بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربِّ العالمين، والصَّلاة والسَّلام على أشرف الأنبياء والمرسلين محمَّدٍ وآلِهِ الطيبين الطاهرين
يثبتُ الموضوعُ لعوامل ذاتية كالثقل أو التجذُّر، أو لعوامل خارجة عنه كالقوة الجاذبة والمانعة عن تزعزعه أو لضغط يباشر أنحاءه فِيحَيِّزه ولا يسمح بتحرُّكه. ومن الواضح أنَّ عوامل الثبوت الذاتيَّة قوَّة للموضوع تعطيه استقلالًا يغنيه عن الحاجة لغيره، أمَّا الثابت لعوامل خارجة عن حدِّ نفسه فِيبقى رهينًا لها ولِمَدَى بَقَائِهَا إلى جانبه.
نَفْسُ مُعادَلات الثبات هذِهِ تَنْطَبِقُ عَلَى القَضَايَا المَعْنَويَةِ مِنْ أفْكَارٍ ونَظَريَّاتٍ وَمَا نَحْوهَا، وكَذَا عَلَى الشَّخْصيَّاتِ ذَاتِ الطَّرْحِ الفِكْري وَمَا شَابَه، فإنَّ الفِكرَةَ الرَّصِينَةَ تَسْتَنْهِضُ هِمَمَ المُفَكِّرينَ وَتَبْعَثُهُم لِتَأمُّلِهَا وَتَدَاولِها وَمُنَاقَشَتِهَا وَنَقْدِهَا فَتَتَطَوَّر وَتَبْقَى فِي مَيْدَانِ العِلْمِ مَادَّةً للفِكْرِ والنَّظَرِ، وَفِي الغَالِبِ يَبْقَى صَاحِبُ الفِكْرَةِ أو النَّظَريَّةِ أو البَحْثِ بِبَقَائِهَا دُونَ حَاجَةٍ لِعَوَامِلَ إبْقَاءٍ خارجيَّة، ولنا فِي علمائنا الأعلام خَيرُ مِثال، فالصَّدُوقُ (نَوَّرَ اللهُ مَرْقَدَهُ الشَّرِيف) واقِعٌ مَعْلُولٌ لِمَا قدَّمَه مِن عِلمٍ رصين بَقيَ مَادَّةً عِلميَّةً لا يزال أجِلَّةُ العلماء على شواطئها يأخذون من خيرها، وكذا كافِي الكليني وأسفار شيخ الطائِفة والمفِيد والسَّيد المرتضى وصولًا لأعلام الحِلَة مِن ابن إدريس إلى المُحقِّق وبعده العلَّامة والأعلام العامليين.. كلُّ هؤلاء أو أغلبهم لم يكونوا فِي ضِمنِ تيَّارٍ سياسيٍّ أو حِزبٍ أو ما نحو ذلك مِنْ عوامل خارجيَّة تفرضهم على مجتمع البحث العلمي، وإنَّما هُوَ ثِقلُ عِلْمهِم لا غير وإن تأخَّر بَعْضُهَا عن زَمَانِها فِي استنهاض العلماء واستفزاز قرائحهم العلميَّة؛ فَالطَّيِبُ يَتَجَذَّرُ وَيَنْمُو وَيُورِقُ وَلَو بَعْدَ حِينٍ.
كِفاية الآخوند:
تعرَّض كتاب كفاية الأصول للشَّيخ محمَّد كاظم الخُراساني المعروف بالآخوند (رحمه الله تعالى) للكثير من الإعابة، بل والتسقيط، تارة لسوء فصاحته ورِكَّةِ تعابيره، وأخرى لما فِيه من مطالب وصفوها بالترف مرَّة وبالعقم العلمي أخرى.. وبالرغم من ذلك نجِدُ أنَّ قوَّةَ العالِم الأصولي خافتَة معزولة ما لم تُبرِزُها بحوثه، أو تعليقاته، أو حواشيه، أو دروسه على كفاية الآخوند الخراساني، ولم يبق توجُّهٌ علميٌّ فِي الساحة الحوزوية الشِّيعيَّة إلَّا وَطَرَقَ أبْوَابَ الكِفَايَةِ ليتأكَّد نفسُ البَاحِثُ مِن رسوخه العلمي ولِتطمَئِن ميادينُ العُلَمَاءِ لقوَّته العلميَّة، أمَّا مَنْ تَرَكَ الكفاية فقد اضطره الواقِعُ فِي الغالب إلى الانزواء والاكتفاء بالجلوس عند زاوية النسيان!
ظهرت كتبٌ أصوليَّة مَتينة، ولكنَّها لم تتمكَّن من زحزحة الكفاية عن مكانها فِي الأوساط العلمية العالية، وكم بُذِلَت مِنْ جهودٍ لإبرازها وإظهارها على غيرها إلَّا أنَّ آثارها سرعان ما تخبو بمجرَّد وصول الروافِع لمحطَّة تعبٍ أو يأس؛ فهي ليست إلَّا عوامل تثبيتٍ خارجيَّة ولن تنال مِن جهدها المبذول غير التعب إلَّا أنْ تكون إرادة الله تعالى فِي ظهور الكتاب أو الجهد العلمي فِي زمن غير هذا الزمن الذي تَبْذُلُ فِيه الرَّوافِعُ جُهُودَهَا.
وَقِسْ على ذلك فرائد الشَّيخ الأعظم ومكاسبه، وبحوث النائيني وآغا ضياء الدين وغيرهم ممَّن لا مرجع لبقائهم غير متانة ما قدموه من عِلم.
عوامل الإقصاء والقتل:
هناك من البحوث الوازنة ما أعرضَ عنها الأعلام لعوامل خارجيَّة كبحوث ابن الجنيد الذي اتُهِمَ بالقياس، بل وبأكثر من ذلك، وابن إدريس الذي اسْتَصْغَرَهُ أبْنَاءُ زمانه بعد تعرُّضه بالنقد لآراء شيخ الطائفة الطوسي، غير أنَّ هذه العوامل لا بقاء لها وإنْ نجحتْ فِي إقصاء العلم فَنَجَاحُهَا مُؤقَّتٌ ولا يمكن للعلم الوازن إلَّا أن يظهر ويتغلَّب على كلِّ الظروف والعوامل الإقصائيَّة.
المَادَّةُ العلميَّةُ واقِعٌ قائِمٌ بِذَاتِه:
عندما يقع كتابٌ مِثل شرائع الإسلام للمُحقِّق الحلي (رضوان الله تعالى عليه) أو العروة الوثقى للسَّيِّد اليزدي (أعلى الله درجاته) فإنَّ الفقيه ينبعِث لمناقشته والتعليق عليه وما نحو ذلك ممَّا تُحقِّقُه درجاتُ كماله العلمي، ومع توالي الشروح والتعليقات على كتاب ما فإنَّنا نراه بعد حين وقد أصبح مدارًا للبحث العلمي فِي مجاله.
فِي قبال هذه الحالة الطبيعيَّة نجد تراجع الكتاب الذي يتكلَّف أصحابُهُ شَرحَهُ أو التعليقَ عليه؛ إذ أنَّ هذا التكلُّف يكشف فِي الغالب عن عدم كون الكتاب مادَّةً علميَّة وإنْ كان علميَّا.
هذا أمرٌ، وأمرٌ آخر أنْ يكون التعليق على الكتاب أو شرحه لباعِثٍ عاطِفِيٍّ تُوَلِّدُهُ التجمعاتُ الحزبيَّة أو جماعات التيَّارات أو ما شابه، فهذا لن يُصَيِّرهُ مادَّةً تستثير العلماء وذوي المداقَّة العلمية العالية.
هناك من البحوث والنظريات التي أنتجتها عقولٌ قبل عقود أو بضع مئات من السنين وقد ناقشها الأعلام واتَّسَقَتْ فِي بحوث جديدة وأصبحَت من المباني العلمية حتَّى فقدت استقلالها الذاتي بالرغم من وجودها فِي أسس البناء العلمي. نفس هذه النظرية يطرحها عالِمٌ مُعاصِر وتُنسَب إليه، فبالرغم من عدم التفات الكثيرين إلى أنَّها من نظريات القرن السادس الهجري مثلًا إلَّا أنَّها لن تجِد مِن ينبعث لبحثها ومناقشتها وتداولها؛ والسبب فِي ذلك دخولها فِي البناء الفكري للأعلام وبالتالي فهي لم تعد مادَّة علميَّة مستقلة وإن كانت لا تزال عِلمًا، وهذا ما لا يفهمه مَنْ ينبغي ويُنتظر منه الفهم!
مِن جملة النظريات نظريَّةٌ فِي بيانات الشارع المقدَّس للأحكام الشرعيَّة وقد برز بها عَلَمٌ مِنَ الأعلام المعاصرين وطَرَحَهَا الأكثَرُ على أنَّها من ابتكاراته، وكم جَدَّتْ الجُهُودُ فِي إبرازها والإشارة إليها كنِتَاجٍ عَبْقَري، ولم نرَ أثرًا لها بحجم ما بُذِل مِن أجل إبرازها، ولم يكن ذلك لضعفها، ولكن لأنَّها ممَّا طرحه وناقشه الشَّيخ الطوسي (قدَّس الله نفسه) قبل قرابة ألف سنة!
قد لا يكون المُعَاصِرُ على معرفةٍ بكونها ممَّا ناقشه الشَّيخ الطوسي، وهذا ما أُرجِّحه، ولكنَّ هذا غير مهم فِي واقع المسألة من جهة كونها مادَّة علميَّة أو لا. فافهم رعاك الله تعالى.
إحياء علم العلماء:
عندما يكتب العالِمُ ولا ينشر، أو عندما يكتب ولا تساعدُه الظروف المحيطة على انتشار ما كتب، فقد يحتاج المقام حينها إلى بعض الجهود العلميَّة بقصد الإلفات لأطروحة لم يُلتفَتُ إليها، أو لشخصيَّة غُفِل عنها، وهذه الجهود لا أثر لها ما لم تكن علميَّة بحقّ، وحينها لو أنَّ ألفَ لِقَاءٍ وَتَجَمُّعٍ عُقِدَ بِقَصْدِ الإلفات للأطروحةٍ أو لصاحبها فإنَّها لن تكون ذات أثر ما لم تخرج منها ورقةٌ أو دراسةٌ أو بحثٌ علميٌّ وازِن، ولن يكفِي تسميَّة التجمُّع مؤتمَرًا، ولا الموضوع الإنشائي والعاطفِي وَرَقَةً عِلميَّة لبروز الأطروحة وتحولها إلى مادَّة علميَّة لها واقعها القائم؛ فإنَّ المعنيين يتقنون التفريق بين ما هو علميٌّ وبين ما ترادُ له العلميَّة قسرًا وجبرًا!
لذا فقد نكون اليوم فِي حاجةٍ إلى لجنة أو لجان لتنظيم المؤتمرات والدعوة لكتابة البحوث والدراسات حول الأطروحات والنظريات العلميَّة بتجرُّدٍ عن غير العِلم وموازينه الواضحة، وأعتقد بأنَّ مثل هذه الخطوة من شأنها أن تكشف لنا عن دقائِق فِي غاية الأهميَّة قد اشتملت عليها مُصنَّفاتٌ وبحوثٌ لعلماء ربَّما بقوا مغمورين لعقود وقرون.
كما ونحتاج إلى هِمَم عالية يُشمِّر أصحابُها عن سواعد الجِدِّ للتعليق والشرح لكلِّ مسألةٍ ذات متانة علميَّة حقيقيَّة. وهذا ما يُتعاطى به مع العلم والعلماء. فتدبَّر رعاك الله تعالى.
بقاء العالِم ببقاء علمه النوعي ولا شيء غير ذلك:
قال رسول الله (صلَّى الله عليه وآله): “المؤمن إذا مات وترك ورقة واحدة عليها علم، تكون تلك الورقة يوم القيامة سترًا فِيما بينه وبين النار، وأعطاه الله تبارك وتعالى بكل حرف مكتوب عليها مدينة أوسع من الدنيا سبع مرات، وما من مؤمن يقعد ساعة عند العالم، إلا ناداه ربه عز وجل: جلست إلى حبيبي، وعزتي وجلالي لأسكننك الجنة معه ولا أبالي”[1].
عن أبي عبد الله الصادق جعفر بن محمَّد (عليه السَّلام)، قال: “إذا كان يوم القيامة جمع الله عزَّ وجلَّ الناس فِي صعيد واحد، ووضعت الموازين، فتوزن دماء الشهداء مع مداد العلماء، فِيرجح مداد العلماء على دماء الشهداء”[2].
وفِي الحديث عنه (صلَّى الله عليه وآله): “إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلَّا من ثلاث؛ ولد صالح يدعو له، وصدقة جارية، وعلم ينتفع به”[3].
لم يصلنا مِن مُصنَّفات شيخ المُحدِّثين الكليني (نوَّر الله مرقده الشريف) غير كتابه الكافِي، وبالرغم مِن كفاية كونه جامعًا لحديث الطاهرين (عليهم السَّلام) ليبقى ما بقي الدهر إلَّا أنَّ بُعدًا علميًّا له دوره المهم فِي صيرورة الكافِي مادَّة علميَّة؛ وأعنى القوَّة والمتانة العلميَّة للشَّيخ فِي تبويب الأحاديث؛ فهو تبويب قائِمٌ على مباني علميَّة دقيقة لا سيَّما من جهة الترتيب والتقديم والتأخير.
وكذا بحار الأنوار للعلَّامة بالحقِّ الشَّيخ المجلسي (نوَّر الله مرقده الشريف)؛ فإنَّ بياناته وشروحه للأحاديث قائِمٌ على تضلُّعه ودرايته العظيمة بما استقرَّ فِي بحاره من كنوز الأحاديث والروايات الشريفة عن أئمَّة الهدى (صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين).
إنَّ هذا الرسوخ العلمي هو العامل الأساس والأصل فِي بقاء هذه الأسماء لامعة متألِّقة فِي سماء مذهب الحق رفع الله رايته وأعَزَّ كلمته.
اللهمَّ ارزقنا الحُسنَ فِي مقاصدنا والإخلاص فِي نوايانا والصدق فِي مرامينا.
والحمد لله ربِّ العالمين، والصَّلاة والسَّلام على أشرف الأنبياء والمرسلين محمَّدٍ وآلِه الطيبين الطاهرين.
السَّيِّد محمَّد بن السَّيِّد علي العلوي
7 شوَّال 1444 للهجرة
البحرين المحروسة
……………………………
[1] – الأمالي – الشيخ الصدوق – ص 91
[2] – الأمالي – الشيخ الصدوق – ص 233
[3] – عوالي اللئالي – ابن أبي جمهور الأحسائي – ج 1 – ص 97