رسالة نقديَّة موجزة لأطروحة الدعوة لتغيير بعض المناهج والكتب الحوزويَّة القديمة

بواسطة Admin
0 تعليق 310 مشاهدة

 

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربِّ العالمين، والصَّلاة والسَّلام على أشرف الأنبياء والمرسلين محمَّد وآلِه الطيبين الطاهرين

رسالة نقديَّة موجزة لأطروحة الدعوة لتغيير بعض المناهج والكتب الحوزويَّة القديمة

يطرح فضلاء وأعلام مِنَ الغيورين على الحوازات العلميَّة ما يرون فيه مصلحةً للدرس العلمي، ومِنْ ذلك أطروحة الدعوة لتغيير بعض المناهج والكتب القديمة، وهي دعوة تشتدُّ عند من يستحكم عندهم الإشكال على أسلوب العبارة المغلقة الذي اتَّسَمَتْ وتميَّزتْ به بعض الكتب العلميَّة مثل تجريد الاعتقاد للخاجة نصير الدين الطوسي، بل وشرحه الموسوم بكشف المراد للعلَّامة الحلِّي، ومثل كفاية الأصول للشَّيخ محمَّد كاظم الخراساني المعروف بالآخوند. وربَّما تجاوز النقد مثل هذه الكتب ليتناول ما لم يُلتَزمُ فيها بالمنهج الأكاديمي في الكتابة وتوضيح المطالب، فلم يسلم مثل كتاب المكاسب للشَّيخ مرتضى الأنصاري ولا غيره مِن تلك التي لن تجتازَ امتحانات التقييم الأكاديمي للبحوث والكتب العلميَّة المنهجيَّة!

إنَّني في الوقت الذي أخالف فيه مثل هذه الأطروحات أوافقها من جهات أُبَيِّنُها في السطور التاليَّة إن شاء الله تعالى. والكلام في أمور:

مسألة إغلاق العبارة، ويُعبِّر عنها بعضٌ بـ(الطلاسم):

فأقول بأنَّ مِنْ أهمِّ ما برع فيه أعلام الطائفة القُدرة على إغلاق عبائر الكتب وإحكام محاصرتها ومنعها عن غير طالبِ عِلمٍ على يَدِ أستَاذٍ جَديرٍ بالتعامل مع كتب العلماء ومصنفاتهم، وهنا نُلفِتُ مُنَبِّهينَ على أمرٍ مهم، وهو الفرق بين طلب العلم بالمعنى الأخص، وطلبه للثقافة وما في حكمها، ولا حاجة للثَّاني في أكثر من فهم المطالب والتعرُّف على القواعد وربَّما ضبطها أيضًا.

أمَّا طالب العلم الذي يروم الفقاهة ويسعى إلى وراثة الأنبياء (عليهم السَّلام) فليس يكون على جادَّة مرامه ما لم تتكون عنده ذهنيَّةٌ خاصَّةٌ تُلزِمُه أرضَ طلب العلم وتثقله عن الخِفَّة والاستعجال وما نحو ذلك، فيطول نَفَسُهُ ويتَّسِعُ صَدْرُهُ ويتعلَّمُ الصبرَ على نُضج الفهم وحُسن التصوُّر للمسائل العلميَّة الدقيقة، ومِنَ الطرق المُجرَّبة لتحقيق هذه الغاية الوقوف على عبارة الكتاب لفهمها من جهة ولفهم مراد صاحبها من جهة أخرى على اعتباره من الأعلام وذوي الكلمة الوازنة في ميادين العلم والبحث والنظر.

علينا أن نُفرِّق إذن بين مَن يحتاج إلى إلَانَةِ العبارة وتسهيلها، وبين مَن يكون في ذلك فساده وتخريب مساره، أمَّا الأوَّل فهو المُثقَّف الذي يطلب علمًا للاستزادة الثقافيَّة لا أكثر، في حين أنَّ الثَّاني هو من شدَّ حيازيم الجدِّ وعزم على طريق ذات الشَّوكة للفقاهة وشرفها.

يُقال: ولِمَ يُضْطَرُّ طالب العلم بالمعنى الأخصِّ إلى تضييع سنوات من عمره في تَفْكيكِ عِبَارَةٍ مُغْلَقَةٍ والحال أنَّ بالإمكان فتحها وتسهيل فهمها بما يُوفِّر عليه تلك السنوات التي يقضيها في التفكيك والاحتمالات، وقد قيل عن تجريد الاعتقاد بأنَّه لو لم يشرحه العلَّامةُ (قدَّس الله نفسَه) لَمَا تَمَكَّنَ أحَدٌ مِن شرحه!

فنقول: أوَّل الكلام أنَّنا نرفض فرضكم بأنَّ قضاء السنوات في تفكيك العبائر تضييعٌ للوقت، بل نحن نقطع بلا تردُّد بأنَّ هذه السنوات هي التي تصنع العالِمَ الفقيه في طالب العلم، ثُمَّ أنَّنا نؤكِّد على دقيقةٍ مهمَّة، وهي أنَّ من يدرس الكتب المُبَسَّطَة قد يكون أفضل ضبطًا لمسائل العلم وقواعده من الآخر الذي يبقى سنوات تحصيله مع الكتب القديمة ذات العبائر المُغلقة، غير أنَّ هذا لا يكفي لتصحيح اعتماد مثل هذه الكتب في الدرس الحوزوي؛ إذ أنَّ هذا الضبط ليس مطلوبًا ما لم يقمْ على ذهنيَّة خاصَّة تُحقِّقها تلك الجهود التي تُبذَلُ في فهم المطالب بحسب إغلاق العبارة في الكتب القديمة. فافهم ولا يغُرنَّكَ تسارع الزمن ومعايير اختصار الوقت.

ثُمَّ لا بُدَّ مِنَ الانتباه بوعي تامٍّ إلى ما في إغلاق العبارة من حماية للعلم من تجرِّي المُتَجَرِّين وخوض غير المتخصصين والمتفرغين لطلب العلم من مواطنه الصحيحة، وطالما عَانَى العُلمَاءُ وَفَسدتْ المُجْتَمَعَاتُ بوجود مثل هؤلاء ممَّن تزبَّبُوا وليسوا حتَّى بِحُصرم!

كما وأنَّ لقدرة الأستاذ على فكِّ العبارة المُغلقَة وتدريب الطالب على تصورها دورًا مهمًّا في حفظ منظومة المُعلِم والمُتعلِّم بما فيه خير وصلاح النَّاس؛ إذ أنَّ في هذا النوع من الارتباط بين طالب العلم ومُعلِّمه سلامةً وأمانًا للمجتمع من تهورات واستعجالات طلبة العلم.

كُلُّ هذا يُفقَدُ باستعجال طرح مثل هذه الأفكار دون دراسة الحيثيات والجهات الدقيقة في المسألة محلِّ الكلام.

قالوا: تغيير المناهج والكتب سنَّةٌ لا يصحُّ الوقوف في وجهها.

فنقول: هناك الكثير من الكُتُب العلميَّة أخذتْ محلًّا علميًّا غير محل الدرس بعد أن حلَّت محلَّها كتب جديدة هي اليوم قديمة، فلو لا الفرائد والكفاية مثلًا لما زلنا مع القوانين والفصول، ولذا فإنَّ ما جرى على هذين الأخيرين لا بد وسيجري على تاليهما، إلَّا أنَّ ذلك لن يكون بأطروحة تغييريَّة أو ما شابه، ولكن بكتاب يفرض نفسه ويأخذ مكانه بشكل طبيعي ودون مقاومة أو رفض مِن علماء الحوزة الشريفة وأعلامها إلَّا في الحدود الطبيعيَّة.

لم يفرض أحدٌ تبصرةَ العلَّامة، ولا شرايع المُحقِّق، كما وأنَّ الروضة البهيَّة بشرح السَّيد كلانتر لا تزال في محلِّ السيادة بالرغم من وجود أكثر من شرح دقيق للروضة، فتَنَبَّه إلى أنَّ إشرافَ كتابٍ على كتُبٍ يكون لِفَضلٍ في نَفسٍ الكِتَاب ولِميزَاتٍ قد تدخل في طبيعة المجتمع الخاص وَمَدَى تقبُّله له وغير ذلك ممَّا له دخالة مباشرة في قبول الكتاب الجديد واستقراره في الحوزة العلميَّة ككتاب درسي مُعتمد، وفي هذا المقام يحتاج صاحبُ النظر إلى الوقوف على أنَّ عدم تمكَّنِ كتابٍ علميٍّ مِنْ أخذ مكانًا ومكانةً في الدرس الحوزوي يرجوها له بعضُ الفضلاء لا يعني ضعفه أو وجود خللٍ مانعٍ فيه، بل قد يكون مِن المتانة العلميَّة ما يتفوق بها على ما عليه الكتاب المعتمد والسائد فعلًا، غير أنَّ نفس الظرف العلمي الأعم مِن الذهني والفكري والثقافي للحوزات العلميَّة قد لا يكون مناسبًا لهذا الكتاب الجديد، ومِنَ الأمثلة الواضحة حلقات السَّيد الشَّهيد محمَّد باقر الصدر (قدَّس الله نفسه) في أصول الفقه وما هي عليه من تميُّزٍ مِن عدَّة جهات إلَّا أنَّ إقبال الدروس العليا على مَن أنهى كفاية الآخوند ورسائل الأنصاري متقدِّمةٌ على مَن أنهى حلقات السَّيد الشَّهيد، ولا اعتباط في هذا الموقف الحوزوي السائد إلى حدٍّ ما، بل هناك حيثيات وجهات مهمَّة أنتجت هذا الموقف، وقد نرى الحلقات أو غيرها تأخذ مكان الكفاية والرسائل بشكل طبيعي ودون دعوات أو أطروحات أو ما شابه.

نعم؛ قد تُستَبَدلُ كتبٌ بإجراءات خاصَّة، كما هو الحال فعلًا في المدارس العلميَّة للتوجُّه التفكيكي مثلًا، أو في الدرس الأخباري، وكذا عند من يتبنون التوجُّه الفلسفي، غير أنَّها حالات شخصيَّة والكلام في الحوزة العلميَّة بما هي جوٌّ ثقافيٌّ وفكريٌّ عام.

الأثر السَّيء لرفع الصوت بأطروحات التغيير محلِّ الكلام:

بعد أن اتَّضحت مواضع النقد أُنَبِّهُ على ضرورة المحافظة على ذهنيَّة ونفسيَّة طالب العلم في مقدماته وسطوحه، وإن فُتِحَ على مساحات النقد وما شابه فلا بدَّ وأن يكون ذلك تحت رعاية مباشرة وواضحة مِن أساتذته ومُرَبِّيه، وإلَّا فإنَّه يَقْرُبُ حينها من طواحن الآراء المتنازعة، بل والفجور في الخصومة تأخذه في مهالك تجاذباتها، فينشَأ غير سويِّ الذهن مُضطرِب النفس.

مِثال كتاب كفاية الأصول للمُحَقِّق الخراساني (قدَّس الله نفسه):

لا إشكال في علميَّة الدعوة الهادئة لكتابة هامش على الكفاية مثلًا تُصحَّحُ فيه عبائر الكتاب بما يناسب موازين الفصاحة العربية دون إخلال بإغلاق العبارة؛ لعلميَّة الإغلاق وضرورته التربويَّة كما أشرنا آنفًا، ولكنَّ المُشكِل العظيم يستحكم فعلًا بسبب الإعابة المتطرفة والمستعجلة لعبارة الكتاب لا سيَّما من جهة الفصاحة، وفي الواقع هي إعابات عن نظرٍ قَصَّرَ في الالتفات إلى جوانب مهمَّة من جوانب التباني على الكفاية لقرن من الزمان، وهو تقصير خطير قد أدَّى إلى ما أدَّى من تضييع البوصلة عند أفواج من طلبة العلم.

إنَّ ما قام عليه تباني العقلية الأصوليَّة العلميَّة في الحوزات العلميَّة ممتدٌّ، بحسب الرصد الأوَّلي، مِنْ القرن الثاني عشر الهجري، ولذلك نرى وحدة اللسان العلمي مِن القوانين إلى الكفاية مع تطور البحث وتقدم النظر في المطالب، ومِن هنا قلنا بأنَّ مِثل الكتب والمناهج الحوزوية محكومة طبيعيًّا بتبانيات تخضع إلى موازين علميَّة يفهمها جيِّدًا علماء النفس والاجتماع مثلًا؛ والوجه في ذلك انتظام الكتب والمناهج في مسارات تتبادل التشكيل والتكون في ما بينها وبين هويَّة السَّمْتِ العِلمِي الأعم من الذهني والثقافي والظاهري وغيرها ممَّا تتميَّز بها شخصيَّةُ الحَوزَةِ العِلميَّةِ الشريفة.

في ما يخصُّ كتاب كفاية الأصول فقد قرأتُ لبعض فضلاء الأساتذة الكرام رأيًا في مقدمته المشتملة على ثلاثة عشر أمرًا أوَّلها موضوع العلم وآخرها المشتق، وحاصله عدم حاجة طالب العلم للتطويل في دراسة وبحث هذه الأمور التي لا دخل لها في عملية الاستنباط، بل هي خارجة عن موضوع علم الأصول، وقد قرأتُ لأحدهم (دامت بركاتُه) تسجيله لما يراه انجازًا، وهو أنَّه في درسه الشريف تجاوز بحث مثل هذه الأمور مكتفيًا بالإشارة إليها!

لا شكَّ في أنَّه توجُّهٌ له احترامه وتقديره، لا سيَّما مع واقع استناده لعلماء من ذوي الفضل والسداد، ولذا كان من اللازم التنبيه بوضوح على أنَّ عدم اتفاقنا مع هذا التوجُّه يرجع إلى اختلاف في بعض جهات الغايات والأغراض مِن الدرس الحوزوي، ومِن ذلك ما ذكرناه أعلاه، ولزيادته وضوحًا قلنا:

هناك فرق بين الاجتهاد والفقاهة، إذ أنَّ مرجع الأوَّل إلى الملكة الخاصَّة، وقد سطر لنا التاريخ طوائف مِن المجتهدين أو مَن هم في حكم المجتهد وقد ملأوا الأرض فسادًا، ولم يكن أوَّلهم بلعم بن باعوراء، كما وليس آخرهم الشلمغاني، أمَّا الفقيه فهو مركزٌ مِن مراكز الهداية في الأرض ووتدٌ مِن أوتاد حفظها، وهذه لا يُحقِّقها الاجتهاد منفردًا عن ما له دخالة في بناء وتكوين الذهنيَّة العلميَّة المتَّزنة والشخصية الوازنة عن حكمة وبصيرة.

إنَّ مثلَ ما اشتملت عليه مقدِّمةُ الكفايةِ مِن حيث عدم الدخالة المباشرة في العلم والاستطرادات بعبارات مغلقة مُهمَّة في أكثر من جانب.

إنَّنا لا نتصوَّر مِن أكابر العلماء وأعلام الفقه استطرادات أجنبية من جميع الجهات عن مقام البحث سواء كانت في مطالب أو مباحث، وأنت خبيرٌ بدور قوَّة التصور لمسألةٍ أو مَطْلَبٍ في قوَّة الفهم لِما يترتب عليه من مطالب قريبة وبعيدة، لذا فحتَّى مع فقدان الثمرة العمليَّة البارزة لبحث المشتق في الأصول مثلًا فإنَّ في بحث مسائله بحثًا دقيقًا رصينًا من الفوائد ما تظهر ثمراتها في شخصية طالب العلم من جهات عدَّة، وهذا فضلًا عن تَكَوُّنِ الكفاءة عِنْدَهُ في مثل إرجاع الدقائق مِن المسائل إلى أصولها البعيدة، ومن تلك الأصول ما يدرسه في مثل ما اشتملت عليه مقدِّمة الكفاية.

وقد مرَّت الإشارة إلى أهميَّة الصبر على المسألة العلميَّة حتَّى تُتصوَّر وتُستَوعب وتُهضَم لتكون حاضرةً مُتَمَيِّزةً في نفس طالب العلم، ولن يطمئِنَ قبل ظهور كفاءته في إعادة صياغتها وانتاجها من جديد تدوينًا وإلقاءً.

ثُمَّ لا بدَّ لنا من التكرار والتأكيد على قدرة الكتاب العلمي الأكاديمي على تخريج علماء ذوي كفاءات عالية ومتقدِّمة، بل وإبداعية أيضًا، ولكنَّها لا تحقِّق درجات مُعتبرة من ضمان الفقاهة بحسب المعنى الذي أثبتناه قبل قليل.

خلاصة ما قصدناه:

إنَّنا لا نعارض تطوير المناهج ودخول كتب جديدة في الحوزة العلميَّة الشريفة، إلَّا أنَّ هذا لا يصحُّ حصوله بعوامل خارج حدود التبانيات الحوزوية الخاصَّة، وبناء على هذا الواقع العلمي فإنَّ رفع الصوت بالدعوة للتغيير لن تُنْتِج أكثر من إحداث اضطرابات ذهنية وسلوكيَّة عند طلبة العلم.

ومِن الأهميَّة القصوى التنبُّه دائِمًا إلى عظمةِ الكُتُب المنتظمة برصانةٍ فريدة في حدود تبانيات الحوزة الشريفة، بل وحتَّى مع وجود ما يستحق أن يحلَّ محلَّ أحدها فلا بُدَّ من حفظ (وأقولها تجوزًا لا حقيقة) قداسة الكتب التي أقامت أصلاب علماء الطائفة وفقهائها، ولا يصحُّ البتَّة التعرُّض لها بما لا يليق بمقاماتها العالي.

وآخر ما ينبغي أن يقال في هذا المقام هو أنَّنا لا نتمنَّى لطلبة العلم الأكارم الاستعجال في تبنِّي الآراء والدعوات دون تأنٍّ وتدقيق في جوانبها ودقيقِ حيثياتها، والحقُّ أنَّ طالب العلم لا يليق به غير الرزانة والرصانة والحذر من الاستعجال والانجراف مع التيارات والأمواج.

والله سبحانه وتعالى من وراء القصد.

 

السَّيد محمَّد بن السَّيد علي العلوي

4 من ذي القعدة 1444 للهجرة

البحرين المحروسة

 

 

 

مقالات مشابهة

اترك تعليق


The reCAPTCHA verification period has expired. Please reload the page.