بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسَّلام على أشرف الأنبياء والمرسلين محمَّد وآله الطيبين الطاهرين
نَشَرَ اللهُ سُبحانه وتعالى رحمَتَه على رؤوس المؤمنين فظهر توفيقه في إحيائهم المبارك لذكرى فاجعة كربلاء ومصيبة الطفوف.. ذكرى عاشوراء الحُسين (عليه السَّلام)، وكما هي عقيدتهم النابعة من الثقلين الشريفين؛ القرآن الكريم والعِترة الطاهرة، انبعثوا في أيَّام عشرة ولياليها فبذلوا المال والوقت والجهد دون بخل، بل ولا أدنى تردد، في سبيل امتثال أمر الشارع المقدَّس بإحياء أمر أهل البيت (عليهم السَّلام)، وعلى وجه الخصوص مصيبة الإمام الحسين (عليه السَّلام) في هذه الأيَّام من السنة.
روى شيخنا الصدوق (علا برهانه) بسنده عن بكر بن محمَّد الأزدي، عن أبي عبد الله (عليه السَّلام)، قال:
“تجلسون وتتحدثون؟
قال: قلتُ: جُعِلْتُ فداك؛ نعم.
قال (عليه السَّلام): إنَّ تلكَ المجالس أُحِبُّها، فأحيوا أمْرَنَا. إنَّه مَنْ ذَكَرَنَا وذُكِرْنَا عِنْدَهُ فَخَرَجَ مِنْ عَينِهِ مِثْلُ جَنَاحِ الذبَابَةِ غَفَرَ اللهُ ذُنُوبَهُ ولو كانتْ أكثَرَ مِنْ زَبَدِ البَحْرِ”[1].
وروى ابنُ قولويه بسنده عن مُحمَّد بن مسلم، عن أبي جعفر (عليه السَّلام)، قال:
“أيُّمَا مُؤمِنٍ دَمِعَتْ عَينَاهُ لِقَتْلِ الحُسَينِ (عليه السَّلام) دَمْعَةً حَتَّى تَسيلَ على خَدِّهِ بَوَّأهُ اللهُ بِهَا غُرَفًا في الجَنَّةِ يَسْكُنُهَا أحْقَابًا”[2].
وقد اعتدنا منذ ما يزيد عن العقدين على تميُّز هذه الأيام بمائز، للأسف، معيب، وهو ما يُثار فيها من مواضيع لم نحصد من ورائها يومًا غير الفِتَن والمشاكل والصدامات والخصومات، وكنتُ منذ سنين أطرح فِكرةَ مناقشة كافَّة المواضيع على مدة إحدى عشر شهرًا وعشرين يومًا، والتوقف في العشرة من المحرَّم، ولكنَّ الغريب هو أنَّ السكوت المطبق يعم السنةَ، لتبدأ الحمم في التحرُّك مع هلال عاشوراء!
توقَّف مؤخَّرًا العراك حول موضوع الحيدر[3]؛ وقد يكون ذلك لظرف (فايروس كوفيد-19) وتوقف المواكب إلَّا اللطم والسلاسل، كُلُّ موكبٍ في حدود المأتم الذي يتبعه، ولكنَّ مواضيع أخرى أخذت مواقعها للجدل والصراع والتراشق.
حسُنَ ظنُ بعض الإخوة بي فكانوا يرسلون استفساراتهم واستيضاحاتهم حول ما أثير في عشرة محرَّم (1443 للهجرة)، وقد وعدت بتناولها في مقالات أطرح فيها ما أراه بخصوصها؛ لعلِّي أُوفَّق للمساهمة بما يكون فيه الخير والصلاح.
بدا للنظر القاصر الاكتفاء بالحديث في موضوع يشغل الساحة إشغالًا مُلفِتًا وخطيرًا، وهو موضوع الخطباء والمنبر، فما أظنُّه هو أنَّ التحليل الصحيح له يُغني عن تناول غيره؛ وذلك لوحدة الطبيعة التحليلية في النظر لمختلف القضايا. ومن الله سبحانه أستمدُّ العون.
المنبر ومسألة النقد:
قال ابنُ فارس: “النون والقاف والدال، أصلٌ صحيحٌ يَدُلُّ على إبراز شيءٍ وبروزه.
من ذلك: النقد في الحافِر، وهو تقشُّره، والنقد في الضِّرس: تكسُّره، وذلك يكون بتكشُّف لِيطه عنه.
ومن الباب: نقد الدرهم، وذلك أنْ يكشف عن حاله في جودته أو غير ذلك.
ودرهم نقد: وازنٌ جَيِّد، كأنَّه قد كُشِفَ عَنْ حَالِهِ فَعُلِمَ”[4].
وقال إحسان عبَّاس: “النقدُ في حَقيقَتِهِ تعبيرٌ عن موقفٍ كُلِّي مُتَكَامِلٍ في النظرة إلى الفَنِّ عامَّةً، أو إلى الشِّعر خاصَّةً، يبدأ بالتذوُّق؛ أي: القدرة على التمييز، ويعبرُ منها إلى التفسير والتعليل والتحليل والتقييم، خطوات لا تُغنِي إحداها عن الأخرى، وهي متدرجةٌ على هذا النسق؛ كي يتَّخذَ الموقف نهجًا واضحًا، مؤصلاً على قواعد – جزئيَّة أو عامَّة – مؤيدًا بقوَّة الملكة بعد قوَّة التمييز”[5].
لم أُورِد المعنيين اللغوي والاصطلاحي للنقد إلَّا من أجل غايتين:
الأولى: التمييز في المقام هو إخراج المعيب الأقل من الصحيح الأكثر، ولو كان المعيب هو الأكثر لكان غشًّا في الكلِّي.
الثاني: لا يصحُّ، بل لا يُقبلُ النقدُ ممَّن لا يكون فاهمًا ومحيطًا بالموضوع محلِّ النقد، أمَّا فِعلُ غير المحيط فهو إعابة مزاجية وعبث استحساني واستذواقي.
تنبيه: لا يفرق معنى النقد في غير الدراهم والأدب إلَّا من جهة بعض الحيثيات التي لا تُؤثِّر في أصل المعنى.
إذا اتَّضح ذلك، بَانَ أنَّ النقدَ عملٌ تقييميٌّ يتصدَّى له الخبيرُ طلبًا للتقويم بإخراج المعيب وإصلاح ما يمكن إصلاحه بالأدوات العلمية.
خطيب المنبر:
يشتمل الفعل الخطابي على ثلاثة أمور رئيسية، هي:
- الحضور الشخصي: ويدخل تحته قوَّة الشخصية، والقدرة على إدارة الموقف، والتمكَّن من السيطرة على المجلس دون إخلال بالهدوء والرصانة، وما نحو ذلك من صفات شخصية وجسدية، وملامح وسمات.
من مواضع النقد: لو كان للخطيب حضوره الجيِّد بالنظر إلى كُلِّيه، فإنَّ العارف بأركان الحضور الشخصي ومقوماته ينتقد مِثلَ تكرُّر عبث الخطيب بلحيته، أو بسبحته، أو ضعفه في توزيع نظراته على المجلس، وما نحو ذلك ممَّا لو تَخَلَّص منه لارتقى من الجيِّد إلى الأجود.
- وحدة الموضوع والتسلسل في الطرح: ويدخل تحته الإحاطة بحيثيات وجهات الموضوع، والوقوف على ما يمكن إدغامه منها في أخرى، وكيفية الانتقال من نقطة إلى ثانية، والقدرة على الرجوع السلس إلى محلِّ الكلام من بعد مغادرته لفتح قوس أو تعليقٍ عارضٍ أو ما شابه، وما إلى ذلك.
من مواضع النقد: النقصان أو الزيادة في جهات وحيثيات الموضوع. الضعف في الانتقال السلس من نقطة إلى أخرى. الإيجاز المُخلّ أو الإطناب الممل في بعض المواضع. المصادرات العلمية. تقديم ما من شأنه التأخير والعكس. وما نحوها.
- البيان واللغة: ويدخل تحته التصور والتصوير للفكرة، والقدرة على التمثيل بأمثلة لا تصرف المستمع عن أصل الموضوع، والعربية نحوًا وصرفًا، وفصاحةً وبلاغةً. وإن أراد استعمال العاميَّة فبما لا يُخلُّ بالمقام ولا بما يحول المحاضرة إلى ما يشبه الأحاديث العاميَّة، وما إلى ذلك.
من مواضع النقد: ظهور الانقطاع الذهني بما يؤثر على تصوير المسألة أو النقطة. تكرُّر الغفلة عن العناية بالقواعد. الخطأ النحوي أو الصرفي المُتَكَرِّر في موضع أو موضعين. وما شابه.
نتيجةٌ: ممَّا يظهر إذن، أنَّ الكلام في خصوص بعض المقاطع المسموعة أو المرئية المجتزأة هو في الغالب اعتراضٌ لا نقد؛ فالنقد غير صحيح ما لم يقف الناقد على الكلي ويُحدِّد مرجع الكلام حتَّى يتمكَّن من إبراز نقده.
وبذلك حدَّدنا جهةً من جهات المشكلة بالوقوف على مفهوم النقد وحدوده العلمية، وظهر بأنَّ ما نسمعه ونشهده فيما يخص المنبر هو في الغالب اعتراضات واختلافات في الرؤى أو المناهج أو ما نحو ذلك ممَّا تحوَّل إلى مشكلة مُعقَّدة بإدخاله تحت عنوان النقد. وهذا ما سوف يتضح قريبًا إن شاء الله تعالى.
هاجس إضعاف وتوهين المنبر:
يحمل الكثير من العلماء وأهل الفضل تخوفات من أن يكون النقد، أو ما نحوه، للمنبر والخطباء سببًا في إضعافه وتوهينه، والحال أنَّ للمنبر مكانته وأهميته من جهات عدَّة، منها كونه جهة من الجهات التي يعتمد عليها المؤمنون في التزوُّد العلمي والمعرفي، والإيماني، والأخلاقي.. ولا شكَّ في أنَّ إضعافه يبعدهم عن الكثير من الفوائد المرجوة.
تحرير الإشكالات:
الخطيب، إمَّا أن يكون ناقلًا، أو باحثًا، أو مُحقِّقًا.
والناقل، إمَّا أن يكون ناقلًا للسيرة أو لغيرها، وفي كلاهما إمَّا أن يكون واقفًا على مناهج التحقيق أو لا، فإن كان واقفًا عليها لزم أن لا يذكر نتائجَ لمناهج متخالفة في طولٍ واحد. وإن اعتمد منهجيةً واحدة فلا بدَّ من أن يكون اعتماده عن فهم وإحاطة، مع بيان ما يعتمده للجمهور والتذكير به حتَّى يترسَّخ في الأذهان ويُعرف به.
وإلَّا فاللازم أن يذكر النتائج مع ذكر المنهج والمبنى الذي ترجع إليه كلُّ نتيجة.
إن قلتَ: وهل عامَّة الناس في حاجة لمثل هذه التفصيلات؟ أليس في ذلك إرباك للأذهان وإقحام للناس في ما لا يخصُّهم؟
قلتُ: لستُ مع هذا التفصيل، بل أراه كالاضطرار للميتة؛ حيث إنَّ الواقع الثقافي والتثاقفي الذي نعيشه اليوم يفرض حالةً سلوكيةً ملؤها العِوَجُ والتشويش، ما يُلزِمُ بضرورة العناية بسدِّ الأبواب أمام العابثين، وما أكثرهم في هذا الزمان.
فلندقِّق جيِّدًا..
لم يعد الخطيبُ اليوم مجرَّدَ ناع يحمل مسؤولية الإبكاء والتذكير بالمصيبة فحسب، كما ولم يعد ناقلًا للسيرة المُتسالم، في الجملة، عليها، كما ولا يقبل المستمعون اليوم بمجرَّد النقل والتعليق بكونه متسالمًا عليه.
يواجه الخطيبُ اليومَ واقعًا صعبًا يُحَمِّلُهُ عناوين لا يناسبها مِنْبَرُ المأتم إلَّا في ضمن تحديدات وشروط خاصَّة، وهذه لا تُناسب طبيعة الإحياء لا سيَّما في عاشوراء.
بيان ذلك:
فلنقل أنَّ الخطيب بصدد طرح المسألة (أ)، وفي هذه المسألة ثلاثة أقوال، كل قول منها صحيح بحسب المنهج والمبنى الذي يستند إليه. فإذا أراد طرحها بإحكام رافع للاعتراضات كان عليه تبيين المناهج والمباني أوَّلًا، وإذا فعل فقد انتقل الأمر إلى مناقشتها (المناهج والمباني) وما قيل فيها؛ دفعًا لاعتراضاتٍ تَصْرِفُ عن النظَرِ الموضوعي.
أقول: لا يصحُّ في الأصل طرحُ مثل ذلك في محاضرات عامَّة، ولكنَّه أمرٌّ يفرضه الواقع الخاطئ فرضًا لا يصحُّ إغفاله وتجاوز العناية به. فافهم رعاك الله تعالى.
دفع اشتباه وتصحيح نظر:
قد يُقال: لم نسمع بمطالبة الجماهير بمثل هذا الطرح التفصيلي.
فأقول: هذا صحيح، ولكنَّ الحاصل من تجاذبات ومشاحنات وصدامات، يرجع إلى عدم بيان هذه التفاصيل مع المطالبة بنتائج علمية تُطرح من على المنابر، والحال أنَّ النتائجَ المُتَعَاكِسَةَ عِلميَّةٌ نظرًا إلى ما أدَّى إليها من مناهج ومباني علمية.
مثلًا..
لو قال الخطيب بصحَّة حديثٍ ما وفقًا للوثوق، والحال أنَّه ضعيف على مبنى الوثاقة، فإنَّه لن يسلم من الاعتراض ما لم يذكر المبنيين، ثُمَّ يوضح أنَّ بحثه على فرض أحدهما، وقد يكون البحث منهدمًا على فرض الثاني!
وبطبيعة الحال فإنَّه لا يُقال: ولكن هذا منبر جماهيري، ولا يصحُّ فيه هذا الطرح التخصصي.
لأنَّ الأمر قد اتضح؛ والأصل في المشكلة هو أنَّ جماهير المؤمنين تطلبُ نتائج علمية مُحقَّقة، وهي إن طُرِحَت عورضت ما لم تكن مشفوعة بما تستند إليه من مناهج ومباني علمية، وإلَّا رجعنا إلى نقطة البداية وهي الاعتراضات وتبادل الاتهامات.
ثُمَّ إنَّ لذلك شرائط ذات ضرورة لا يصحُّ التسامح فيها، ومنها أن يتحوَّل الخطيب إلى متخصِّص في الكثير من العلوم والمسائل؛ فإنَّه غير خاف على العارفين بالتحقيق والبحث والدراسة أنَّ الوقوف على المسألة العلمية يتطلب تصورها ودراسة تاريخها وما قيل فيها، وما انتهت إليه البحوث بخصوصها، فقد يحتاج الباحث إلى قراءة عدَّة كتبٍ تخصُّصية من أجل تحقيق الإحاطة المطلوبة بجهة من جهات المسألة.
ونكرِّر بأنَّه لا يُقال: أنت تطرح ما يليق بالبحوث العلمية التخصصية، والمقام مقام منبر نطلب أن يكون علميًا بالمعنى السهل.
لأنَّنا نقول ما قلناه مرارًا: كلامكم صحيح، ولكنَّنا ما لم نُحقِّق هذه العلمية في الإحاطة الواقعية والطرح فإنَّ المشكلة باقية ولن نشهد غير تفاقمها بما يُضعف المنبر فعلًا، لا سيَّما مع محذور خطير أذكره تاليًا:
قوَّة الحضور المنبري واللغة الخطابية:
قدَّمنا بأنَّ مِنَ الأمور الرئيسية التي يشتمل عليها الفعل الخطابي الصحيح قوَّة كلِّ من الحضور، واللغة والبيان، وننبِّه هنا على محذور يقع غالبًا عند تحقُّق هذين الأمرين في الخطيب مع الإخلال بالعلمية والوحدة الموضوعية والتسلسل، ويغيب الخلل لقوَّة الحضور واللغة الخطابية. أي أنَّ القوَّة الشخصية للخطيب تُذهِل عن الخلل العلمي في الطرح، وهذه مشكلة خطيرة ومعقدة.
من المتوقع أن يخرج المستمع، حينها، في غاية الرضا، ولكنَّه عند المواجهة العلمية قد يكتشف أنَّه لم يكتسب أكثر من معلومات لا تُشكِّل ثقافةً يُبنى عليها بناءً فكريًا صحيحًا، ولا تؤسِّس لسلوك فكريٍّ أو أخلاقيٍّ سليم، وهذا طبيعي ما لم يأخذ المستمع المجلس كإثارات ينطلق منها للبحث والتتبع والتنقيب، وهذه، في الواقع، ليست ظاهرة في الجمهور، بل الظاهر هو أخذ المعلومات كعلم ومعرفة، وهذا خطأ عميق، وهو سبب في الكثير من الجدل وحوارات العناد والتحدِّي.
مسألة الفوضى العلمية في الوسط الشيعي:
هنالك تشخيص لحالة من الفوضى العلمية في الوسط الشيعي، وقد أرجعها بعض الفضلاء إلى جرأة وتجاسر قليلي التحصيل، وغير المختصين، على الطرح البحثي المُستَعجل دون مراعاة لأهمية الخبرة والممارسة، ما أدَّى إلى إشاعة الفوضى والإرباك في الساحة الشيعية.
وفي نفس السياق تحدَّث آخرون حول خطورة التأصيل بين العامَّة للسؤال عن أسناد الروايات والحوادث التاريخية، وعن الأدلة على ثبوتها أو اعتبارها.
أقول:
لا يمكن إنكار الفوضى الحاصلة فعلًا، كما وليس من الصحيح إرجاعها إلى حالة من الوعي لم تكن قد عَرَضَتْ على الجمهور قبل هذه الحقبة الزمنية. وكذا فإنَّه من الخطأ وَسْمِ الناس بالجرأة أو ما شابه عند سؤالهم عن سندٍ أو عن الدليل على ثبوت أو نفي حادثة تاريخية.
بيان ذلك:
تقوم على مرمى من النظر العلمي التحليلي مجموعةٌ من العوامل أنتجت ثقافةً مجتمعيةً سِمَتُهَا البناء على أصالة التكذيب وعدم الثبوت ما لم يقم دليلٌ يَقْبَلُهُ التَعَقُّلُ العَصْرِيُّ كَمَا في موارد التجريب وعدم المخالفة للمسلمات الثقافية القائمة، والبعد عن الغيبيات المُستَغربة بحسب موازين العصر، وما إلى ذلك ممَّا تُوَافِقُ عليه المعايير الثقافية العصرية.
أذكر ثلاثة عوامل:
الأوَّل: تؤسِّسُ المنظومة التربوية العالمية إلى حصر النظر في الأبعاد الواقعية التجريبية الخارجية على:
أنَّها المصدر العلمي المعتبر للمعرفة، وإلى أنَّ كلَّ ما يُعتبر من الفرد لا بدَّ وأنْ تكون نتائجه وثماره منظورة ومحسوسة في هذه الدنيا؛ فالدارسة في المدارس والجامعات ليست لغير الوظيفة، ولا اعتبار للوظيفة ما لم تكن مناسبة لبناء مستقبل مادي متين، ومن مظاهره البيت والسيَّارة والسفر للسياحة، وما إلى ذلك من أمور مُحدَّدة بهذه الدنيا، وما دون ذلك فراجع للفرد دون أن يؤثِّر على توجهه الفكري المادي.
الثاني: التأسيس لحرية الاختيار والرأي على نحو الإطلاق، وأي مساس بهذا الأساس فهو، حتمًا، من الحَجْرِ على العقول ومن مُصَادَرَةِ الحقوق.
الثالث: كانت منظومة العلم والتبليغ الدينيين في السابق على النحو التالي:
- قصر البحوث والتحقيقات العلمية الدينية على العلماء وأهل البحث والتحقيق من طلبة الحوزات الشريفة.
- رفد جماهير المؤمنين بما يحتاجونه في حياتهم، من عقائد وفقه وأخلاق، عن طريق المبلغين في المساجد ومجالس اجتماع المؤمنين. ومَنْ أراد الاستزادة منهم فهذا خياره الخاص، وعليه حينها التوجُّه إلى مطلبه بسلوك الطريق الصحيح تحت نظر العالِم المأمون.
- قصر الخطاب الجماهيري على الموعظة والسيرة المُيسَّرة.
أمَّا اليوم فقد طُرِحَت ملتقطاتٌ من بحوثِ ومباني الفقهاء الأعلام على عامَّة الناس وجمهور المؤمنين، فوصلهم أنَّ مِنَ العلماء الأعلام من لا يقبل المرسلات مطلقًا، ومنهم من يرفض غير ما ورد عن أهل البيت (عليهم السَّلام) في خصوص أحداث كربلاء، ومَن يقول بأنَّ ثلثي كتاب الكافي للشَّيخ الكليني (نوَّر الله مرقده) ضعيف، وأنَّ التراث الشيعي مليء بالخرافات والإسرائيليات والأخبار الضعيفة… وما إلى ذلك ممَّا أخذ المؤمنين إلى وديان من الحيرة والتشويش، وزعزعة الثقة في العلماء والمبلغين، كيف لا وقد رُفِعَت أمامهم عناوين من الاستغفال والتجهيل والتعمية قد تعرَّضوا إليه لقرون وقرون!
إذن، والحال هذه، فمِن الطبيعي أن يحرص المؤمنون اليوم على تأمين أنفسهم بالسؤال وعدم التسليم لما يُقال، كما وإنَّ هذا الإرباك الحاصل وقع في زمن التوسع الهائل في التواصل التكنلوجي وإتاحة المساحات غير المحددة أمام أيِّ أحد لطرح ما يريد دون رقابة أو جهة إشراف.
تحذير جاد وشديد:
إنَّ أيَّ طرحٍ يُغلِّط ويتَّهم الناس بالجرأة وما نحوها فمِن شأنه تأكيد هواجسهم وتقويتها في نفوسهم وأذهانهم، وهذا ما نرصده فعلًا من مجموع التعليقات على ما طرحه بعض الفضلاء، سواء من التعليقات ما كان معارضًا أو ما كان موافقًا؛ فالكلام في الطبيعة العامَّة لها.
مقولة استثمار الموسم في الطرح العلمي وما نحوه:
يطرح بعض الخطباء الأكارم وأهل الفضل من العلماء فكرةَ استثمار موسم عاشوراء لطرح المواضيع والتحقيقات العلمية، وغيرها من الإشكالات الاجتماعية؛ حيث إنَّ هذا الكم الكبير من الحضور لا يحصل في غير الموسم، ويذكر البعض بعدم نجاح تجربة الندوات والمحاضرات خارج العشرة الأولى من المحرَّم.
أقول: عندما تكون الدعوة لمحاضرةٍ دون أيِّ أمر آخر فإنَّ الحضورَ حينها نوعيٌّ، وهو الجمهور الذي يطلب المادَّة العلمية على أسس صحيحة، وهذا النوع، بطيعة الحال، ليس هو الغالب؛ إذ إنَّ الطبيعة الغالبة لجماهير الناس طبيعة عملية لا عناية لها بالمباحث والمطالب والتفاصيل العلمية.
إنَّ هذا النوع الخاص من الحضور هو المفتاح لإحداث التغييرات الثقافية في المجتمع، ولنأخذ المثال الأوربي الغربي مثالًا واضحًا؛ فممَّا لا يحتاج إلى زيادة بيان اجتماع وانضواء المجتمع الأوربي الغربي تحت حدود ثقافية عامَّة تقع داخلها قراءات وخيارات الناس، ولو أنَّنا نسلك المسالك التحقيقية والتحليلية لِعْلم الاجتماع لوقفنا على رجوع هذه الحدود الثقافية العامية لنظريات فلسفية حملها عن أصولها أكاديميون وتربويون في عملية تبليغٍ سمتها التباني، وساهم فيها بشكل رئيسي الشكل السياسي للدول الأوربية وفاعليته الحركية المتمثلة في الكيانات التربوية والتعليمية والاقتصادية، وما نحوها.
إنَّ لهذه العملية التثقيفية منظومة علمية وعملية لا تعمل خارج شروط المراحل الزمنية على مختلف الآماد المتوسطة والطويلة. لذا نرى صعوبة تغيير ما قد تحقَّق في الغرب فعلًا.
ومن هنا، أقول: إنَّ الرهان على إحداث تغييرات ثقافية وازنة في المجتمع من خلال منابر عاشوراء رهان غير صحيح، ولا أقول بعدم حصول الفائدة، ولكنَّ كلامي في الفائدة الظاهرة في التغيرات الثقافية والفكرية والسلوكية في المجتمع. فلا تغفل يرحمك الله.
بناء على ذلك، أسجل في هذه الورقة رؤية شخصية، راجيًا من الله تعالى العناية واللطف:
أعتقد بضرورة قَصْرِ المنبر المأتمي، لا سيما في العشرة أيَّام الأولى من المحرَّم على المواضيع الوعظية والأخلاقية، كالصدق، والأمانة، والأخوَّة، والمعاشرة، وحسن الظنِّ، والتسامح، والعفو، وتجنب الغيبة، وما إلى ذلك ممَّا قد وردت فيه المئات من الأحاديث الشريفة عن أهل بيت العصمة (عليهم السَّلام)، ناهيك عن الكتاب العزيز وما جاء فيه من آيات يحتاج المجتمع إلى إعمال معانيها السامية.
أمَّا المواضيع البحثية والمسائل الجدلية وما نحوها ممَّا يكثر فيه الكلام والنظريات والأخذ والرد، فليكن على مدى شهور السنة في ضمن محاضرات وندوات وملتقيات علمية يحضرها المهتمون ومن يقومون بدور النواقل في مجالسهم الخاصَّة وبين أهلهم وتجمعاتهم المعتادة، مع الوعي جيِّدًا بأنَّ لهذه الآلية نتائج تكاد أن تكون مضمونة، ولكن لا على المدى القصير، لذا فهي تحتاج إلى صبر ومواصلة بسعةِ صدرٍ وطولِ بال.
مِنَ الآثار المهمَّة لهذه الرؤية الحد من التداولات الجدلية عبر وسائل التواصل التكنلوجي لما يُقتطع ممَّا يُطرح من على المنابر، ولا شكَّ في أهمية تجنيب العباد الانشغال بغير المجدي مِن مهاترات وتنازعات هي السمة الرئيسية لما يحصل في وسائل التواصل التكنلوجي.
كما ومن المهم الوعي بأهمية البحوث والمقالات المكتوبة، وطالما تساءلنا عن بحوث الخطباء الكرام مكتوبةً ليتسنى لنا تدبرها ومناقشتها مناقشةً علمية إن احتاج المقام للنقاش والتداول، ولكنَّنا في الغالب، بل في العادة لا نجد منها إلَّا القليل ولخطباء يُعدُّون على أصابع اليد!
إذا كان قد استبان ما حاولتُ بيانه، فإنَّه من الواضح إذن أنَّ مثل تجربة عميد المنبر، ومن لُقِّب بلسان الشيعة وبالمكتبة المتنقلة، وهو سماحة المرحوم الشَّيخ أحمد الوائلي (رضوان الله تعالى عليه) لن تكون ناجحة كما كانت عليه في زمانها، إلَّا ما كان منها في خصوص القضايا الأخلاقية والنفسية. ولا داعي لمزيد بيان.
هذا، وأرجو من الله تعالى أن أكون قد وُفِّقتُ لما رجوت، آملًا من القارئ الكريم التفكُّر بأناة وتؤدة، دون ضيق واستعجال.
الحمد لله ربِّ العالمين، والصَّلاة والسَّلام على أشرف الأنبياء والمرسلين محمَّد وآله الطاهرين، والسَّلام على الحسين الشهيد.
السَّيد محمَّد بن السَّيد علي العلوي
12 من شهر محرَّم الحرام 1443 للهجرة
البحرين المحروسة
………………………………
[1] – ثواب الأعمال – الشيخ الصدوق – ص 187
[2] – كامل الزيارات – جعفر بن محمد بن قولويه – ص 207
[3] – هو ضرب الرؤوس بالقامات والسيوف، ونسميه في بلادنا البحرين (حيدر) فيما يسميه الإخوة في العراق (تطبير).
[4] – مقاييس اللغة، ابن فارس، (نقد)
[5] – تاريخ النقد الأدبي عند العرب، إحسان عبَّاس، ص5