بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسَّلام على أشرف الأنبياء والمرسلين محمَّد وآلِه الطيبين الطاهرين
إنَّ من موارد التسالم والاتِّفاق، والمنع عن المماراة والجدل، حُسن الاكتفاء الذاتي لكلِّ جماعة بما يسدُّ منها مواضع النقص والضعف، إلَّا في ما يعسر اكتفاؤها فيه، كما ولا تردُّد في أنَّ الاكتفاء الذاتي في جهةٍ مُحقِّقٌ للقوَّةِ والاستقرار في ما يرتبط بها.
جاء عن أمير المؤمنين (عليه السَّلام) أنَّه قال: “احتجْ إلى من شِئتَ تَكُنْ أسيرَهُ، واستغْنِ عَمَّنْ شِئتَ تَكُنْ نَظيرَهُ، وأفْضِلْ عَلى مَنْ شِئتْ تَكُنْ أميرَهُ”[1]. أمَّا في قبال غير الإخوان فالاستغناء عزَّة وكرامة، وفي قبالهم فالاستغناء تكامل معهم وقوَّة. فافهم رعاك الله تعالى.
ثُمَّ إنَّنا دقَّقنا النظر في آية النفر، وهي الآية 122 من سورة التوبة، فظهرتْ خُصُوصيةُ موضوعاتها عن عموم النفر لغاية التمكَّن من مجرَّد تبليغ أحكام الله تعالى، وهي الوظيفة التي يقوم بها من يصطلح عليهم في زماننا بالمبلغين، كما وظهرت الضرورة بأن يكون في كل صقع من الأصقاع فقهاء لهم الحجيَّة الشرعية بما يُحقِّق الاعتبار لإنذارهم القائم على كونهم من أهل الفقه والفقاهة.
من بعد ذاك استطردنا لبيان توقف مصير المؤمنين على وجود العلماء الفقهاء وقيامهم بأدوارهم المناطة بهم.
عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّه (عليه السَّلام) قَالَ:
“قَرَأْتُ فِي كِتَابِ عَلِيٍّ (عليه السَّلام) إِنَّ اللَّه لَمْ يَأْخُذْ عَلَى الْجُهَّالِ عَهْدًا بِطَلَبِ الْعِلْمِ حَتَّى أَخَذَ عَلَى الْعُلَمَاءِ عَهْدًا بِبَذْلِ الْعِلْمِ لِلْجُهَّالِ؛ لأَنَّ الْعِلْمَ كَانَ قَبْلَ الْجَهْلِ”[2].
فبسم الله نشرع..
قال الله تعالى في الكتاب العزيز:
(وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَافَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ)[3].
المفردات:
النفر: هو التجافي والتباعد، من مِثل تباعد الجلد عن اللحم كما في بعض الأدواء، إلى مِثل تباعد الإنسان عن مكانه[4].
الفرق بين الفرقة والطائفة: الفرقة هي الجماعة المتميِّزة والمزايلة لغيرها[5]، والطائفة: “مِنَ النَّاسِ فَكَأَنَّهَا جَمَاعَةٌ تُطِيفُ بِالْوَاحِدِ أَوْ بِالشَّيْءِ”[6].
التفقُّه: الفِقْهُ هو إدراك الشيء والعلم به، “ثُمَّ اخْتُصَّ بِذَلِكَ عِلْمُ الشَّرِيعَةِ، فَقِيلَ لِكُلِّ عَالِمٍ بِالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ: فَقِيهٌ. وَأَفْقَهْتُكَ الشَّيْءَ، إِذَا بَيَّنْتُهُ لَكَ”[7]. ثُمَّ أنَّ لصيغة تفعَّل دلالات، الأقرب منها، في ما نحن فيه، الدخول في أمرٍ طلبًا ليكون مضافًا إليه، مثل: تشجَّع؛ لتضاف الشجاعة إليه ويكون من أهلها، فالتفقُّه أي تكلُّفه بالسؤال والتعلُّم ليكون من أهل الفقاهة.
الإنذار: “الْإِبْلَاغُ؛ وَلَا يَكَادُ يَكُونُ إِلَّا فِي التَّخْوِيفِ”[8].
المِلاك:
حدَّدت الآية الغاية من التفقُّه في وظيفة الإنذار، والغاية من الإنذار في الحذر. ولا تظهر خصوصية لنفس النَّفْر؛ فلو تحقَّق التفقُّه من غير نفرٍ لم يكن مُختَلًّا أو معيبًا. نعم، المُعتَبر في المقام هو الجهة التي تتفقَّه الطائفةُ عنها.
الصياغة التوضيحية:
(وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ (ليتجافوا ويتباعدوا عن بيوتهم، أو قراهم، أو مدنهم، أو أوطانهم، أو بلدانهم) كَافَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ (جماعة متميِّزة سكنًا، أو عِرقًا، أو مجتمعًا، أو ما نحو ذلك) مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ (جماعة بلحاظ صفة التداخل والتطوف، أو بدون هذا اللحاظ، وتكون الطائفة بمعنى المجموعة لا غير) لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ (ليتعلُّموا بقصد أن يكون من أهل الفقاهة) وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ).
قال أمينُ الإسلامِ الطبرسي (رحمه الله تعالى): “(لينفروا) اللام لتأكيد النفي، والمعنى: أنَّ نفير الكافَّة عن أوطانهم لطلب الفقه والعلم غير صحيح ولا ممكن، وفيه: أنَّه لو صَحَّ وأمكن ولم يؤدِّ إلى مفسدة لوجب على الكافَّة، لأنَّ طلب العلم فريضةٌ على كُلِّ مُسلمٍ.
(فلو لا نفر) فحين لم يُمكن نفيرُ الكافَّة فَهَلَّا نَفَرَ (مِنْ كُلِّ فِرقةٍ) أي: جماعة كثيرة (طائفةٌ) أي: جماعة قليلة منهم (ليتفقهوا في الدين) لِيتكلَّفُوا الفقاهة فيه، ويتجشَّمُوا المشاقَّ في تحصيلها (وليُنذِرُوا قومهم) وليجعلُوا غَرَضَهَم بالتَفَقُّهِ إنذار قومهم وإرشادهم (لعلَّهم يحذرون) عِقَابَ اللهِ ويُطِيعونه”[9].
وعَنْ يَعْقُوبَ بْنِ شُعَيْبٍ، قَالَ: قُلْتُ لأَبِي عَبْدِ اللَّه (عليه السَّلام):
“إِذَا حَدَثَ عَلَى الإِمَامِ حَدَثٌ، كَيْفَ يَصْنَعُ النَّاسُ؟
قَالَ (عليه السَّلامُ: أَيْنَ قَوْلُ اللَّه عَزَّ وجَلَّ: (فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ ولِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ)؟ قَالَ (عليه السَّلام): هُمْ فِي عُذْرٍ مَا دَامُوا فِي الطَّلَبِ، وهَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَنْتَظِرُونَهُمْ فِي عُذْرٍ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْهِمْ أَصْحَابُهُمْ”[10].
فائدتان:
الأولى: الحاجة القطعية لكلِّ فرقةٍ إلى فقهاء منها، والظاهر ثبوت الموضوعية والخصوصية لتعدُّد الفقهاء حتَّى فيما لو كان أهلُ الفِرقَةِ قليلين.
الثانية: الوحدة العلمية للجهة المقصودة في طلب التفقه؛ إذ لو اختلفتْ في جهاتٍ اختلافًا يؤثِّر في موضوعات الإنذار بحيث يكون أحدها من موارد الإنذار عند بعضٍ مِنَ الطائفة، وليس كذلك عند أخرى لتضارب الإنذار المتوجِّه للفِرقة، وانتقض الغرضُ مِنْ ثبوت الموضوعية للتعدُّد المشار إليه.
الجهة المقصودة لطلب التفقه:
يظهر من النصوص الشريفة تعيُّن الجهة في الولي المعصوم (عليه السَّلام) نبيًّا كان أو إمامًا، غير أنَّه تعيُّنُ كَمَالٍ لا حصر؛ وإلَّا لانْسَدَّ، ثُمَّ لانحصر طلب التفقُّه في الاجتهادات الشخصية لكلِّ واحدٍ مفردٍ من الناس، وهو باطل للضرورة العقلائية في رجوع الجاهل إلى العالِم، وكلاهما كلِّيٌّ مُشكِّك يحسن معه في الثاني الرجوع إلى الأعلم المُميَّز، وإلَّا فلا يقبح الرجوع إلى أيِّ واحدٍ ممَّن يكون التفاوت بينهم غير معتدٍّ بِهِ عِنْدَ العُقَلاءِ.
انتقاض دعوى الاستغناء عن الفقهاء:
تنتقض الدعوى بنفس دلالة الآية؛ حيث إنَّ مرجع الحذر فيها هو قول المُنذِّرين، ولو كانوا فاقدين لحجيَّة الإنذار لوجب النفر على الجميع، فالمدار في المقام إذن هو ثبوت الحجيَّة للمنذرين من عدمها، وهذا ممَّا لا ينبغي الغفلة عنه على الإطلاق، وإلَّا لآل الأمر إلى الفساد.
ومن هنا يقوم التنبيه التالي:
إنَّنا، وبالبناء عل مدلولات الآية الشريفة، لا نقبل بإسباغ الشرعية على إنذار المُنذِر لمجرَّد كونه طالبَ علمٍ، بل لا بُدَّ من ثبوت الحجيَّة له.
إذا كان الأمر كذلك، فكيف يمكن الكلام، مجرَّد الكلام، في إطلاق حقوق التفسير، والإفتاء، والولايات، وما إلى ذلك من شؤون الدين لكافَّة الناس، ولكلِّ من اشتهتْ نفسُه ركوبه؟!
قال علي بن الحسين (عليهما السَّلام): “إنَّ دينَ الله عزَّ وجلَّ لا يُصَابُ بالعقول الناقصة، والآراء الباطلة، والمقائيس الفاسدة، ولا يُصاب إلَّا بالتسليم، فمن سَلَّمَ لنَا سَلِمَ، ومَنْ اقتدى بِنَا هدى، ومَنْ كان يعمل بالقياس والرأي هلك، ومَنْ وَجَدَ في نفسه شيئًا مِمَّا نقوله، أو نقضي به حرجًا كَفَرَ بالذي أنزل السبع المثاني والقرآن العظيم وهو لا يعلم”[11].
ثُمَّ نعود فنقول:
إن قيل: إنَّما تثبت الحجية لِقولِ مَنْ يتفقَّه عند المعصوم (عليه السَّلام)، فالوجه في ثبوتها هو كونه متفقِّهًا على يد المعصوم (عليه السَّلام)، لا لكونه متفقِّهًا دونَ أخذٍ في مَوضُوعِ تَفَقُّهِهِ للجهة التي طلب عندها التفقُّه.
قلنا: بل تثبت الحجية لمن يكون تَفَقُّهُه على أصول الكتاب والعترة، فإنْ كان المُعلِّم هو المعصوم (عليه السَّلام) كان ما يُؤخذ منه مطابقًا للواقع بلا كلام، أمَّا في ظرف غيبته فإنَّ الأمر يؤول لورثته من العلماء؛ لِقول أَبِي عَبْدِ اللَّه (عليه السَّلام):
“إِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الأَنْبِيَاءِ؛ وذَاكَ أَنَّ الأَنْبِيَاءَ لَمْ يُورِثُوا دِرْهَمًا ولَا دِينَارًا، وإِنَّمَا أَوْرَثُوا أَحَادِيثَ مِنْ أَحَادِيثِهِمْ، فَمَنْ أَخَذَ بِشَيْءٍ مِنْهَا فَقَدْ أَخَذَ حَظًّا وَافِرًا. فَانْظُرُوا عِلْمَكُمْ هَذَا عَمَّنْ تَأْخُذُونَه، فَإِنَّ فِينَا أَهْلَ الْبَيْتِ فِي كُلِّ خَلَفٍ عُدُولاً يَنْفُونَ عَنْه تَحْرِيفَ الْغَالِينَ، وانْتِحَالَ الْمُبْطِلِينَ، وتَأْوِيلَ الْجَاهِلِينَ”[12].
لا شكَّ في أنَّ الأوصياء المعصومين (عليهم السَّلام) هم العلماء، وقد أرجعوا -كما سوف يأتي قريبًا- إلى الفقهاء في أحوال الغيبة.
ولا نغفل عن أنَّ الإنذار وظيفة النبي الأكرم (صلَّى الله عليه وآله)، فقد قال العزيز الحكيم (إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ)[13]، وهو الإنذار الذي يقوم به الفقيه، بل طائفة من الفقهاء في كلِّ فرقة وراثة للأنبياء (عليهم السَّلام)، ولشرافة هذا المقام وقدسيته استفاضت الأحاديث الشريفة في بيان المقامات العالية لطلَّاب علوم الدين الحنيف.
عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّه (عليه السَّلام)، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّه (صلَّى الله عليه وآله):
“مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَطْلُبُ فِيه عِلْمًا سَلَكَ اللَّه بِه طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ. وإِنَّ الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ رِضًا بِه، وإِنَّه يَسْتَغْفِرُ لِطَالِبِ الْعِلْمِ مَنْ فِي السَّمَاءِ ومَنْ فِي الأَرْضِ حَتَّى الْحُوتِ فِي الْبَحْرِ. وفَضْلُ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِ الْقَمَرِ عَلَى سَائِرِ النُّجُومِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ، وإِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الأَنْبِيَاءِ؛ إِنَّ الأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا ولَا دِرْهَمًا، ولَكِنْ وَرَّثُوا الْعِلْمَ، فَمَنْ أَخَذَ مِنْه أَخَذَ بِحَظٌّ وَافِرٍ”[14].
اشتبه بعضٌ فحملها على مطلق العلوم، وهذا مردودٌ بأدنى تأمُّل في طبيعة الجزاء، وكذا فإنَّ حديث الإمام الكاظم (عليه السَّلام) عن جدِّه رسول الله (صلوات الله وسلامه عليه وآله) حاسمٌ في المقام؛ فعَنْه (عليه السَّلام)، قَالَ:
“دَخَلَ رَسُولُ اللَّه (صلَّى الله عليه وآله) الْمَسْجِدَ فَإِذَا جَمَاعَةٌ قَدْ أَطَافُوا بِرَجُلٍ، فَقَالَ: مَا هَذَا؟
فَقِيلَ: عَلَّامَةٌ.
فَقَالَ: ومَا الْعَلَّامَةُ؟
فَقَالُوا لَه: أَعْلَمُ النَّاسِ بِأَنْسَابِ الْعَرَبِ ووَقَائِعِهَا وأَيَّامِ الْجَاهِلِيَّةِ والأَشْعَارِ الْعَرَبِيَّةِ.
قَالَ: فَقَالَ النَّبِيُّ (صلَّى الله عليه وآله): ذَاكَ عِلْمٌ لَا يَضُرُّ مَنْ جَهِلَه، ولَا يَنْفَعُ مَنْ عَلِمَه. ثُمَّ قَالَ النَّبِيُّ (صلَّى الله عليه وآله): إِنَّمَا الْعِلْمُ ثَلَاثَةٌ؛ آيَةٌ مُحْكَمَةٌ، أَوْ فَرِيضَةٌ عَادِلَةٌ، أَوْ سُنَّةٌ قَائِمَةٌ. ومَا خَلَاهُنَّ فَهُوَ فَضْلٌ”[15].
إذا اتَّضح ذلك فإنَّ النفر للتفقه أوَّلًا، ووجود فقهاء في كل صقع من الأصقاع ثانيًا، مقدمتان للإنذار الذي يحتج به على من لا يحذر من العباد. وهذه نتيجة مهمَّة، فلا تغفل.
عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّه (عليه السَّلام)، قَالَ:
لَمَّا حَضَرَتْ أَبِي (عليه السَّلام) الْوَفَاةُ قَالَ: يَا جَعْفَرُ، أُوصِيكَ بِأَصْحَابِي خَيْرًا. قُلْتُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ، واللَّه لأَدَعَنَّهُمْ والرَّجُلُ مِنْهُمْ يَكُونُ فِي الْمِصْرِ فَلَا يَسْأَلُ أَحَدًا”[16].
استطرادٌ في بيان كون الفقهاء قطبَ الرحى:
لا حجيَّة لِمَا يَظْهَرُ لغير الفَقيهِ مِنْ معانٍ مِنَ النصوص الشريفة، بل هو محجوج إذا ما بنى عليها؛ وبيانه:
إذا أُفيد المعنى من حاقِّ اللفظ فهو التبادر، ومرجعه إلى الوضع، ولذلك كان من علامات الحقيقة، ومن الواضح أنَّه لا اعتبار للمُتَبَادَر ما لم يكن صاحبُ الذهن عالمًا علمًا إجماليًا ارتكازيًا بكون المعنى موضوعًا له.
إمَّا إذا كان عالمًا بالمعنى وشكَّ في مراد المتكلِّم بنى على ما تُظهره القرائن العلمية العامَّة والخاصَّة دون إعمال متكلَّف للنظر، بل لملكة مستحكمة في نفسه، وهو الظهور الحُجَّة.
وبذلك بان انحصار حجية التبادر كعلامة على الحقيقة، وحجية الظهور في المعنى المراد في العالِم الفقيه المحيط بعلوم اللغة وعلوم الدين، ولا تكفي الإحاطة في اللغة بمعلوم النحو والصرف والبيان، بل لا بُدَّ من الإحاطة العلمية بالوضع وعلم المعاجم، ثُمَّ من بعد ذاك يكون تيسير الكتاب العزيز للعباد موقوفًا على الفقهاء، وهو ما يساعد عليه قوله تعالى (فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنذِرَ بِهِ قَوْمًا لُّدًّا)[17]، فيكون المعنى منصرفًا عن تيسيره لكافَّة الناس، وهو انصرافٌ لا يحصل لغير العالِم الفقيه، أمَّا غيره من عامَّة الناس فيستنكرون حصرَ الحجيَّة في الفقهاء، ويعيبون عن الدين إنْ كان قيامه في الناس على هذا الحصر فعلًا! وهكذا تُصطنع الفِتَن، وتتوالد البِدَع، وقد رُويَ عن أمير المؤمنين (عليه السَّلام) أنَّه قال: “لو سكت الجاهل ما اختلف الناس”[18]!
ودونك هذه الاستفاضة في الأحاديث الشريفة الدالة على أهمية وجود فقهاء في مصر من الأمصار بما يغني العباد ويحقِّق فيهم دواعي الحذر.
قال الإمام أبو جعفر (عليه السَّلام) لأبان بن تغلب بن رباح: “اجلس في مسجد المدينة وأفتِ الناسَ؛ فإنِّي أُحِبُّ أنْ يُرَى في شِيعَتِي مِثْلُكَ”[19].
عن معاذ بن مسلم النحوي، عن أبي عبد الله (عليه السَّلام)، قال لي: “بَلَغَنِي أنَّكَ تَقعُد في الجامع فَتُفْتِي الناسَ.
قال، قلتُ: نعم، وقد أردتُ أنْ أسألك عن ذلك قبل أنْ أخرج، أنِّي أقعد في المسجد فيجيء الرجلُ يسألني عن الشيء، فإذا عرفتُه بالخلافِ لكم أخبرتُه بِمَا يفعلون، ويجيء الرجلُ أعرفه بِحُبِّكم، أو مودَّتكم فأخبره بما جاء عنكم، ويجيء الرجلُ لا أعرفه، ولا أدري من هو، فأقول جاء عن فلان كذا، وجاء عن فلان كذا، فأُدخل قولكم فيما بين ذلك.
قال، فقال لي: اصنع كذا؛ فإنِّي كذا أصنع”[20].
عن شعيب العقرقوفي، قال: قلتُ لأبي عبد الله (عليه السَّلام): “ربَّما احتجنا أنْ نسأل عن الشيء، فَمَنْ نَسألُهُ؟
قال: عليك بالأسدي (يعني أبا بصير)”[21].
عن عبد الله بن أبي يعفور، قال: قلتُ لأبي عبد الله (عليه السَّلام): “إنَّه ليس كلُّ ساعةٍ ألقَاكَ، ولا يُمكِنُ القُدُومُ عليك، ويجيء الرجلُ مِنْ أصحابنا فيسألني وليس عندي كلَّ ما سألني عنه!
فقال: ما يمنعك عن مُحمَّد بن مسلم؟ فإنَّه قد سمع من أبي وكان عنده وجيهًا”[22].
عن علي بن المسيب، قال: قلتُ للرضا (عليه السَّلام): “شُقَّتِي بعيدةٌ ولستُ أصِل إليك كلَّ وقتٍ، فَمِمَّن آخذ مَعالِمَ دِيني؟
فقال: من زكريا بن آدم القُمِّي، المأمونِ على الدين والدنيا.
قال ابنُ المُسَيَّب: فَلمَّا انصرفتُ قدمتُ على زكريا بن آدم فسألتُهُ عَمَّا احتجتُ إليه”[23].
عن عبد العزيز بن المهتدي، قال: “إنِّي سألتُه (يقصد الإمام الرضا عليه السَّلام)، فقلتُ: إنِّي لا أقدر على لقائك في كلِّ وقتٍ، فَعَمَّن آخذ معالِمَ ديني؟
فقال: خُذْ عن يونس بن عبد الرحمن”[24].
وفي التوقيع الشريف، قال (عليه السَّلام): “وأمَّا الحوادِثُ الواقِعَةُ فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا؛ فإنَّهم حُجَّتِي عَليكم، وأنا حُجَّةُ اللهِ عليهم”[25].
وجه الاستدلال:
إرجاعُ الإمامِ المعصوم (عليه السَّلام) لأمثال محمَّد بن مسلم، ويونس بن عبد الرحمن.. إرجاعٌ لمن نُعبِّرُ عنهم اليوم بأهل التخصُّص والخِبرة. ثُمَّ لا تغفل عن أنَّ الحاجة أعمُّ من مسائل الحلال والحرام، وهو ما يدل عليه لفظ (معالم ديني)، وكذا التعبير في التوقيع الشريف عن مواضع الحاجة بـ(الحوادث الواقعة)؛ وهي عامَّة، بل قد يتَّسع فيها البحث ليشمل التشخيصات الموضوعية في القضايا الخطيرة.
إن قِيل: لا خلاف في الإرجاع مع وجود المعصوم (عليه السَّلام)؛ حيث يمكن التدارك والتصحيح منه (عليه السَّلام) عند وقوع الخطأ ممَّن أرجع إليه.
قلنا: والحال هو الحال سواء كنَّا في زمن الحضور المبارك، أو في امتحان الغيبة؛ وبيانه:
بَحَثَ شَيخُ الطائفة الطوسيِّ (نوَّر الله مرقده الشريف) في كتابه (الغَيبَة) دليل (وجوب الرياسة) من جهة كونها لطفًا إلهيًا؛ قال:
“والذي يَدُلُّ على وجوب الرئاسة ما ثَبَتَ من كونها لطْفًا في الواجبات العقلية فصارت واجبة، كالمعرفة التي لا يعرى مُكَلَّفٌ من وجوبها عليه؛ ألا تَرَى أنَّ مِنَ المعلوم أنَّ مَنْ ليس بمعصومٍ مِنَ الخَلْقِ مَتَى خَلَوا من رئيس مَهيب يردع المعاند ويُؤدِّبُ الجاني، ويأخذ على يد المُتَغَلِّبِ، ويمنع القويَّ مِنَ الضعيف، وأمِنُوا ذلك، وَقَعَ الفَسَادُ، وانتشر الحِيَلُ، وكثُرَ الفَسَادُ، وقَلَّ الصلاحُ. ومَتَى كان لهم رئيسٌ هذه صِفَتُهُ كان الأمر بالعكس من ذلك، مِنْ شمول الصلاح وكثرته، وقلَّة الفساد ونزارته، والعلم بذلك ضروري لا يخفى على العقلاء، فَمَنْ دَفَعَهُ لا يَحسُنُ مُكَالمَتُهُ”[26].
ثُمَّ قال: “بل دليلنا في حال وجود الإمام بعينه هو دليلُ حال غيبته، في أنَّ في الحالين الإمام لطفٌ، فلا نقول: إنَّ زمان الغيبة خَلَا من وجوب رئيس، بل عندنا أنَّ الرئيس حاصلٌ”[27].
فالتدارك من المعصوم (عليه السَّلام) حاصلٌ متى ما اقتضاه اللطف الإلهي، وليس كونه بالتدخل المباشر المشهود إلَّا من مظاهر اللطف، ولا ينحصر فيه.
هذا من جهة، ثُمَّ إنَّ نفسَ وجوب الرياسة ماضٍ طولًا في الفقهاء العدول بحسبهم، وهو ما يُفاد من مثل رواية عُمَر بْنِ حَنْظَلَةَ، قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّه (عليه السَّلام) عَنْ رَجُلَيْنِ مِنْ أَصْحَابِنَا يَكُونُ بَيْنَهُمَا مُنَازَعَةٌ فِي دَيْنٍ، أَوْ مِيرَاثٍ فَتَحَاكَمَا إِلَى السُّلْطَانِ، أَوْ إِلَى الْقُضَاةِ. أيَحِلُّ ذَلِكَ؟
فَقَالَ (عليه السَّلام): مَنْ تَحَاكَمَ إِلَى الطَّاغُوتِ فَحَكَمَ لَه فَإِنَّمَا يَأْخُذُ سُحْتًا، وإِنْ كَانَ حَقُّه ثَابِتًا؛ لأَنَّه أَخَذَ بِحُكْمِ الطَّاغُوتِ وقَدْ أَمَرَ اللَّهُ أَنْ يُكْفَرَ بِه.
قُلْتُ: كَيْفَ يَصْنَعَانِ؟
قَالَ (عليه السَّلام): انْظُرُوا إِلَى مَنْ كَانَ مِنْكُمْ قَدْ رَوَى حَدِيثَنَا، ونَظَرَ فِي حَلَالِنَا وحَرَامِنَا، وعَرَفَ أَحْكَامَنَا، فَارْضَوْا بِه حَكَمًا فَإِنِّي قَدْ جَعَلْتُه عَلَيْكُمْ حَاكِمًا، فَإِذَا حَكَمَ بِحُكْمِنَا فَلَمْ يَقْبَلْه مِنْه فَإِنَّمَا بِحُكْمِ اللَّه قَدِ اسْتَخَفَّ، وعَلَيْنَا رَدَّ، والرَّادُّ عَلَيْنَا الرَّادُّ عَلَى اللَّه، وهُوَ عَلَى حَدِّ الشِّرْكِ بِاللَّه”[28].
محلُّ الشاهد في كلِّ هذه الروايات الشريفة إنَّما هو محلُّ الحجيَّة المجعولة لِمَن يُرجِع إليه الإمام المعصوم (عليه السَّلام)، ثُمَّ أنَّه لا خصوصيَّةَ لِمَن أرجع إليهم الإمام (عليه السَّلام) إلَّا من حيث كونهم مصاديق للمُفتي، أو المُحدِّث، أو الراوية، وإلَّا لانسد الباب، وهو قبيح على اللطيف الخبير (تعالى عن ذلك علوًّا كبيرًا).
إذا اتضح ذلك؛ فإنَّ زمنًا لم يخلُ من فِرَقٍ ضالة، وتيارات منحرفة، وشخصيات فسادٍ وإفساد، ولكنَّها تنزوي وتتوارى كلَّما كان، في المجتمع وبين المؤمنين، الحضورُ العلمي للفقهاء أقوى وأشد اعتبارًا، فهو حينها وجودٌ رادِعٌ.
لذا؛ فإنَّ من أمْكَنِ الرؤى وأكثرها إحكامًا هي الرؤية من دلالات الآية الشريفة (وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَافَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ).
وآخر ما نُحضره في صدورنا، ما عَنْ زُرَارَةَ، في وصية الإمام أَبَي عَبْدِ اللَّه (عليه السَّلام) إن أدرك زمن الغيبة، قال:
“يَا زُرَارَةُ، إِذَا أَدْرَكْتَ هَذَا الزَّمَانَ فَادْعُ بِهَذَا الدُّعَاءِ: اللَّهُمَّ عَرِّفْنِي نَفْسَكَ فَإِنَّكَ إِنْ لَمْ تُعَرِّفْنِي نَفْسَكَ لَمْ أَعْرِفْ نَبِيَّكَ اللَّهُمَّ عَرِّفْنِي رَسُولَكَ فَإِنَّكَ إِنْ لَمْ تُعَرِّفْنِي رَسُولَكَ لَمْ أَعْرِفْ حُجَّتَكَ اللَّهُمَّ عَرِّفْنِي حُجَّتَكَ فَإِنَّكَ إِنْ لَمْ تُعَرِّفْنِي حُجَّتَكَ ضَلَلْتُ عَنْ دِينِي“[29].
وعَنْ يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا الأَنْصَارِيِّ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّه (عليه السَّلام)، قَالَ سَمِعْتُه يَقُولُ:
“مَنْ سَرَّه أَنْ يَسْتَكْمِلَ الإِيمَانَ كُلَّه فَلْيَقُلِ الْقَوْلُ مِنِّي فِي جَمِيعِ الأَشْيَاءِ قَوْلُ آلِ مُحَمَّدٍ فِيمَا أَسَرُّوا ومَا أَعْلَنُوا وفِيمَا بَلَغَنِي عَنْهُمْ وفِيمَا لَمْ يَبْلُغْنِي”[30].
السَّيد محمَّد بن السَّيد علي العلوي
4 جمادى الثانية 1443 للهجرة
البحرين المحروسة
…………………………………..
[1] – الإرشاد – الشيخ المفيد – ج 1 – ص 303
[2] – الكافي – الشيخ الكليني – ج 1 – ص 41
[3] – الآية 122 من سورة التوبة
[4] – راجع كتاب مقاييس اللغة، لابن فارس، باب النون والفاء وما يثلثهما (نفر).
[5] – راجع: المصدر السابق، باب الفاء والراء وما يثلثهما (فرق).
[6] – المصدر السابق، باب الطاء والواو وما يثلثهما (طوف).
[7] – المصدر السابق، باب الفاء والقاف وما يثلثهما (فقه).
[8] – المصدر السابق، باب النون والذال وما يثلثهما (نذر).
[9] – تفسير جوامع الجامع – الشيخ الطبرسي – ج 2 – ص 104
[10] – الكافي – الشيخ الكليني – ج 1 – ص 378
[11] – كمال الدين وتمام النعمة – الشيخ الصدوق – ص 324
[12] – الكافي – الشيخ الكليني – ج 1 – ص 32
[13] – الآية 7 من سورة الرعد
[14] – الكافي – الشيخ الكليني – ج 1 – ص 34
[15] – الكافي – الشيخ الكليني – ج 1 – ص 32
[16] – الكافي – الشيخ الكليني – ج 1 – ص 306
[17] – الآية 97 من سورة مريم
[18] – بحار الأنوار – العلامة المجلسي – ج 75 – ص 81
[19] – فهرست اسماء مصنفي الشيعة (رجال النجاشي) – النجاشي – ص 10
[20] – اختيار معرفة الرجال (رجال الكشي) – الشيخ الطوسي – ج 2 – ص 523 – 524
[21] – اختيار معرفة الرجال (رجال الكشي) – الشيخ الطوسي – ج 1 – ص 400
[22] – خلاصة الأقوال – العلامة الحلي – ص 251
[23] – الاختصاص – الشيخ المفيد – ص 87
[24] – فهرست اسماء مصنفي الشيعة (رجال النجاشي) – النجاشي – ص 447
[25] – كمال الدين وتمام النعمة – الشيخ الصدوق – ص 484
[26] – الغيبة – الشيخ الطوسي – ص 5
[27] – المصدر السابق ص8
[28] – الكافي – الشيخ الكليني – ج 7 – ص 412
[29] – الكافي – الشيخ الكليني – ج 1 – ص 337
[30] – الكافي – الشيخ الكليني – ج 1 – ص 391