الواقع الجدلي لقضيَّة الطرح السياسي وما نحوه في قصائد مواكب العزاء

بواسطة Admin
1 تعليق 785 مشاهدة

 

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربِّ العالمين، والصَّلاة والسَّلام على أشرف الأنبياء والمرسلين محمَّد وآله الطيبين الطاهرين

الواقع الجدلي لقضيَّة الطرح السياسي وما نحوه في قصائد مواكب العزاء

تكثر القضايا الجدليَّة في مجتمعاتنا حتَّى بدا وكأنَّ كلَّ قضيَّة تُطرح فهي عرضةٌ ليتحوَّل بِها المجتمع إلى صراع واحتراب قِوامه الجدل، وتبدأ القصَّة دون معالم لنهايتها أو حسمها، ولا يكون سكونها حينًا إلَّا لتشتعل في حين لاحق.. وهكذا..

مِن آخر قضايا النزاع.. وَعَنْ قَريبٍ الاحتراب، قَضِيَّةُ التطَرُّقِ للأمور السياسيَّة أو الاجتماعية أو ذكر الرموز الدينيَّة في قصائد مواكب عزاءِ العِترة الطاهرة، وفي ذلك ظهرت أطراف الجدل في شريحة رافضة، وثانيَّة ترى عدم البأس، وثالثة ترى أهميَّة الطرح السياسي وما نحوه في مواكب العزاء، وكما هو المعتاد دائمًا فإنَّنا لا نرى نقاشًا علميًّا ولا استعدادًا يُبْديِهِ طرفٌ للتراجع عن رأيه أمام الدليل الأقوى، وكلُّ ما نراه هو إعلان الاستعداد للمناظرة يرفع كلُّ طرفٍ به صوتَه وكأنَّه إعلانُ حَرْبٍ ومجابهة!

وتدور الرحى الطاحنة على هذا النحو منذ عقود ولا زالت في قوَّةٍ تَتَضَاعَفُ مَعَ كلِّ قضيَّة جديدة.. ولا حول ولا قوَّة إلَّا بالله العلي العظيم..

القضيَّة الجدليَّة العِلمِيَّة: هي القضيَّة الخلافيَّة التي يرفض أطرافُ النِّزَاعِ حلُولَها لِمَا يَرِدُ عَليهَا مِنْ نَقضٍ وإبرامٍ فَتَبْقَى مَفْتُوحَةً دُونَ حَسمٍ.

يستفيدُ الدرس الفلسفي مِن مثل هذه القضايا لتنمية ذهنية البحث والتحليل عند الطالب ولرصد النوابغ ممَّن يقتربون من إغلاق القضيَّة بحلول لا يرد عليها نقض.

السِّمَةُ الأهمُّ في القضيَّة الجَدَلِيَّة العِلمِيَّة: إنَّ من أهمِّ ما تتميَّز به القضيَّة الجَدَلِيَّة العلميَّة قيامها على أسس صحيحة يكون الباحث على دراية تامَّة بها، كما وأنَّ بناءها في مجمله صحيح وموافق للأسس العلميَّة، وإنَّما تكون جدليَّة لغياب أمر دقيق أو ممَّا لا يُلتفتُ إليه في العادَّة، أو أنَّ مشكلة خفيَّة في جهة من جهات البناء أو حتَّى في أسس القضيَّة، فتكون مادَّة للإيراد والنقض والإبرام بين أهل العقول النابهة.

الجدل الناشئ عن ضعف البناء العلمي التحليلي عند أطراف التنازع: نحن في الغالب نواجه قضايا لها أصولها التاريخيَّة، والقليل منها يكون مستحدثًا دون أصول لها واقعها التاريخي العلمي. تنشأ مشكلة الجدل غير العلمي مِن أمور، منها:

1/ إرغامُ قضيَّة مستحدثة على أن تكون في الأفهام قضيَّة ذات أصل تاريخي، في حين أنَّ الحقَّ ليس كذلك. ومِن كوارث هذا القصور العلمي جعل القضية المُستَحدَثة أصلًا في فهم القضايا التاريخية التي قام البناء الفكري على كونها أصلًا لها.

2/ اعتبار الفهم الحديث فهمًا أصيلًا فيُستصحب لفهم المصطلح التاريخي، في حين أنَّ الحقَّ ليس كذلك، وإنَّما هو فهمٌ صَنَعَهُ وَفَرَضَهُ وَاقِعٌ قَائِمٌ فعلًا ولم يُحمل حملًا علميًّا من تاريخه الأوَّل إلى تاريخه المُعاصر.

3/ البناء على كون الواقع المعاصر هو الجهة التي ينبغي للدين أن يواكبها. والحقُّ أنَّ الحياة وتحولاتها هي التي ينبغي أن تحافظ دائمًا على مواكبتها للدين. ومِن كوارث هذا الاعوجاج التأصيل لاختلاق البدائل (المُشَرْعَنة)، وكلَّما استحدث الشَّيطانُ مُشغِلًا دنيويًّا اسْتَنْفَرَ أهْلُ الدينِ بَاحِثينَ عَنْ بديل (دينوي -ولا أقول دينيًّا-).

٤/ التساهل في الإرجاع إلى عمومات، والحال أنَّها غير مُضبطة ضبطًا يُؤمِّن من الوقوع في ما يُنْقَضُ به الغرض من أصل هذا التشريع الخاص.

5/ الدُّخُولُ بالأصل في أطوار جديدة بحجَّة (التطوير). وكارثة هذه العمليَّة تَكْمُنُ في أنَّ الطور الجديد إنْ لم يَكُنْ مُوَافِقًا تَمَام المُوافَقَةِ للأصل فَهُوَ حِينَهَا تَأسيسٌ لانحِرَافٍ عنه، ثُمَّ أنَّ هذا الطور الجديد يتحوَّل إلى أصل.. وهكذا حتَّى يُبتَعَدُ في الواقع عن الأصل التشريعي الأوَّل إلى أن يُقرأ بعد أطوار متعاقبة بحسب آخرها!

مِثالُ قصائدِ موكب العزاء: أشير بدايةً إلى زعمي بأنَّ مواكب العزاء اليوم تُوَاكِبُ تَمَامًا الحياة العصرية وتُقَدِّمُ بَدَائِلَ حرَّكَتْ العَقْلَ الجماهيري للالتفاف حولها ومحاربة من يقترب منها ناقدًا أو ملاحظًا ورميه مباشرة في زاوية المُحارِب للـ(شعائر)، مُبَرِّرًا برجوع ما وقع تطويرًا لمظاهر التعزية إنَّما هو بِنَاءٌ لَهُ أصْلٌ تَشريعيٌّ وفردٌ لعامٍّ منصوص.

وأُعَقِّبُ مُؤكِّدًا على أنَّ مظاهر إحياء أمر أهل البيت (عليهم السَّلام) كما هي في واقعنا المعاصر اليوم مَمْضِيَّةٌ مِنْ فُقَهَاءِ الطَّائِفَةِ، وكُلُّ واحدٍ مِن المؤمنين (أعزَّ الله كلمتهم) يعمل تحت فتوى الفقيه الذي يرجع إليه. لذا فإنَّ ما في هذه المقالة لا يتجاوز كونه بحثًا ألتَزِمُ فِيهِ العلميَّةَ والمَوضُوعِيَّةَ، ولا علاقة له بِفتوى أو رأي شرعي، بل ولا حتَّى نقدٍ للواقِعِ القائم. وإنَّما كتبتُه لبيان الجِهَةِ التي تَحَوَّلتْ بسببها القضيَّةُ مَحَلُّ الكلام إلى قضيَّة جدليَّة غير علميَّة. فأرجو من القارئ الكريم التنبُّه إلى ذلك جيِّدًا.

ثُمَّ إنَّني أقول: تواترت الروايات الشريفة الحاضَّة والمؤكِّدة على عباديَّة وأهميَّة وفضل إحياء أمر أهل البيت (عليهم السَّلام) لا سيَّما ما يخصُّ المصائب التي حلَّت بهم في هذه الدنيا الدنيَّة، بل وثبَتَ بما لا يدع مجالًا للشكِّ إقامة الأئمَّة (عليهم السَّلام) لمجالس خاصَّة في بيوتهم يُلقي فيها الشاعر قصائد في مصائبهم فيبكي الإمام (عليه السَّلام) وتبكي النسوة، وكذا مِن الثابت أنَّهم قد صنعوا الطعام لخصوص تلك المجالس الشريفة. وثابتٌ أيضًا تخصيصهم (عليهم السَّلام) للعشرة الأولى من شهر المُحرَّم لإحياء مصيبة الإمام الحسين (عليه السَّلام)[1].

عن الكميت بن أبي المستهل، قال: “دخلتُ على سيدي أبي جعفرٍ مُحَمَّدِ بنِ عليٍّ الباقر (عليهما السَّلام) فقلتُ: يا ابن رسول الله، إنِّي قد قلتُ فيكم أبياتًا.. أفتأذنُ لي في إنشادها؟

فقال (عليه السَّلام): إنَّها أيَّام البيض!

قلتُ: فَهُوَ فيكم خَاصَّةً.

قال (عليه السَّلام): هات..

فأنشأتُ أقولُ:

أضحكني الدهر وأبكاني * والدهر ذو صرف

وألوان لتسعة بالطف قد غودروا * صاروا جميعا رهن أكفان

فبكى وبكى أبو عبد الله وسمعتُ جاريةً تبكي من وراء الخباء.. فلمَّا بلغتُ إلى قولي:

وستة لا سحارى بهم * بنو عقيل خير فتيان

ثم علي الخير مولاكم * ذكرهم هيج أحزاني

فبكى ثُمَّ قال (عليه السَّلام): مَا مِنْ رَجُلٍ ذَكَرَنَا أو ذُكِرْنَا عِنْدَهُ فَخَرَجَ مِنْ عَينيهِ مَاءٌ وَلَو قَدْرَ مثل جناح البعوضة إلَّا بَنَىَ اللهُ لَهُ بَيتًا في الجَنَّةِ وَجَعَلَ ذَلِكَ حِجَابًا بَينَهُ وَبَينَ النَّارِ.

فلما بلغت إلى قولي:

من كان مسرورًا بِمَا مَسَّكم * أو شَامتًا يومًا مِنَ الآن

فقد ذللتم بعد عزٍّ فما * أدفع ضيمًا حين يغشاني

أخذ بيدي وقال (عليه السَّلام): اللهمَّ اغفرْ لِلكُمَيت مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأخَّرَ.

فَلَمَّا بَلَغْتُ إلى قَولِي:

متى يقومُ الحَقُّ فيكم متى * يقوم مَهديُّكُمُ الثَّاني

قال (عليه السَّلام): سريعًا إنْ شَاءَ الله سريعًا. ثُمَّ قَالَ (عليه السَّلام): يا أبا المُسْتَهل، إنَّ قَائِمَنَا هُوَ التَّاسِعُ مِنْ ولد الحُسَينِ، لِأنَّ الأئِمَّةَ بَعْدَ رَسُولِ الله (صَلَّى اللهُ عَليه وآلِهِ وَسَلَّمَ) اثنا عشر وهو القائم.

قلتُ: يا سيِّدي، فمن هؤلاء الاثنا عشر؟

قَالَ: أوَّلُهم علي بن أبي طالب، وبعده الحسن والحسين، وبعد الحسين علي بن الحسين، وأنا، ثُمَّ بعدي هذا؛ ووضع يده على كتف جعفر.

قلتُ: فمن بعد هذا؟

قال (عليه السَّلام): ابنه موسى، وبعد موسى ابنه علي، وبعد علي ابنه محمد، وبعد محمد ابنه علي، وبعد علي ابنه الحسن، وهو أبو القائم الذي يخرج فيملأ الدنيا قسطًا وعدلًا ويُشْفِي صُدُورَ شِيعَتِنَا.

قلتُ: فَمَتَى يخرجُ يا ابن رسول الله؟

قال (عليه السَّلام): لقد سُئِلَ رسولُ الله (صلَّى الله عليه وآله وسَلَّمَ) عن ذلك فقال: إنَّمَا مَثَلُهُ كَمَثَلِ السَّاعَةِ؛ لا تَأتيكُم إلَّا بَغْتَةً”[2].

وعن أبي هارون المكفوف، قال: قال أبو عبد الله (عليه السَّلام): يا أبا هارون، أنشدني في الحسين (عليه السَّلام).

قال: فأنشَدتُهُ، فَبَكَى.

فقال (عليه السَّلام): أنشدني كما تُنْشِدُونَ – يعني بالرقة[3] -.

قال: فأنشدته:

امرر على جدث الحسين * فقل لأعظمه الزكية

قال: فبكى، ثُمَّ قال (عليه السَّلام): زِدْنِي.

قال: فأنشدتُه القصيدة الأخرى. قال: فَبَكَى، وسَمِعْتُ البُكَاءَ مِنْ خَلفِ السُتُرِ. قال: فَلمَّا فَرَغْتُ قال (عليه السَّلام) لي: يا أبا هارون، مَنْ أنْشَدَ في الحُسَينِ (عليه السَّلام) شِعْرًا فَبَكَى وأبْكَىَ عَشْرًا كُتِبَتْ لَهُ الجَنَّةُ، وَمَنْ أنْشَدَ في الحُسَينِ شِعْرًا فَبَكَى وأبْكَى خَمْسَةً كُتِبَتْ لَهُ الجَنَّةُ، وَمَنْ أنْشَدَ في الحُسَينِ شِعْرًا فَبَكَى وَأبْكَى وَاحِدًا كُتِبَتْ لَهُمَا الجَنَّةُ، وَمَنْ ذُكِرَ الحُسَينُ (عليه السَّلام) عِنْدَه فَخَرَجَ مِنْ عَينِهِ مِنَ الدُمُوعُ مِقْدَارَ جَنَاحِ ذُبَابٍ كَانَ ثَوابُهُ عَلَى اللهِ وَلَمْ يَرْضَ لَهُ بِدُونِ الجَنَّةِ”[4].

وعن إبراهيم بن أبي محمود، قال: قال الرِّضا (عليه السَّلام): “كان أبي (صلوات الله عليه) إذا دخل شهرُ المُحَرَّم لا يُرَىَ ضَاحِكًا، وكانت الكآبةُ تَغلبُ عليه حَتَّى يَمْضِي مِنْهُ عَشَرَةُ أيَّام، فإذا كان يَومُ العَاشِرِ كان ذَلِكَ اليومُ يومَ مُصيبَتِهِ وَحُزْنِهِ وَبُكَائِهِ، ويقول: هُوَ اليَومُ الذي قُتِلَ فِيهِ الحُسَينُ (صلوات الله عليه)”[5].

وعن عمر بن علي بن الحسين، قال: لَمَّا قُتِلَ الحُسَينُ بنُ عليٍّ (عليه السَّلام) لَبِسْنَ نِسَاءُ بني هَاشمٍ السَّوَادُ والمسُوحُ، وَكُنَّ لا يَشْتَكينَ مِنْ حَرٍّ وَلَا بَرْدٍ وَكَانَ عَليُّ بنُ الحُسَينِ (عليه السَّلام) يَعْمَلُ لَهُنَّ الطعَامَ للمَأتَمِ”[6].

وعن عبد الله بن حمَّاد البصريِّ، عن أبي عبد الله (عليه السَّلام)، قال: “بَلَغَنِي أنَّ قَومًا يَأتُونَهُ (يقصد قبر الإمام الحسين عليه السَّلام) مِنْ نَواحِي الكُوفَةِ وَنَاسًا مِنْ غَيرِهِم، ونساء يَندبْنَهُ، وَذَلِكَ في النِّصْفِ مِنْ شَعْبَان، فَمِنْ بَينَ قَارِئٍ يَقْرَأُ، وَقَاصٍّ يَقُصُّ، وَنَادِبٍ يَنْدُبُ، وَقَائِلٍ يَقُولُ المَرَاثِي.

فَقُلتُ له: نَعَم جُعِلْتُ فِدَاكَ قَدْ شَهدْتُ بَعْضَ مَا تَصِفُ.

فقال (عليه السَّلام): الحَمْدُ للهِ الذي جَعَلَ في النَّاسِ مَنْ يَفِدُ إلينَا وَيَمْدَحُنَا وَيَرْثِي لَنَا، وَجَعَلَ عَدُوَّنَا مَنْ يَطْعَنُ عَليهِم مِنْ قَرَابَتِنَا وَغَيرَهُم يُهْدِرُونَهُم وَيُقَبِّحُونَ مَا يَصْنَعُونَ”[7].

هذه أُصُولٌ عَامَّةٌ مُسَلَّمَةٌ اعتمدها الشِّيعَةُ الإماميَّة وبدأوا البناءَ عليها تحت عنوان التصحيح بالعمومات من جهة، وأصل الإباحة من جهة أخرى، وهذا الثَّاني ينتقل إلى الاستحباب لمحلِّ النِّسبة لعموم الإحياء لأمر أهل البيت (عليهم السَّلام).

إذن؛ ما نراه اليوم مِنْ مظاهر إحياءِ أمرهم (عليهم السَّلام) مِنه ما هو أصيل منصوص عليه، ومِنه ما اعتُبِر فردًا من أفراد عموم أصيل، ومِنه ما يُرى بناءً على تلك الأصول، ومِن أمثلة ذلك:

1/ الاجتماع في المآتم: كان مجلس التعزية في البيت أو عند قبر الإمام الحُسين (عليه السَّلام)، وفي حقبة تاريخيَّة رأى بعضٌ بأن يُبنى مكانًا خاصًّا يجتمع فيه المؤمنون لقراءة التعزية أطُلِق عليه اسم (مأتم) أو (حُسينيَّة).

2/ تلحين القصيدة: لمْ يُعهَد تلحين قصائد الرثاء، وإن استُدِل عليه بمثل قول الإمام الصادق (عليه السَّلام) لأبي هارون: “أنشدني كما تُنْشِدُونَ” وتفسير المراد بطلب الرِّقَة في الإنشاد أو كما ينشدون في الكوفة إذا حملناه على الترقيق أو ما يُسمَّى بـ(الموَّال) فما هو قائم اليوم قد تجاوز تلك الحدود بمراحل كثيرة، فإنَّ التلحين اليوم هو هو التلحين المعروف كعلم أو تخصُّص في مدارس الفنون وما نحوها.

3/ اللطم المعاصر: يتَّخِذُ اللطم اليوم دور الإيقاع المتوافق مع لحن القصيدة، فالمُعزِّي يلطم صدره لطمًا متناغمًا مع لحن القصيدة، وهذا ممَّا لم يُعهد ولم يُرصد في بيانات الأصول المزبورة.

4/ تسيير مواكب العزاء في الشوارع: وهذا مستغنٍ عن بيان عدمه في الأصول وبياناتها.

5/ البناء على كون مظاهر الإحياء شعائِرَ: لعموم قوله تعالى (ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ) مِن قوله: (وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ * ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ * ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الأَنْعَامُ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ * حُنَفَاء لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاء فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ * ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ * لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ * وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ).

والحال عدم الإشارة إلى هذا الدخول في عموم (شعائر) قبل عصرنا، وقد تَرَتَّبَ على ذَلِكَ اتِّخَاذُ الإحيَاءِ طريقًا إعلاميًّا نوعيًّا؛ حيثُ إنَّهم حَمَلُوا (الشعائر) على الإشعار والإعلام، والنتيجة أن تكون مظاهر إحياء أمر أهل البيت (عليهم السَّلام) أداة إعلاميَّة للدين بشكل عام ومذهب الحقِّ على وجه الخصوص، ولا شكَّ في أنَّ للإعلام خطابه الذي ينبغي أن يكون مدروسًا وذا أهداف وغايات واضحة.

فرضيَّاتٌ ثلاث لأصول التوجُّهات الفكريَّة في ما يخصُّ تقييم واعتبار واقع الإحياء المُعاصِر:

الأولى: البِنَاءُ على كَونِ الوَاقِعِ المُعاصِرِ للإحياء امتدادًا صحيحًا لأصوله التاريخيَّة الواردة عن أهل العصمة (عليهم السَّلام).

الثَّانيَة: البِنَاءُ على كَونِ الوَاقِعِ المُعاصِرِ للإحياء انحرافًا عن الأصول التي بيَّنها الأئمَّةُ الطَّاهِرُون (عليهم السَّلام)، وليس مِن وجهٍ شَرعيٍّ لَهَا غير الإباحة، ونسبتها للإحياء الأصلي مانعٌ من إمكان التسليم بأصالة الإباحة؛ وذلك لوضوح ثبوت الاستحباب أو الوجوب للإحياء. فتأمَّل.

الثَّالثة: البِنَاءُ على كَونِ الوَاقِعِ المُعاصِرِ للإحياء مرضيًّا لله تعالى حتَّى مع عدم عدِّ مظاهره مِنَ الشعائر؛ فهو على أيَّة حالٍ حِراكٌ إسْلاميٌّ شيعيٌّ لا غرابة في اعتباره صوتًا للتشيُّع.

أمَّا محاولة التبعيض فهي فرضيَّة رابعة مرفوضة تمامًا لانهدام ركنها العلميِّ وهو ركن الضبط بين الأصول المُسلَّمة وبين بناء المظاهر منذ أوَّل عهدها إلى يومنا المعاصر.

فنقول: الظَّاهِرُ هُوَ غَلَبَةُ الفَرَضِيَّةِ الأولَى على واقعنا اليوم.. أقول (غلبة) ولستُ في صدد تصحيح الفرضيَّة أو تخطئتها، وعليه:

أوَّلًا: إنَّ اللطم المعروف في مواكب العزاء إنَّما هو مفردة في منظومة الموكب إلى جانب المُنشد والقصيدة واللحن، وهو ليس اللطم اللاشعوري الذي ينتج عادةً عَن تفاعل الإنسان مع المصيبة سواء من خلال التذكُّر والاستحضار أو من خلال قصيدة يسمعها أو تمثيل يشاهده، ولذا نرى أنَّ لطم المُعزِّين في الموكب يبدأ مع أوَّل بيتٍ من القصيدة، وقد يلطم المُعزِّي وهو يتحدَّث إلى مَنْ بجانِبِه، وقد يضحك.. وقد يتفاعل مع كلمات القصيدة أو مع لحنها وصوت المُنشِد، وفي جميع هذه الحالات فهو ليس اللطم اللاشعوري الذي لا علاقة له بإيقاعِ لَحْنٍ ولا بنظمٍ مُعيَّنٍ.

ثانيًا: إنَّ لتسجيل وبثِّ القصيدة في موكب العزاء وتداولها طوال السنة بين النَّاس دلالة على البناء الإعلامي، فيكون موكب العزاء واقعًا لمرَّة واحدة، ومُتكَرِّرا في الأيَّام لِمُجَرَّدِ الاستماع والترديد، فيخرج عن الغاية الأصل وهي الإحياء بالمعنى الأخص وإن تضاعف تداوله وانتشر ليملأ الأرض.

وبالتالي:

لِمَ يُرفَضُ ذِكْرُ القَضَايَا السِّياسِيَّة أو الاجتماعيَّة، أو ذِكرُ الرمُوزِ الإسلاميَّة في قصائد العزاء التي تُلقى في المواكب؟ لا وجه لذلك؛ فإنَّ اللطمَ، كما هو في واقعنا القائم، مُفْرَدَةٌ في مَنْظُومَةِ المَوكِبِ مَحْكُومٌ بإيِقَاعِ اللحنِ وسَيرِ العَزَاءِ، وَنَفْسَ المَوكِبِ طَريقٌ إعلاميٌّ ينطلق لِسانُه من قضيَّةِ إحياء أمرهم (عليهم السَّلام) ويتوسَّع في كلِّ ما يُنَاسِبُ مَبَادِئَهم وقِيَمَهُم (صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين).

نعم؛ ترفُضُهُ عَلَى الوَجْهِ العِلْمِيِّ طَائِفَةُ الفَرَضَيَّةِ الثَّانِيَةِ، وإلَّا فرفض الأولى والثالثة لا يعدو كونه استحسانيًّا ولا يلزم منه الرفض والاعتراض والدخول في صراعات ونزاعات مع الآخر، ولكن هيهات؛ فالقضيَّة مفتوحة دون حلول، وعلَّة ذلك الخلل المنهجي الكبير في التأصيل لمظاهر الإحياء المعاصرة. ومِن أبرز نتائج الخلل طلب الفتوى مِن الفقيه في خصوص ذكر القضايا السِّياسيَّة وأسماء الرموز والقياديات في قصائدِ مواكبِ العزاء، وكل العجب في الوقوف على أجوبة على هذا التساؤل!

أقول: لا كلام في عدم المعارضة الشرعية لذكر القضايا السِّياسيَّة أو الاجتماعيَّة أو أسماء القياديات والرموز في قصائد العزاء ما لم تكن فيها إساءةٌ أو ما شَابَه مِمَّا يُحرِّمه الشرع، وإلَّا فبعنوانها الأوَّلي لا تُعارَضُ مُعَارَضَةً شَرعِيَّة، ولا وجه على الإطلاق لطلب الفتوى في مثل ذلك، فالمأتم وموكب العزاء ليسا مِن الأعمال العباديَّة المركبة مِن أجزاء وشروط حتَّى نبحث صحتها وبطلانها عند فقدان جزء أو شرط. فافهم رعاك الله تعالى.

خلاصة الكلام:

يرجعُ الواقع الجدلي لقضيَّةِ الطرح السِّيَاسي في قصائد مواكب العزاء إلى خلل عظيم في مبادئ المنهج التحليلي والتأصيلي للقضيَّة، وهو خللٌ مستحكم في الكثير من قضايانا لا سيَّما الخلافيَّة منها، وسيبقى الجدل قائمًا ولا أتصوَّر ارتفاعه؛ فإنَّ القضايا القائمة تقوم اليوم على عقل جمعي في غاية القوَّة والعنفوان ما يمنع السواد الأعظم مِن مجرَّد المراجعة المنهجيَّة لمعتنقاته وآرائه وأفكاره، ولهذا الإعضال خلفيات في غاية التعقيد.

وكيف كان فلا وجه ولا مُبرِّر للتصارع على الإطلاق، بل لا وجه لمناقشة صحَّة وعدم صحَّة طرح أو ذكر القضايا السِّياسيَّة والاجتماعيَّة وأسماء القادة والرموز في قصائد المواكب إلَّا من جهة ما اعتيدَ عليه وما يُستحسن وما لا يُستحسن، وهي مُجَرَّدُ آرَاءٍ ومِن بعدها كلٌّ وخياره دون أدنى حزازاة على الإطلاق.

وإن طُلِب التداول العلمي فأوَّلُه الكلام المبسوط في الأصول والمباني، وإلَّا فلا.

ولا حول ولا قوَّة إلَّا بالله العلي العظيم

 

السَّيد محمَّد بن السَّيد علي العلوي

29 من شهر رمضان 1444 للهجرة

البحرين المحروسة

………………………………..

[1] – راجع للكاتب: مختصرٌ في الأطر العامَّة لأطوار المأتم الحُسيني: https://alghadeer-voice.com/archives/4153

[2] – كفاية الأثر – الخزاز القمي – ص 248 – 250

[3] – ليس من متن كلام الإمام (عليه السَّلام)

[4] – كامل الزيارات – جعفر بن محمد بن قولويه – ص 208

[5] – الأمالي – الشيخ الصدوق – ص 191

[6] – المحاسن – أحمد بن محمد بن خالد البرقي – ج 2 – ص 420

[7] – كامل الزيارات – جعفر بن محمد بن قولويه – ص 539

مقالات مشابهة

1 تعليق

إقران مصائب أهل البيت (عليهم السَّلام) بمصائب غيرهم في قصائد العزاء - صوت الغدير 4 ديسمبر، 2023 - 10:45 م

[…] وما نحوه في قصائد مواكب العزاء) على موقع صوت الغدير: ( https://alghadeer-voice.com/archives/6116 […]

رد

اترك تعليق


The reCAPTCHA verification period has expired. Please reload the page.