منهجية الدرس ومصطلح (المتن العلمي)

بواسطة Admin
0 تعليق

إنَّ من أمتَعِ ما نجدُ انفسنا فيه، كطلبة علمٍ، متابعة العلماء وتتبع سِيَرَهم العلمية، ومسالكهم في الدرس والتدريس، والبحث والمباحثة، كما ومِن أهمِّ ما نُقبِلُ عليه تلك الوصايا العلمية التي يجود بها فقهاء الطائفة (رفع الله درجاتهم أحياءً وأمواتًا).

لقد أورث هذا الإقبال فينا محبَّةً للنظر والتأمُّل، لا سيَّما في مناهج الدروس والبحوث العلمية؛ لكونها ممَّا يدخل في تكويننا كطلبة علم. نسأل الله تعالى الخير والصلاح.

مِما استرعى انتباه النظر الضعيف تأكيد بعض الأساتذة على أهمية ضبط المتون العلمية، وطالما تساءلتُ عن المقصود من مفردة (الضبط)، إلى أنْ انتهى بي البحث والسؤال إلى نتائج أضعها أمام المهتمين، وعلى وجه الخصوص طلبة العلم الأكارم، سائلًا المولى جلَّ في علاه اللطف والسداد.

قلتُ..

المتن “اصطلاحًا هو ما جرى إطلاقه عند أهل العلم على مبادئ فنٍّ من الفنون، تُكَثَّفُ في رسائل صغيرة غالبًا، وهي تخلو في العادة من كل مايؤدي إلى الاستطراد أو التفصيل، كالشواهد والأمثلة إلَّا في حدود الضرورة، وذلك لضيق المقام عن استيعاب هذا ونحوه، لذلك عُدَّت المتون الأقل ألفاظًا الأحسن في ذاتها والأكثر قبولًا عند الدَّارسين.

وهو الكتاب الأصلي الذي تكتب فيه أصول المسائل، ويقابله الشرح، شرح المتن، وقد سَمَّوه بالمتن في الاصطلاح لأنَّه عبارة عن هذه المختصرات العلمية، لأنَّها تتضمن المسائل الأساسية للركوب والحمل”.

وقد يكون المتن نظمًا، أو نثرًا، وكيف كان فالمتن كتابٌ يشتمل على مسائل العلم بصِيَغ مضغوطة مُركَّزة، دون استطرادات، ولا استشهادات، بل ولا بسط في الاستدلال إنْ وُجِد، وتكون مهمَّة الأستاذ في حلقة الدرس هي الانطلاق إلى العلم من خلال المسألة المحفوظة في المتن، أمَّا التلميذ فوظيفته حفظ المتن وفهم شرح الأستاذ ابتداءً من تصوير المسألة، إلى الحدود التي تقتضيها مرحلة التحصيل وغاياتها.

من أمثلة المتون العلمية، متن الآجرومية في النحو لابن آجرُّوم، ومتن العقيدة الواسطية لابن تيمية، والسُّلَّم المُنورق في المنطق لأبي زيد الأخضري، وغيرها مِنَ المتون المتميِّزة بقلَّة أوراقها، ويُطلب من طالب العلم حفظها عن ظهر قلب، وهذا من أهم أُسس الضبط إلى جانب التصور العلمي الصحيح للمسألة المحفوظة في المتن.

ثُمَّ إنَّ ضَبْطَ طَالِبِ العِلمِ للمتون العلمية، تصوُّرًا وحفظًا للمسائل، هو ما تعتمد عليه سائرُ دروسه في مراحل تحصيله المتقدِّمة، فإن كان ضابطًا وإلَّا فهو للتضييع أقرب.

هذا ما عليه المدارس الدينية السُّنية، فإذا تحدَّثوا عن (المتون) فهم يعنون المتن بالمعنى الأخص، ولا يُطلبُ من التلميذ ضبط غيرها بهذا المعنى المتقدم، نعم، على الطالب فهم ما يبحثه العلماء في كتبهم الكبيرة، سواء كانت شروحًا أو غير ذلك ممَّا يبسط فيه العالِمُ الكلامَ.

لم يعتمد الشيعة الإماميَّةُ في مدارسهم العلمية هذه الطريقة، ولكنَّهم جَرَوا على انتخاب الكتب العلمية المستوفية لمباحث العلم، والمبوبة تبويبًا منهجيًا صحيحًا، مع صحَّة وإحكام العبارة. ويظهر اهتمامهم باعتماد الكتاب الذي يتميَّز بالعبارة القابلة للمزيد من الاجتراح والتشريح، كما هو الحال مع عبارة كفاية الأصول للشَّيخ محمَّد كاظم الخراساني، المعروف بالآخوند (رفع الله تعالى في الجنان درجاته)؛ لما في هذه الميزة من فتح للأبواب أمام العالم لإثبات علميته ومكنته في استخراج العِلم من بطون هذه العبارات التي يفترض اكتنازها لِما لا يُستَخرجُ إلَّا بمزيدِ إعمالٍ للفكر ودقَّةٍ في النظر.

الضبط في المدارس العلمية الشيعية:

للضبط العلمي في المدارس الشيعية إطلاقان:

في كلا الإطلاقين يُقصَدُ بالضبط الفهم الصحيح والثابت للمسائل العلمية التي يردسها الطالب لكلِّ علم في مرحلة المقدمات بما يجعلها حاضرة في ذهنه دائمًا. ولذلك فإنَّهم يصفون الطالب الضابط بقولهم: ضابطٌ لمقدماته، أو: مقدماته قويَّة أو صحيحة.

غير أنَّ الاختلاف يقع في المبادئ التعليمية، فيكون:

الإطلاق الأوَّل: وهو الضبط للمسائل بحسب تصوير مؤلِّف الكتاب، وبمعنى أدق فإنَّ الضبط في مرحلة المقدمات إنَّما هو لما قرَّره وأثبته العلماء في كتبهم التي يدرسها طلبة العلم وبالسعة القائمة فيها. وهذا هو المنهج الأشهر، بل هو المعتمد ما لم تقم قرينة صارفة.

الإطلاق الثاني: هو الضبط للمسائل بناء على أمرين:

الأوَّل: تصوير المسألة بحسب تصوير المؤلف.

الثاني: دراسة وفهم مناشئ التفكير في المسألة وبحثها قبل تقريرها مسألةً من مسائل العلم.

إشكال قائم:

ليس ممَّا يُعنى به العلماء في مؤلفاتهم بيان التصوير الصحيح والدقيق للمسألة العلمية قبل بحثها؛ لاعتمادهم، وكذا الأساتذة في الدرس، على حالة من التباني لها وجودها الفعلي في المدارس العلمية، فيكون انطلاق الطالب في درسه قائمًا على ما دار ويدور بين العلماء الأعلام من مناقشات مبنائية وبنائية أكثر من قيامه على مناشئ النظر والمبادئ.

ويجاب بأنَّ العلوم قد شُيِّدتْ، ولا يُطلب اليوم أكثر من فهم ما هو قائم فعلًا، ثُمَّ الاشتغال بالمناقشات والمباحثات في المباني وما بعدها.

وفيه، أنَّ الغاية من فكرة تكوين ذهنية الطالب على البحث في أصول المناشئ هي بناء شخصية علمية واعية وقادرة على استيعاب المسألة عمقًا وسعةً، لا لأمر في نفس هذا الاستيعاب، وإنَّما لدخالته في تكوين وبناء الشخصية العلمية الخاصَّة، وهي التي تعي وتقف على المناشئ الاجتماعية والفكرية للمسائل العلمية قبل تدوين ما انتظمت فيه من علوم. وبيان ذلك:

لنأخذ مسألةَ (الظهور) مثالًا، فإنْ بُحِثَ (الظهورُ) لحسم حجيته من عدمها تحقَّق غرضٌ مهمٌّ، وهو اعتماد الباحث العالِم (الظهور) لثبوت حجيته في فهم النصوص مقدمة لاستنباط الأحكام الشرعية، أو عدم اعتماده لعدم ثبوت الحجيَّة له.

وإن تقدَّمَ بَحْثُ المَنْشَأ، فكان السؤال هو: كيف تَكَوَّنَ التَفْكيرُ في مسألة (الظهور)؟ فالمتحقِّق حينها أمران مهمَّان:

الأوَّل: شروع طالب العلم في الدرس بمنهجيةِ المُوَاكَبَةِ لتدوين وجمع العلوم، وهذا ما يمهد فعلًا لتكوين الشخصية العلمية والعقلية البحثية العميقة.

الثاني: وقوف الباحِثِ العَالِمِ على مدى تجذُّر المسائل العلمية في الحياة، وانَّها ليست من المخترعات الخارجة عن حدود واقع الحياة.

قد لا يرى البعضُ أهمية للبحث في المناشئ؛ وذلك لعدم دخالتها في صُلبِ عملية الاستنباط، وبالتالي فهو لا يبعد عن أن يكون من الترف.

والجواب عليه مُخْتصَرٌ في أنَّ الغاية التي نشير إليها في المقام هي التكوين العميق للشخصية العلمية، سواء كان صاحبها من المشتغلين بالاستنباط أم لا؛ بل قد نقول بتأتي ملكة الاستنباط ثانيًا وبِالعَرَض.

نعم، لا بدَّ من التنبيه على صعوبة هذا المنهج، لا سيَّما وأنَّ عماده هو التصور الأوَّل الذي ينشأ عنه تصور المسألة، وهذا يحتاج إلى دقة فائقة في القدرات التصورية، وقد يشعر الطالب بالتعب والملل ما لم يتمكَّن من مواكبة مراحل التصور وما يؤدي إليه، غير أنَّ السلامة في الصبر، والظفر في سعة الصدر وطول البال.

وهنا تنبيهٌ مُهِمٌّ:

عندما نقرأ بعناية في سِيَرِ علمائنا الفقهاء الأعلام فإنَّ من أهم ما نراه بوضوح هو رجوع مقاماتهم العلمية الشامخة لعوامل خاصَّة، من محاورها جدُّهم في النظر العميق في مبادئ المسائل العلمية، وهذا ممَّا يلعب دورًا خطيرًا في إكسابهم الفطنة والحِكمَة بما لا يحتمله الكثيرون من عامَّة الناس، بل وخاصِّهم أيضًا.

لذا، فإنَّ ما نطرحه في هذه المقالة إنَّما هو محاولة لتمكين هذا المنهج في الدرس العلمي، وإبعاد الاستيحاش والإنكار عنه، لا سيَّما مع قطعنا بكون المرجع لهذه المواقف السلبية والرافضة هو نفس الارتفاع في المنهجية المقابلة بما يورث ضيق الصدر وسرعة انقطاع النفس عن تقبُّل المناهج العلمية الأخرى.

 

السَّيد محمَّد بن السَّيد علي العلوي

3 شعبان 1443 للهجرة

البحرين المحروسة

مقالات مشابهة

اترك تعليق


The reCAPTCHA verification period has expired. Please reload the page.