مسائِلُ (1) في المشاهد المشرَّفة

بواسطة Admin
0 تعليق

إنَّ عقيدتنا راسخةٌ في أنَّ أهل البيت (عليهم السلام) ملجأ وكهفٌ منيعٌ من كلِّ شيءٍ مخوف، بما في ذلك الأمراض والأسقام، وقد استفاضت الأحاديث وما جاء في بعض الزيارات الشريفة دالًا على كونهم قطب الرحى في قضاء مطلق الحوائج ودفع النوائب.

هذا ممَّا لا شكَّ فيه ولا بمقدار رقَّة القطمير..

إذا كان الأمر كذلك، فلِم نرى شفاء بعض المصابين بأمراض مستعصية عند لجوئهم لأحد المشاهد المشرَّفة، ونرى غيرهم لا يشفون، بل قد تشتدُّ أمراضهم ويموتون؟

للإجابة على هذا التساؤل لا بُدَّ من توضيح أمور لن يستقيم الفهم دون استيعابها..

العلَّة التامَّة والمقتضي:

لا يمكن للشعاع أن يتخلَّف عن الضوء، ولا يمكن أن يُوجَدَ ضوءٌ ولا يتبعه في الوجود شعاع.

هذا لأنَّ الضوءَ علَّةٌ تامَّةٌ للشعاع، والعلَّة أذا وجبتْ وجبَ معلولُها ضرورةً.

أمَّا النار فقد لا تحرق الورقة -مثلًا- حتَّى مع ملامستها لها، والسبب في ذلك وجود مانع منع الإحراق، كالرطوبة أو ما شابه.

فالنار تقتضي الإحراق، فهي علَّةٌ ناقصةٌ، وحتَّى يتحقَّق الإحراق فنحن في حاجة إلى أمور أربعة:

١/ المقتضي.

٢/ الشرط.

٣/ عدم المانع.

٤/ المعد.

لا يتحقَّق المعلول إلَّا بتمامية هذه الأمور، ونسميها: أجزاء العلَّة.

وفي مثالنا: النارُ مقتضي لحصول الإحراق، ولكن بشرط مباشرتها لما يُراد إحراقه مع عدم وجود المانع مثل الرطوبة، ومع المقتضي والشرط وعدم المانع يفتقر المقام إلى المُعِد، وهو ما يحقِّق استعداد النار لإيجاد أثرها في الخارج.

نرجع إلى مسألة المشاهد المشرَّفة، فنقول:

بما أنَّ هناك من يشفى بسبب زيارته لأحد المقامات المقدَّسة، وآخر لا يشفى، فالوضح إذن أنَّ المشهد المقدَّس ليس علَّةً تامَّة للشفاء أو لقضاء الحوائج، بل هو يقتضي الشفاء وقضاء الحوائج، فيبقى عندنا:

– الشرط.

– عدم المانع.

ما ينبغي فهمه جيِّدًا أنَّ الشرط ليس بالضرورة أن يكون واضحًا للعبد، بل قد تكون الحِكمة منه تعالى في عدم التصريح به؛ وذاك لكون نفس اللجوء لله بالدعاء أو للإمام المعصوم (عليه السلام) أو مشهده المشرَّف مطلوبًا في نفسه لنفسه، ويكون الشرط أو أحد الشروط طلب الدواء من الطبيب، كما في الحديث عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال:

“إنَّ نبيًّا من الأنبياءِ مرض، فقال: لا أتداوى حتَّى يكون الذي أمرضني هو الذي يشفيني.

فأوحى الله تعالى إليه: لا أشفيك حتَّى تتداوى، فإنَّ الشفاء منِّي” مكارم الأخلاق، الشيخ الطبرسي ص٣٦٢. (رواه عنه الحر العاملي في وسائل الشيعة، والشيخ المجلسي في بحار الأنوار، وغيرهما).

قد يُقال:

اليقينُ في أهل البيت (عليهم السلام) علَّةٌ تامَّة لحصول قضاء الحوائج وحصول الشفاء..

فنقول، لا نُسلِّمُ بذلك؛ لثلاث جهات:

الأولى: لا يصحُّ اليقينُ باليقين المُدَّعى، بل إنَّ (دعوى اليقين الشخصي) لا تستقيم وواقع حال المدَّعي غالبًا، وهذا إن قلنا بعدم مخالفتها لفضيلة اتِّهام النفس.

الثانية: نعم، اليقين في أنَّ الإمام (عليه السلام) له الوَلاية التكوينية، وفي قدرته أن يفعل ما يشاء بإذن الله تعالى، وهذه كُبرى مُسلَّمة.

أمَّا الصغرى، بأن يقول القائل: أنا على يقين بأنَّه (عليه السلام) يشفيني، فهي غير مسلَّمة، بل هي تحتيم على المعصوم (عليه السلام)، والتحتيم على الوَلي حرام، بل هو ناقض لعقيدة التسليم.

الثالثة: لا يمكن التسليم بكون اليقين علَّةً تامَّةً؛ لضرورة ارتباطِ كلِّ حدثٍ لفردٍ واحدٍ بغيره، فقد يكون في شفاء زيدٍ ضررٌ لبكرٍ بحسب حكمة التقديرات والقضاءات الإلهية، وقد تكون حكمتُه تعالى في عدم إصلاح الأمر لزيد.

هذه كلُّها ترجع إلى أجزاء العلَّة من مقتضيات وشروط وموانع ينبغي رفعها.

تنبيه:

كلُّ هذا بيد الله تعالى، وإنَّما نبحث المسائل بحسب القوانين التي نعتقد بتكوينيتها وعدم تخلفها عن إرادة الله تعالى، لا أنَّها حاكمة على إرادة الله تعالى. فافهم.

خلاصة الكلام في خصوص هذه النقطة:

جاء عن محمَّد بن مسلم، قال: سمعتُ أبا جعفر وجعفر بن محمد (عليهما السلام) يقولان:

“إنَّ الله تعالى عوَّض الحسين (عليه السلام) من قتله أن جعل الإمامة في ذريته، والشفاء في تربته، وإجابة الدعاء عند قبره، ولا تُعدُّ أيام زائريه جائيًا وراجعًت من عمره”[1].

إنَّ لنفس استعمال تربة الإمام الحسين (عليه السلام) والدعاء تحت قبَّته الشريفة فضيلة، وهو أمر مطلوب لنفسه وفي نفسه، أمَّا ترتُّب الأثر فأمره بيد الله تعالى؛ لكون الفعل من المؤمن امتثالًا لقول المعصوم (عليه السلام) تعرُّضًا للمقتضي، ويبقى مرجع الشرط ورفع المانع إلى قوانين أخرى غير مجرَّد التعرَّض للمقتضي.

مسألة:

في الحديث المزبور عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال:

“إنَّ نبيًّا من الأنبياءِ مرض، فقال: لا أتداوى حتَّى يكون الذي أمرضني هو الذي يشفيني.

فأوحى الله تعالى إليه: لا أشفيك حتَّى تتداوى، فإنَّ الشفاء منِّي”

نقول: واضحٌ أنَّه من الممكن أن يجازي اللهُ تعالى النبي المشار إليه في الحديث على يقينه بالشفاء، غير أنَّه قال: “لا أشفيك حتَّى تتداوى، فإنَّ الشفاء منِّي”.

نحتملُ أنَّ طلبَ الدواءِ بالطرق الطبيعية هو في واقعه جزءٌ من العلَّة الفاعلة، ولذلك وجَّه اللهُ تعالى إليها كسُنَّة من سنن التكوين، فيكون اللجوء إلى الدواء هو عين اللجوء إلى إرادة الله تعالى.

زيادة بيان:

عندما يريد إنسانٌ قطع مسافةٍ للذهاب إلى المسجد، فإنَّ إرادة الله تعالى واقعة بين التقدير والقضاء.

أمَّا التقدير فهو الخطوة التي يحقِّقها الإنسان في الخارج، والقضاء هو حدوث الانتقال الفعلي من نقطة إلى أخرى.

فهو يتحرَّكُ في قانون الله تعالى وتكوينه المُحكَم، وهو القدر والقضاء، وإنَّما نُهينا عن الحديث فيه من جهة طلب التعمق وفهم الموازين، وهذا ممنوع عن الإنسان تكوينًا.

قال أمير المؤمنين (عليه السلام) وكان قد سُئِل عن القدر:

“طريقٌ مظلمٌ فلا تسلكوه، وبحرٌ عميق فلا تلجوه، وسرُّ الله فلا تتكلفوه”[2].

مسألة:

هل يكون المشهد المشرَّف محلًّا لانتقال الأمراض وما نحوها؟

هذا سؤالٌ خاطئٌ وفيه شيء من المغالطة؛ فإنَّ المشهد المشرَّف بما هو وجود متشخص خاص ليس موضوعًا لانبعاث شيءٍ، وإنَّما جعله الله تعالى محلًّا للتوبة والنجاة واستجابة الدعاء، أي أنَّ فضائل المشاهد المقدَّسة مُسبَّبةً لوجود الجسد الطاهر للإمام المعصوم (صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين).

أمَّا الضرر المرضي أو ما شابه فيكون من حامله الداخل إلى المشهد، سواءً كان بشرًا أو هواءً أو ترابًا، أو ما شابه.

فإن قيل: لا ينتقل ضررٌ مرضيٌ أو ما نحو في حرم المشهد المشرَّف

قلنا: يرجع الكلام إلى ما حاولنا بيانه قبل قليل.

مسألة:

قد يكون في المشهد المشرَّف مريضٌ بمرض خطير ينتقل إلى غير بالعدوى، وفي ظرف وجوده دخل مؤُمِنٌ يعلم بوجود المريض وبأن مرضه من الأمراض المعدية، وذهب إليه واحتضنه وقبَّله ولم يُصبَ بشيءٍ.

فنقول: ما لم ترد كُبرى من الإمام المعصوم (عليه السلام) في حديث واضح فإنَّنا لا نتمكَّن من القطع بتكرار نفس الأمر مع شخص آخر؛ لكون وقوع المصلحة (شرط وإعدام مانع) في سلامة خصوص الداخل العالم بوجود المريض.

وقد يكون نفس هذا الداخل العالم بوجود المريض على درجة من اليقين أو ما نحوه ما تحقَّق به شرط أو رُفِع مانع.

نتيجة:

على فرض صحَّة ما بيَّناه، فإنَّ المجازفة قد تُوقِعُ أضرارًا عميقة في عقائد الناس في حال تخلُّف بعض الشروط أو بقاء بعض الموانع، ووقوع المحذور.

لذا، فإنَّ التزام جادَّة الاحتياط حِكمَةٌ وطاعةٌ لله تعالى وأهل البيت (عليهم السلام).

في الختام:

ما حاولتُ تبينه في هذه السطور إنَّما هو جهدُ قاصرٍ مُقصِّرٍ خطَّاء، ولا تتنقح المطالب وتُصحَّحُ الطرق إلى المقاصد إلَّا بمناقشات ذوي الأفهام وتصحيحات أربابها.

 

السيد محمَّد بن السيد علي العلوي

29 رجب 1441 للهجرة

البحرين المحروسة

…………………………………………

[1] – الأمالي، الشيخ الطوسي ص٣١٧

[2] – نهج البلاغة، ج٤ ص٦٩

مقالات مشابهة

اترك تعليق


The reCAPTCHA verification period has expired. Please reload the page.