعون معه في برامج التنظيم الفكري أوَّلًا، وإن نفَعَ نُظِّمَ حزبيًّا وإلَّا عاد إلى وطنه مُحمَّلًا بأفكار الحزب ومبادئه من حيث لا يعلم.. والحبل يا صاح على الجرَّار..

ثُمَّ إنَّني أدعو بصدق إلى إنهاضِ عملاق العلم في كلِّ بلد وبسط يده ليكون في كل صقعٍ فقيهٍ وفي كل وادٍ مُفكِّر وباحثٍ من أولاد الأرض وأبناء إرثها الأصيل، وليكن بعد ذاك التكامل العلمي بين الكبار كنظراء لبعضهم البعض يأخذ كلُّ واحد منهم ما يحتاجه من الآخر فتدور ساقية الأخذ والعطاء وتعود البلاد لأهلها بعد أن استلبتها ثقافات وتيارات وأحزاب وما في حكمها مِن أدوات الاستبداد والقسر.

 

السَّيِّد محمَّد بن السَّيِّد علي العلوي

18 شوَّال 1444 للهجرة

البحرين المحروسة

………………………………

[1] – أجبتُ في مقالات كثيرة سابقة على إشكال استعمالي للتكنلوجيا مع رأيي الرافض لها، وقد قلتُ بما للأحكام الثانويَّة مِنْ واقع لا ينبغي تجاهله في حياتنا العمليَّة، ودونك مواقف الأئمة الهداة (عليهم السَّلام) وسلوكهم العملي المعصوم في التعامل والتعاطي مع الآخر. ولا أطيل.

[2] – راجع للكاتب: المُكنَةُ البِنائيَّة في الإجازة الروائيَّة: https://alghadeer-voice.com/archives/4781

[3] –  راجع: الجغرافيا الاجتماعيَّة مبادئ وأسس وتطبيقات، لباسم عبد العزيز عمر العثمان.

[4] – الكافي، الكليني، ج2 ص375

مقالات مشابهة

1 تعليق

المناقشة والنقد ومحاذير التحسُّس والرد بالإساءة - صوت الغدير 5 يوليو، 2023 - 12:46 ص

[…] الدعوة لتغيير بعض المناهج والكتب الحوزويَّة القديمة السَّفرُ للدِّرَاسَةِ خِيَارٌ شَخصِيٌّ يتعلَّقُ بِهِ … مقولة أنَّ البحرين (مدينة واحدة) ولا قَصْرَ فيها مع […]

رد

اترك تعليق


The reCAPTCHA verification period has expired. Please reload the page.