لا تُحدِّث مَن تخاف تكذيبه ll بقلم: سماحة الشيخ حسين بن يوسف طارش

بواسطة Admin
1 تعليق

يبيَّن لنا أئمتنا (عليهم السلام) في كلامهم أسسًا وقواعد عامة لهذه الحياة، وهذا من منطلق هداية الإنسان والبلوغ به إلى مراتب الكمال، ولا أخص بهذه القواعد الأمور الشرعية منها، بل ما يشملها وغيرها، من التي تهتم بمعيشة الإنسان في هذه الدنيا، ومن هذه القواعد، ما ورد في وصية الإمام الكاظم (عليه السلام) المعروفة لهشام بن الحكم، قال (ع):

يَا هِشَام إِنَّ العَاقِلَ لَا يُحَدِّثُ مَنْ يَخَافُ تَكْذِيبَهُ[1].

فهذه القاعدة ناظرةٌ إلى كيفية التعامل مع الغير، فهي من المسائل الاجتماعية، وأهمية هذه القاعدة جليَّة، وتكمن أهميتها في وجوه عدة، وأشير إلى ثلاثةٍ منها:

الجهة الأولى:

إن العقلاء عندما يخبرون بأمرٍ ما يرجون تحقق الأثر من هذا الإخبار، فعلى سبيل المثال الفقيرُ يُخبر بفقره وحاجته إلى رجل غنيٍّ لكي يقدم له المساعدة، فلو علم الفقيرُ أن هذا الغني لن يساعده ويعينه لو أخبره بفقره، فسبب إخباره بفقره يكون منتفيًا، فلا داعي إذًا للإخبار بالفقر حينئذٍ.

فمع عدم رجاء تحقق الأثر من الإخبار يكون الإخبار حينئذٍ عبثيًّا لا منفعة منه، وهو بخلاف ما عليه العقلاء، ولذلك عبَّرت الرواية بـ(إنَّ العَاقِلَ).

الجهة الثانية:

إنَّ تحديثك بما تخاف تكذيبه من شخص قد يؤدي إلى اتهامك بالكذب من قِبَلِ ذلك الشخص، واتهام أحدٍ بالكذب إهانةٌ له، ولمْ يفوض الله سبحانه وتعالى للمؤمن إهانة نفسه، فقد ورد في خبر أبي الحسن الأحمسي، عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: “إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ فَوَّضَ إِلَى المُؤمِنِ أُمُورَهُ كُلهَا وَلَم يُفَوَّضْ إِلِيهِ أَنْ يَكُونَ ذَلِيلًا، أَمَا تَسمَعُ قَولَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} فَالمُؤمِنُ يَكُونُ عَزِيزًا وَلَا يَكُونُ ذَلِيلًا[2].

بل حتى العاقل لا يرتضي لنفسه الإهانة، فإن كان التحديث بأمرٍ ما إلى شخص يؤدي إلى الإهانة، فصون عزة النفس أولى من هذا التحديث.

الجهة الثالثة:

تحديثك شخصًا تخاف تكذيبه لك، قد يكون فيه إقحام للنفس في موضع تهمة، وقد جاءت كلمات أهل البيت (عليهم السلام) محذرةً من إقحام النفس في موطن التهمة، ففي الخبر عن السكوني عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: قَالَ أَمِيرُ المُؤمِنِين (عليه السلام): “مَنْ عَرَضَ نَفسَهُ لِلتُهْمَةِ فَلَا يَلُومَنَّ مَنْ أَسَاءَ بِهِ الظَّنَّ…[3]، وورى ابن إدريس نقلًا من جامع البزنطي قال: قال الإمام الكاظم (عليه السلام) قال الإمام الصادق (عليه السلام): “اتَّقُوا مَوَاقِفَ الرَّيبِ…[4]، وما نحن في صدده يمكن أن يندرج في مواقف الريب، بل إن تعريض النفس للتهمة فيه عدم مبالاة لما يقال عنها، وروايات أهل البيت (عليهم السلام) وصفت ذلك بشرك الشيطان، فعن سيف بن عميرة قال: قال الصادق جعفر بن محمد (عليهما السلام): “مَنْ لَم يُبَالِ مَا قَالَ وَمَا قِيلَ فِيهِ فَهُوَ شِركُ شِيطَانٍ، وَمَنْ لَم يُبَالِ أَنْ يَرَاهُ النَّاسُ مُسِيئًا فَهُوَ شِركُ الشيطان…[5].

والفرق بين هذه الجهة والجهة الثانية، أن الجهة الثانية تشير إلى لازم تحديث من تخاف تكذيبه، وهو تعريض نفس للإهانة عند تكذيبها، فينبغي اجتناب ذلك اللازم، أما هذه الجهة فتحديث من تخاف تكذيبه فيه تعريض للنفس للتهمة، وهذا نفسه يجب اجتنابه.

ولكن ينبغي الالتفات إلى عدم جواز ظن السوء بالمؤمن، فلو حدثك أخوك المؤمن بشيء فيه غرابة فلا تظن به الكذب، نعم ليس عليك ترتيب الأثر على كلامه، أو الاعتقاد به، لكن لا يعني ذلك أن تتهمه بالكذب، فإن تكذيبك إياه مع عدم العلم بأنه كاذب داخلٌ في سوء الظن بالمؤمن، وقد ورد النهي الشديد عنه، ففي رواية الأربعمائة لأمير المؤمنين (عليه السلام): “اطْرَحُوا سُوءَ الظَّنِّ بَينَكُم فَإِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ نَهَى عَن ذَلِكَ[6].

نسأل الله تعالى أن يهدينها لما هو أزكى، وأن يرزقنا التقوى، والعافية في الآخرة والدنيا، بفضله وجوده إنه على كل شيء قدير.

 

حسين يوسف طارش

٢٩ رجب ١٤٤١ للهجرة المباركة

……………………………………..

[1] – أصول الكافي ج١

[2] – الكافي ج٥

[3] – الكافي ج٨

[4] – مستطرفات السرائر

[5] – الخصال

[6] – الخصال

مقالات مشابهة

1 تعليق

أحمد نصيف 5 مايو، 2020 - 5:55 م

أحسنتم سماحة الشَّيخ العزيز،،

مقالةٌ – على قصرها الكمِّي – قد جمعت ما ينبغي أن يُقال في المقام، وقد اعتدنا منكم تغذية سطور كتاباتكم بحديث أهل البيت عليهم السَّلام، فهم ضياء كلِّ ظلمة.

بارك الله فيكم، ونفعنا بكم.
وإلى مزيدٍ من التوفيق الإلهي لخدمة شريعة سيد المرسلين (صلَّى الله عليه وآله).

رد

اترك تعليق


The reCAPTCHA verification period has expired. Please reload the page.