جَدَلُ التفْسير.. كَلِمَةُ الفَصْلِ بِيَدِ دِقَّةِ العَقْلِ

بواسطة Admin
0 تعليق 262 مشاهدة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربِّ العالمين، والصَّلاة والسَّلام على أشرف الأنبياء والمرسلين محمَّد وآلِه الطيبين الطاهرين

يكثر الجدل حول فهم وتفسير الكتاب العزيز بين من يقول بأنَّه كتاب انزله الله تعالى للناس، ما يعني أنْ يكون فهمه مُتيسِّرًا لهم دون عناء ولا حاجة إلى قيود تُبعدهم عنه وتمنعهم عن الأخذ من معينه، وبين مَن يُرجِع تفسيره إلى العلماء مِن أهل الاختصاص دون غيرهم، فيما يقصر آخرون التفسير على أهل بيت العصمة (صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين). وكل منهم يسوق أدلته ليثبت مذهبه وينقض على الآخرين مذاهبهم.

والحقُّ أنَّ كلمةَ الفَصلِ بِيَدِ دِقَّةِ العَقل، فأوَّلًا: إنَّ الكتابَ المُنزَل كلامُ الله تعالى أوحاه إلى نبيِّه الأكرم، ولا يُستدَلُّ على ذلك بِنَصٍّ، ولكنَّها دعوى النبيِّ (صلَّى الله عليه وآله)؛ فإن قُلنا بصدقه وصدق نبوته صدَّقناه، وإلَّا فالفصل إلى ما يُثبِت خصوص دعوى النبوة، وتصديق ما دونها منه (صلَّى الله عليه وآله) فرع تصديقها.

إذًا نحن لا نشكُّ في أنَّ القرآن الكريم هو كلام الله تعالى، وهذا ما صرَّح به الرَّسول الأكرم (صلَّى الله عليه وآله).

وثانيًا: لا يتيسَّر الفهم في المحاورات العرفية إلَّا على نحو التسامح والاحتمالات، وإنَّما يُبنى على الفهم مع الإمضاء وعدم المُعارضة، وإلَّا فحتَّى مع ما لا يحتمل غير معنى واحد قد يُعتَذَر للمخالفة بتورية أو تقيَّة أو ما نحو ذلك، ولِمَنع النزاعات وضع البشرُ قوانين وجعلوا لها الحاكمية على المقاصد ما لم يلتزم بقوانين بيانها، ومع ذلك لم تُعدم النزاعات، بل وانتقلت إلى فهم نفس القوانين.

أمَّا ثالثًا: فمِنَ الثابت أنَّ القرآن الكريم جزءُ عِلَّةِ العِصمَة مِن الضلال، ولا يصحُّ إلَّا أن يكون كاملًا نصًّا ودلالةً بما يفي بحقِّ معلوله، وهو العِصمَة.

فرابع الأصول: القطع بكون النزاعات في الفهم الدلالي ناقضةً لعصمة القرآن من الضلال، لذا فإنَّ الكتاب العزيز دون بيانٍ قاطع لمقاصده قصورٌ في حِكْمَة الوحي، وهو قبيح بلا كلام. تعالى الله وتنزَّه وتقدَّس عمَّا يصف الجاهلون.

ثُمَّ أنَّ الروايات الشريفة جاءت على طِبق كلمة العقل، ومِن أجلاها ما رواه رئيس المُحدِّثين الكليني (نوَّر الله مرقده الشريف) بسنده عن مَنْصُورِ بْنِ حَازِمٍ، قَالَ:

“قُلْتُ لأَبِي عَبْدِ اللَّه (عليه السَّلام): إِنَّ اللَّه أَجَلُّ وأَكْرَمُ مِنْ أَنْ يُعْرَفَ بِخَلْقِه، بَلِ الْخَلْقُ يُعْرَفُونَ بِاللَّه.

قَالَ (عليه السَّلام): صَدَقْتَ.

قُلْتُ: إِنَّ مَنْ عَرَفَ أَنَّ لَه رَبًّا فَيَنْبَغِي لَه أَنْ يَعْرِفَ أَنَّ لِذَلِكَ الرَّبِّ رِضًا وسَخَطًا، وأَنَّه لَا يُعْرَفُ رِضَاه وسَخَطُه إِلَّا بِوَحْيٍ، أَوْ رَسُولٍ، فَمَنْ لَمْ يَأْتِه الْوَحْيُ فَقَدْ يَنْبَغِي لَه أَنْ يَطْلُبَ الرُّسُلَ، فَإِذَا لَقِيَهُمْ عَرَفَ أَنَّهُمُ الْحُجَّةُ وأَنَّ لَهُمُ الطَّاعَةَ الْمُفْتَرَضَةَ. وقُلْتُ لِلنَّاسِ تَعْلَمُونَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّه (صلَّى الله عليه وآله) كَانَ هُوَ الْحُجَّةَ مِنَ اللَّه عَلَى خَلْقِه. قَالُوا بَلَى. قُلْتُ: فَحِينَ مَضَى رَسُولُ اللَّه (صلَّى الله عليه وآله): مَنْ كَانَ الْحُجَّةَ عَلَى خَلْقِه؟ فَقَالُوا الْقُرْآنُ.

فَنَظَرْتُ فِي الْقُرْآنِ فَإِذَا هُوَ يُخَاصِمُ بِه الْمُرْجِئُ، والْقَدَرِيُّ، والزِّنْدِيقُ الَّذِي لَا يُؤْمِنُ بِه حَتَّى يَغْلِبَ الرِّجَالَ بِخُصُومَتِه، فَعَرَفْتُ أَنَّ الْقُرْآنَ لَا يَكُونُ حُجَّةً إِلَّا بِقَيِّمٍ، فَمَا قَالَ فِيه مِنْ شَيْءٍ كَانَ حَقًّا. فَقُلْتُ لَهُمْ: مَنْ قَيِّمُ الْقُرْآنِ فَقَالُوا؟ ابْنُ مَسْعُودٍ قَدْ كَانَ يَعْلَمُ، وعُمَرُ يَعْلَمُ، وحُذَيْفَةُ يَعْلَمُ.

قُلْتُ: كُلَّه؟ قَالُوا لَا.

فَلَمْ أَجِدْ أَحَدًا يُقَالُ إِنَّه يَعْرِفُ ذَلِكَ كُلَّه إِلَّا عَلِيًّا (عليه السَّلام)، وإِذَا كَانَ الشَّيْءُ بَيْنَ الْقَوْمِ فَقَالَ هَذَا لَا أَدْرِي، وقَالَ هَذَا لَا أَدْرِي، وقَالَ هَذَا لَا أَدْرِي، وقَالَ هَذَا أَنَا أَدْرِي. فَأَشْهَدُ أَنَّ عَلِيًّا (عليه السَّلام) كَانَ قَيِّمَ الْقُرْآنِ، وكَانَتْ طَاعَتُه مُفْتَرَضَةً، وكَانَ الْحُجَّةَ عَلَى النَّاسِ بَعْدَ رَسُولِ اللَّه (صلَّى الله عليه وآله)، وأَنَّ مَا قَالَ فِي الْقُرْآنِ فَهُوَ حَقٌّ.

فَقَالَ (عليه السَّلام): رَحِمَكَ اللَّه”[1].

وقال أبو جعفر (عليه السَّلام): “إِنَّمَا يَعْرِفُ الْقُرْآنَ مَنْ خُوطِبَ بِه”[2].

وعن أبي عبد الله (عليه السَّلام) في قوله تعالى (فَإِنَّما يَسَّرْناه بِلِسانِكَ لِتُبَشِّرَ بِه الْمُتَّقِينَ وتُنْذِرَ بِه قَوْماً لُدًّا)، قَالَ:

“إِنَّمَا يَسَّرَه اللَّه عَلَى لِسَانِه حِينَ أَقَامَ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السَّلام) عَلَمًا فَبَشَّرَ بِه الْمُؤْمِنِينَ وأَنْذَرَ بِه الْكَافِرِينَ وهُمُ الَّذِينَ ذَكَرَهُمُ اللَّه فِي كِتَابِه: لُدًّا؛ أَيْ كُفَّارًا”[3].

ولم يرِد لا في الكتاب العزيز ولا في الروايات الشريفة حثًّا أو أمرًا للمؤمنين بتفسير آيات القرآن. أمَّا مثل قوله تعالى (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ القُرْآَنَ) فهو بيان لفضيلة التأمُّل والتفكُّر على مهل، والنظر في العواقب، ولا علاقة لهذا بالتفسير.

قال رسول الله (صلَّى الله عليه وآله): قال الله عزَّ وجلَّ: “ما آمن بي من فَسَّر برأيه كلامي، ومَا عَرَفَنِي مَن شَبَّهَنِي بِخَلْقِي، ومَا عَلَى دِينِي مَنْ اسْتَعْمَلَ القِيَاسَ فِي دِينِي”[4]. ومع نفي (الرأي) لا يبقى غيرُ الوحي. فتأمَّل جيِّدًا رعاك الله تعالى.

وإذا كان “كلامكم نور، وأمركم رشد، ووصيتكم التقوى”[5] كما في الزيارة الجامعة، فإنَّ تدبُّر الآيات الشريفة وتأمُّلها والتفكُّر فيها لا يصحُّ ولا ينبغي أن يكون من مؤمن بغير نور كلامهم (عليهم السَّلام). وليكن مِن المؤمن ما يكون مِن توجهات ومباني فكرية، فإنَّها ذات قيمة ما دامت تحت حكومة الحديث الشريف، وإلَّا فهي ضلال وإلى ضلال.

وليس بجديد أن يُمتطى التفسير وتُرفع رايته طلبًا للدنيا، وأجد من المناسب هنا تعميق التلمُّذ على مائدة الثقلين بذكر رواية الإمام علي بن الحسين زين العابدين (عليه السَّلام)، قال:

“إذا رأيتم الرجل قد حسُن سمتُه وهديُه، وتماوت في منطقه، وتخاضع في حركاته، فرويدًا، لا يغرنكم؛ فما أكثر من يعجزه تناول الدنيا وركوب الحرام منها لضعف نيته ومهانته وجبن قلبه فنصب الدين فخًّا لها، فهو لا يزال يختل الناس بظاهره فإن تمكن من حرام اقتحمه.

وإذا وجدتموه يعفُّ عن المال الحرام فرويدًا، لا يغرنكم؛ فإنَّ شهوات الخلق مختلفة فما أكثر من ينبو عن المال الحرام وإن كثر، ويحمل نفسه على شوهاء قبيحة فيأتي منها مُحَرَّمًا.

فإذا وجدتموه يعفُّ عن ذلك فرويدًا، لا يغركم حتَّى تنظروا ما عقده عقله، فما أكثر من ترك ذلك أجمع، ثم لا يرجع إلى عقل متين، فيكون ما يفسده بجهله أكثر مما يصلحه بعقله.

فإذا وجدتم عقله متينا فرويدًا، لا يغركم حتَّى تنظروا أمع هواه يكون على عقله؟

أو يكون مع عقله على هواه؟ وكيف محبته للرئاسات الباطلة وزهده فيها، فإنَّ في الناس من خسر الدنيا والآخرة يترك الدنيا للدنيا، ويرى أنَّ لذة الرئاسة الباطلة أفضل من لذة الأموال والنعم المباحة المحللة، فيترك ذلك أجمع طلبا للرئاسة، حتَّى إذا قيل له: اتق الله أخذته العزة بالإثم فحسبه جهنم ولبئس المهاد.

فهو يخبط خبط عشواء يقوده أول باطل إلى أبعد غايات الخسارة، ويمده ربه بعد طلبه لما لا يقدر عليه في طغيانه.

فهو يحل ما حرم الله، ويحرم ما أحل الله، لا يبالي بما فات من دينه إذا سلمت له رئاسته التي قد يتقي من أجلها، فأولئك الذين غضب الله عليهم ولعنهم وأعد لهم عذابا مهينا.

ولكنَّ الرجل كل الرجل نعم الرجل هو الذي جعل هواه تبعًا لأمر الله، وقواه مبذولة في رضى الله، يرى الذل مع الحق أقرب إلى عز الأبد من العز في الباطل، ويعلم أنَّ قليل ما يحتمله من ضرائها يؤديه إلى دوام النعيم في دار لا تبيد ولا تنفد، وإنَّ كثير ما يلحقه من سرائها إن اتبع هواه يؤديه إلى عذاب لا انقطاع له ولا يزول، فذلكم الرجل نعم الرجل، فبه فتمسكوا، وبسنته فاقتدوا، وإلى ربكم به فتوسلوا، فإنَّه لا ترد له دعوة، ولا تخيب له طلبة”[6].

وروح الختام ما عَنْ يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا الأَنْصَارِيِّ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّه (عليه السَّلام)، قَالَ سَمِعْتُه يَقُولُ: “مَنْ سَرَّه أَنْ يَسْتَكْمِلَ الإِيمَانَ كُلَّه فَلْيَقُلِ الْقَوْلُ مِنِّي فِي جَمِيعِ الأَشْيَاءِ قَوْلُ آلِ مُحَمَّدٍ فِيمَا أَسَرُّوا ومَا أَعْلَنُوا وفِيمَا بَلَغَنِي عَنْهُمْ وفِيمَا لَمْ يَبْلُغْنِي”[7].

 

السَّيد محمَّد بن السَّيد علي العلوي

13 شعبان 1444 للهجرة

البحرين المحروسة

…………………………………………………………….

[1] – الكافي – الشيخ الكليني – ج 1 – ص 168 – 169

[2] – الكافي – الشيخ الكليني – ج 8 – ص 312

[3] – الكافي – الشيخ الكليني – ج 1 – ص 431 – 432

[4] – الأمالي – الشيخ الصدوق – ص 55 – 56

[5] – عيون أخبار الرضا (عليه السَّلام) – الشيخ الصدوق – ج 2 – ص 309

[6] – الاحتجاج – الشيخ الطبرسي – ج2 ص53

[7] – الكافي – الشيخ الكليني – ج 1 – ص 391

مقالات مشابهة

اترك تعليق


The reCAPTCHA verification period has expired. Please reload the page.