إنَّ من أهمِّ ما تنتظره الفِكرةُ مناقشات وملاحظات من تصل إليه؛ وإلَّا لبقيت حبيسة أطرها، ولبقيتِ الملاحظاتُ تراوح في مكانها، فلا الفكرة قُوِّمَت، ولا الملاحظات وُجِّهت، لذا، نحن في حاجة مستمرة لمناقشات موضوعية هادئة، سِمَتُها الاحترام، وميزتها طلب التكامل والنضج.
يبدو أنَّ المقالةَ التي كتبتُها اليوم، وكانت تحت عنوان (29 من شهر رمضان 1441 للهجرة)[1] قد لاقتْ شيئًا من اهتمامات بعض الأفاضل من المؤمنين، وقد شرَّفني بعضُهم متفَضِّلًا ببعض الملاحظات، فوجدتُ أنْ أُعَقِّب بمقالٍ أحاول فيه توضيح بعض الزوايا المهمَّة.
اشتركت الملاحظات الكريمة في أمرين:
الأوَّل: ما ذكرتُه حول موقع الأساتذة الفلكيين في مسألة الهِلال.
الثاني: عدم اعتبار بعض العلماء في مسألة الهِلال لإثبات علماء آخرين.
أمَّا الأمر الأوَّل، فقد قلتُ، نصًّا، في المقالة المشار إليها:
“في هذه السنة بالذات تدخل الإخوة الأفاضل من الأساتذة الفلكيين بشكل غير صحيح في أمرين:
الأوَّل: ليس من الصحيح أن ينشر الإخوةُ الفلكيون صور الهلال، سواء بكاميرات عادية أو كاميرات دقيقة؛ فعامَّة الناس يرون الصورة ولا يفهمون مدى اعتمادها الشرعي، فيضطربون ويتساءلون باستغراب عندما لا يُبت الهلال شرعًا.
الثاني: قطع بعض الأحبَّة من الفلكيين قطعًا جازمًا بإمكان أو عدم إمكان الرؤية، وانتشر جزمه بين عامَّة الناس. هذا القطع الجزمي يُؤثِّر غالبًا في التركيز الذهني لمن يتلقى شهادات الشهود، كما ويؤثِّر كذلك في النفسية العامَّة للناس بما يشوش استقبالهم للبيان العلمي.
لذا، فالمرجو من الأساتذة الكرام تجنُّب هذا المستوى من الجزم، والاكتفاء بتقديم رؤية فلكية علمية هادئة لخصوص العلماء المُتصدِّين، مع التأكيد على عدم نشرها.
وكيف كان، فإنَّ إخبارات الفلكيين لا تنفع عامَّة الناس، بل قد ثبت ضررها الكبير على الأذهان والنفسيات؛ والسبب في ذلك أنَّها ليست من اختصاصاتهم ولا من شأنياتهم، فلماذا يُربَكُونَ بها؟!
فلنحافظ أيُّها الأكارم على علمية التخصُّص في كافَّة أمورنا، ومنها ما نحن فيه”.
تركَّزتِ ملاحظات الإخوة الأكارم، ومنهم بعض الأساتذة من الفلكيين، في نقطتين:
الأولى: إنَّ في الدعوة إلى عدم نشر الفلكيين لتقاريرهم وقصرها على أصحاب الشأن من العلماء فيه تغييب للعلم، والحال أنَّنا في عصر يرفض قطعًا مثل هذه الدعوات.
الثانية: لكل صاحب علم وفنٍّ وصنعة كامل الحقِّ في نشر علمه، ولا يمكن أن نمنعه بحجَّة وجود بعض المستعجلين أو مَن لا يُحسِنون التعامل مع التقارير العلمية.
أمَّا بالنسبة للنقطة الأولى فأُوضِّح المسألة تاليًا:
لا شكَّ في أنَّ العلوم متاحة لطلَّابها، ولا يمكن حبسُها عن مُريد لها ولا مَنعُ مريدٍ عنها، إلَّا أنَّ لكلِّ مسألة علمية مقدِّمات علمية ينبغي تحصيلها، ولذلك طلبنا قبل شهور مضت من الخبر الفلكي الأستاذ علي الحجري دورةً في مسائل الهِلال وأوقات الصلاة، وبالفعل دخلنا الدورة التي توزَّعت على أربعة دروس بواقع قرابة الساعتين لكل درس، وكان المعلومات مضغوطة وكثيرة جدًّا.
القصد، أنَّنا طلبنا الدورة من المختص، وكنَّا قرابة العشرين شخصًا، خرجنا بشيء قليل وضَّح لنا شيئًا ممَّا شابه في أذهاننا بعض التشويش.
هكذا يكون طلب العلم، وهو لا يُمكِنُ بحال من الأحوال أن يُخاطب به جمهور الناس، وهذا أمر متسالم عليه في علوم التربية والاجتماع.
نعم، يُثقَّف الجمهور بطبيعة بعض المسائل العلمية مثل اختلاف مباني الفقهاء وما نحو ذلك.
لاحظوا جيِّدًا..
عندما نطلب من الأساتذة الفلكيين الاقتصار على العلماء في تعاملاتهم العلمية في خصوص تقارير الهِلال، فإنَّنا قطعًا لا نمنع عِلمًا ولا نُغيِّبُ معرفةً، بل كل ذلك مفتوح أمام الجميع طوال السنة. فلتُعقَد الدورات والندوات على مدى إحدى عشر شهرًا؛ من بداية شوَّال إلى نهاية شعبان، وحينها علينا ان نرصد حجم ونوعية الباحثين عن مثل هذه الدورات العلمية وغيرها، وهنا أُلفِتُ الانتباه إلى أمر مهم..
لو التحق 80% من الجمهور بهذه الدورات، وتخرَّجوا جميعهم بدرجات تفوق، فحتَّى في هذه الحالة لن يكون من الصحيح نشر الإخوة الفلكيين تقاريرهم فيما يخص الهِلال على غير العلماء والمتصدين؛ والسبب في ذلك أنَّ 5% من الـ20% الباقية سوف يكون سببًا في اضطراب الأجواء وتوتيرها!
لماذا؟
الجواب: هذه هي طبيعة العقل عند وقوعه في الجو والظروف الجمعية، ويدل على ذلك ما حدَّث ليلة الأحد، فإنَّ الذين كانوا سببًا في حدوث تلك الإرباكات المُتعِبة قد لا يتجاوزون بضع مئات، بل ربَّما عشرات، ولكنَّ أصوات الفوضى عادة ما تكون عالية.
فالدعوة ليست لتغييب العلم أو حجب المعرفة عن العقول، بل هي في الواقع لاحترام العلم وتقدير ذوي العقول.
إذا اتَّضح ذلك، اتَّضح الجواب على النقطة الثانية، فالأساتذة من الإخوة الفلكيين عندهم إحدى عشر شهرًا لإظهار ونشر علومهم، ولا شكَّ في أهمية ذلك ومحموديته، ولكن في خصوص هِلالي شهر رمضان وشهر شوَّال، فليقتصر الأمر على المختصين والمتصدين، احترامًا للناس وتقديرًا لمتاعبهم.
لاحظوا أيُّها الأحبَّة عندما ينشرُ أحد الأساتذة صورة للهِلال بآلة تصوير دقيقة (اسمها ccd) لا يعتمدها العلماء، فكيف حينها تصل إلى كلِّ الناس لتخبر كل واحد بأنَّ هذه الكاميرا غير معتمدة شرعًا، وكم منهم يريد معرفة السبب، وتلك الأسباب لها مقدمات فلكية تخصصية وأخرى شرعية تخصصية!!
لا يصح الأمر هكذا، بل، في تصوري القاصر، قد أدَّى بنا ذلك إلى الكثير من الإرباك المؤثِّر في سلامة صفاء الأذهان. ومثل ذلك القطوعات الجزمية من بعض الأساتذة الأفاضل، وقد جزم منهم باستحالة رصد الهِلال بالعين المجرَّدة، في حين جزم آخر بإمكانه بعد تحديد موقعه بالآلات الخاصَّة.
هذه القطوعات الجزمية تُؤثِّر بطبيعة الحال عند تلقي شهادات الشهود، وبشكل أكبر يكون أثرها على عامَّة الناس الذين يصعب عليهم استيعاب الموازين الشرعية؛ وقد مرَّ أنَّها تحتاج إلى مقدِّمات علمية ضرورية..
أرجو أنَّ المسألة قد اتضحت بشكل أفضل الآن..
أمَّا الأمر الثاني فأُجمِلُه في التالي:
عندما لا يعتبر زيدٌ من العلماء إثبات بكرٍ من العلماء، فإنَّ هذا ليس لعدم ثقة فيه أو ما شابه، ولكنَّ الأمر يرجع إلى الموازين الموضوعية للشاهد والشهادة، كما هو الحال في القضاء، وقد نُصَّ في الفقه على وجوب عرض القضايا التي تم الفصل فيها على القاضي الجديد، كما وأنَّ قبول شهادة هذا الشاهد عند القاضي الأوَّل لا يلزم منه قبوله عند الثاني، لا لضعف ثقة، بل لاختلافات موضوعية في بعض الموازين. وقد وجدنا أنَّ نفس هِلال شوَّال من 1441 للهجرة قد ثبت بالرؤية المجرَّدة عند آية الله العظمى الشيخ بشير النجفي (دام ظلُّه)، فيما لم يثبت عند آية الله العظمى السيد علي السيستاني (دام ظلُّه).
الأمر طبيعي جدًّا، وهو ممَّا يحصل بلا أدنى إنكار في مختلف مجالات الحياة..
أرجو أن أكون قد وفِّقتُ في توضيح بعض الأمور، راجيًا من الله تعالى أن يوفِّقني دائمًا للاستفادة من ملاحظات وآراء القرَّاء الموقَّرين.
السيد محمَّد علي العلوي
29 أو 30 شوَّال 1441 للهجرة
البحرين المحروسة
…………………………………….
[1] – رابط المقال: http://main.alghadeer-voice.com/archives/5612