من الغدير إلى (شعائر) عاشوراء

بواسطة Admin
0 تعليق

بعد فراغِ المسلمين من أداء مناسك الحجِّ، وقبل تفَرقهم كل إلى بلده ووجهته، جَمَعَهم رسولُ اللهِ (صلَّى الله عليه وآله) في يوم الثامن عشر من شهر ذي الحجَّة من السنة العاشرة للهِجرَة، في منطقة غدير خم، وارتقى مِنبَرًا صُنِعَ له، وإلى جانبه علي بن أبي طالب (عليه السلام)، وخَطَبَ، حتَّى قال:

“أيُّها الناس، إنَّ اللهَ تَبَارَكَ وتَعَالى مولاي، وأنا مَولى المؤمنين، فَمَنْ كُنْتُ مَولاه فَعَلِيٌّ مَولاه، اللهُمَّ وَالِ مَنْ وَالاه، وعَادِ مَنْ عَادَاه، وانْصُرْ مَنْ نَصَرَهُ، واخذُلْ مَنْ خَذَلَهُ”[1]. فَجَمَعَ عقيدتهم في: أشهد أنْ لا إله إلَّا الله، وأنَّ محمَّدًا رسول الله، وأنَّ عليًّا وليُّ الله، وبذلك اشترك المسلمون مع غيرهم من أهل الديانات في (أشهد أن لا إله إلَّا الله) وجاز بحسب واقع الحال اختلافهم معهم في غير ذلك من عقائد وما دونها، على أن يكون التوحيدُ سقفًا عاصمًا عند ارتفاع الخصومات بينهم، ولذلك قال الله تعالى (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ)[2]، وأشترك كافَّةُ المسلمين في (أشهد أنَّ محمَّدًا رسولُ الله)، فجاز بحسب واقع الحال أن يختلفوا في ما دون الشهادتين، وتكونا السقف العاصم لهم عند ارتفاع الخصومات بينهم، فقد قال رسول الله (صلَّى الله عليه وآله): “من شهد أنْ لا إله إلَّا الله، وأنَّ محمَّدًا رسولُ اللهِ، فقد حَقَنَ مَالَهُ ودَمَهُ إلَّا بِحَقِّهِمَا، وحسابه على الله عزَّ وجلَّ”[3].

أمَّا الذين ثبتوا على الشهادات الثلاث، فهي سقف خلافاتهم، وقد جعلهم الله تعالى إخوةً، وأعطى الوَلايةَ لهم على بعضهم البعض، فقال جلَّ في علاه (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ)، وضَمِنَ لهم الرحمة إن كانت هذه صفتهم، فقال: (أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)[4]، وقد فصل الإمامُ الصادقُ (عليه السلام) في مسألة الفرق بين المسلم والمؤمن، فعن أبان بن تغلب، قال: قلتُ لأبي عبد الله (عليه السلام): “مَنْ عَرَفَ الأئمَّةَ ولَمْ يَعْرِف الإمامَ الذي في زَمَانِهِ، أمُؤمِنٌ هُوَ؟

قال (عليه السلام): لا.

قلتُ: أمُسْلِمٌ؟

قال (عليه السلام): مُسْلِمٌ”[5].

لعلَّنا نفيد من مِفصَلِ الغدير دوائِرَ وحُدودَ التَقَارُبِ بين الناس، وإذا ما وصلنا للشيعة الموالين لأهل البيت (عليهم السلام) فإنَّ الموافق لثباتهم على الشهادات الثلاث أن لا تتجاوز خلافاتهم الحدود الطبيعية في بعض الفروع وما نحوها، كما ولا يناسب ثباتهم على الوَلاية أن يرتفعوا في خلافاتهم إلى حدِّ التخاصم والتنازع؛ لانتقاض (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ)[6] به، وقد قال سبحانه وتعالى (وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ)[7]، والخوف حينها من الوقوع مصداقًا لقوله تعالى (وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا)[8]!

بعد ليلةٍ من كِتَابَةِ هذه السطور نَدخُلُ أجوَاءَ إحياء ذكرى المسؤولية العظمى، مسؤولية الشهادات الثلاث، وقد قال إمامنا أبو جعفر الباقر (عليه السلام):

“يا معشر الشيعةِ، شيعة آل محمَّدٍ، كونوا النمرقة الوسطى؛ يرجعُ إليكم الغالي، ويلحق بكم التالي.

فقال له رجل من الأنصار يقال له سعد: جُعِلتُ فداك، ما الغالي؟

قال (عليه السلام): قومٌ يقولون فينا ما لا نقوله في أنفسنا، فليس أولئك مِنَّا ولسنا منهم.

قال: فما التالي.

قال (عليه السلام): المُرْتَادُ يُريدُ الخيرَ، يبلغه الخير يوجر عليه.

ثُمَّ أقْبَلَ علينا فقال: واللهِ مَا مَعَنَا مِنَ اللهِ بَرَاءَةٌ، ولا بيننا وبين اللهِ قَرَابَةٌ، ولا لنَا على الله حُجَّةٌ، ولا نَتَقَرَّبُ إلى اللهِ إلَّا بالطَاعَةِ، فَمَنْ كانَ مِنْكُم مُطيعًا لله تَنْفعهُ وَلايتُنَا، ومَنْ كَانَ مِنْكُم عَاصِيًا للهِ لم تَنْفعهُ وَلايَتُنَا، ويحكم لا تَغْتَرُّوا، ويحكم لا تَغْتَرُّوا”[9].

بعد ليلة الغدير باثني عشر ليلة أو أقل، يهلُّ علينا هلال الدم الذي سُفِكَ في كربلاء ظلمًا وعدوانًا.. هلالٌ قال الإمام الرضا (عليه السلام) في عاشره “إنَّ يومَ الحُسَينِ أقْرَحَ جفُونَنَا، وأسْبَلَ دمُوعَنَا، وأذَلَّ عَزيزَنَا بأرضِ كَرْبٍ وبَلَاء، أوْرَثَتْنَا الكَرْبَ والبَلَاءَ إلى يَوم الانقِضَاء. فَعَلى مِثْلِ الحُسَينِ فَليبكِ البَاكُونَ؛ فإنَّ البُكَاءَ يحُطُّ الذنُوبَ العِظَام”[10].

هو يوم شهد استنصار إمامنا الحسين (عليه السلام) المُسلمين بعد أن قلَّ الناصر وانحسر عنه المُناصر، ولم يلق (عليه السلام) جوابًا إلَّا النبال من العدو والرماح تحتوشه مُصدِّقةً لقوله (عليه السلام): “كأنِّي وأوصالي يَتَقَطَّعُها عُسْلانُ الفلوات بين النواويس وكربلاء، فيملأن مِنِّى أكراشًا جُوَفًا وأجْرِبَةً سُغَبًا”[11].

كان من المأمولِ توحُّدُ المؤمنين تحت راية الإمام الحسين (عليه السلام) وشعارهم الشهادات الثلاث لتنفي آثار الخلافات البينية، ولا يكون أمامهم غير تحمُّل مسؤولية الوَلاية التي للتو أحيوا ذكرها في ليلة الثامن عشر من ذي الحجَّة.

حِكمَةُ ومِلاك الشعائر:

الشعِيرَةُ عَلَامَةٌ تتوجَّه لتبيه النفس، فيكون بينها وبين مطلق العلامات عموم وخصوص مطلق، وهذا ما نفيده من المعنى اللغوي لها؛ قال ابنُ منظور: “وحكى اللحياني عن الكسائي: ما شَعَرْتُ بِمَشْعُورِه حتَّى جاءه فلان، وحُكي عن الكسائي أَيضًا: أَشْعُرُ فلانًا ما عَمِلَهُ، وأَشْعُرُ لفلانٍ ما عمله، وما شَعَرْتُ فلانًا ما عمله، قال: وهو كلام العرب. ولَيْتَ شِعْرِي أَي ليت علمي أَو ليتني علمتُ، وليتَ شِعري من ذلك أَي ليتني شَعَرْتُ”[12]. ولِأنَّها إحداثٌ علميٌّ نفسي كان تعظيمها أمارةً على التقوى، وهو قوله تعالى (ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ)[13]، فقدسية الشعيرة من قدسية العلم الذي يقع في النفس فيُحدِثُ أثرًا إيمانيًا خاصًّا، وهذا ما يُفسِّر لنا شيئًا من جوانب حكمة الإحياء التي طالما حثَّ عليها وبعث إليها أهل البيت (عليهم السلام) بتأكيداتٍ عزيزة.

قال ابن طاووس: “رُويَ عن آلِ الرسول (عليهم السلام) أنَّهم قَالُوا: من بكى وأبكى فِينَا مِئةً فله الجَنَّة، ومن بكى وأبكى خمسين فله الجنَّة، ومن بكى وأبكى ثلاثين فله الجنَّة، ومن بكى وأبكى عشرين فله الجنَّة، ومن بكى وأبكى عشرة فله الجنَّة، ومن بكى وأبكى واحدًا فله الجنَّة، ومن تباكى فله الجنَّة”[14]. ونجد مثل هذا الحديث وما يحكي فضل إحياء أمرهم (عليهم السلام) العشرات في كتبنا الحديثية المعتبرة العظيمة.

الشعيرة، إذًا، عِلمٌ خاصٌّ يصل إلى النفس فتهيج منها على الحدود دموع حارَّة يفوح منها عَبَقُ الوَلاية لأهل بيت العِصمَة (عليهم السلام)، وهذا ممَّا ينبغي أن يتوحَّد المؤمنين فيه وتجتمع كلمتهم عليه، ويكون دافعًا لكافَّة الشبهات والظنون.

كُلُّنا إن شاء الله تعالى مؤمنون:

عندما كان الاجتماع سمةً من سمات مظاهر إحياء أمر أهل البيت (عليهم السلام)، جرتْ فيها أدبياته وقوانينه، ولذلك نجد بعض الاختلاف في طُرق الإحياء بين البحارنة والعراقيين، وبينهم وبين الإيرانيين، والهنود والأفغان والباكستانيين، وهكذا بين المجتمع والآخر، إلَّا أنَّ الجميع داخل في عنوان الحزن والبكاء على مصائب أهل البيت (عليهم السلام)..

فلنلاحظ..

في العراق هناك عُرفٌ تقليدي يمارسه العراقيون في الأفراح والأتراح، وهو ما يسمى عندهم بـ(الهوسة) أو (المهوال)، وهو أمر من عمق ثقافتهم، ولذلك فمن الطبيعي أن نجده في طُرِق وأساليب إحيائهم للشعائر بما يناسب المقام، ولكن لمَّا كان ذلك كذلك، فهو من الطبيعي أيضًا أن لا يكون مناسبًا للشعائر في البحرين -مثلًا-..

في البحرين تنسجم طبيعة (التحليق) مع عمقهم الثقافي، ففي رحلات الغوص وصيد اللؤلؤ كان البحَّارة يتحلَّقون متآزرين لسحب الحبال ورفع الشراع وما شابه، وبذلك هو لا يُناسب الإيرانيين..

حدثت بعضُ المشاكل عندما اختلطت الأمور ولم يلتفت بعض المؤمنين إلى ضرورة التمسُّك بالأصول والتقاليد، وظنُّوا ذلك جمودًا وتعطيلًا للتجديد!

الأمر ليس كما ظنُّوا عل الإطلاق؛ فالدعوة إلى التمسك بالأصول والتقاليد لا تمنع ولا تُعارض التجديد، ولكنَّها تؤكِّد على ضرورة أن يكون محكومًا بتلك الأصول.

فلندقق قليلًا..

أقيم في بعض مآتم العزاء في الجمهورية الإسلامية في إيران عزاءً يُسمَّى عندهم (شور)، فنقله العراقيون والبحرانيون وغيرهم، كل إلى بلده، والواقع أنَّه طريقة من العزاء غريبة على مجتمعاتنا إلى حدِّ الإنكار، ما استدعى قيام أصوات صدٍّ ورفضٍ جوبِهَت بردود أفعال مضادَّة، ومن هنا تحديدًا، كما أعتقد، بدأت المشكلة في التعقُّد..

هي هكذا كما في قوانين الاجتماع عندما تقوم طائفة بمواجهة طائفة أخرى مواجهة فكرية أو ثقافية حادَّة، فإنَّ هذه الأخرى تُبدِع في أساليب العناد، وهنا آية قرآنية عظيمة تبين لنا مقدِّمة كبرى في غاية الأهمية؛ قال تعالى (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ)[15]، ولا شكَّ في أنَّ القياس ليس على الصغرى، بل هو على كبرى المعاندة عند بروز التضاد، فنحن في واقع ما نحن فيه كلُّنا مؤمنون نسعى لإحياء أمر أهل البيت (عليهم السلام)، إلَّا أنَّ التنازع باسم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يضرب بقوَّة في عُرى الأخوة الإيمانية التي جعلها الله تعالى بيننا.

سمعتُ خطيبًا حُسينيًا جليلًا وهو يصف من يحيون أمر أهل البيت (عليهم السلام) في طُرق للعزاء واللطم بـ(خوارج العصر) وقتلة الإمام الحسين (عليه السلام)؛ وذلك لأنَّه وشريحة من المؤمنين يرفضون تلك الطُرق!

لا شكَّ على الإطلاق في إيمان وتقوى وخلوص نيته، إلَّا أنَّ هذا التوصيف، وهذه الحِدَّة في الخطاب الذي من المفترض أن يكون إصلاحيًا، لا ينبغي أن يكون بين المؤمنين.

نحتاج إلى التأكيد دائمًا على ضرورة حمل بعضنا البعض على محامل الخير وحسن الظنِّ دائمًا، خصوصًا وأنَّ الخلل ليس فقط في مظهر الإحياء إن كان (شور) أو (راب) أو غيرها، بل هو في مقدِّمات ومناشىء من طبيعتها الانتهاء بنا إلى أخطاء وسوء في التقدير، ولذلك لا يقف الأمر عند منع ظاهرة؛ لأنَّ مقدماتها تُظهر غيرها، وما لم تُعالج الثقافات فلا حل.

مشكلة سقوط الوجاهة:

التقيت قبل سنوات بأحد الوجهاء من قرى البحرين، ودار الحديث عن بعض المظاهر المرفوضة في القرية، فقلتُ له: كلمةٌ منك كفيلة بالردع وإنهاء المشكلة.

فقال بحسرة استشعرتُها: انتهى ذاك الزمن، فقد خسر مجتمعنا دور الوجاهة في حلِّ المشاكل!

نحن اليوم نعاني تراجعًا خطيرًا في نظرية (الكبير) الذي يحكم المجتمع في العناوين والمفاصل المهمَّة، فاختلط الحابِلُ بالنَابلِ، وأمسى كُلُّ أحَدٍ يقول ويفعل ما يشاء، مُجاهِرًا بكلمةِ (كيفي)!

إذًا، أين المشكلة بالضبط؟ وما الذي ينقل المجتمع من حالة الغفلة إلى نباهة الوعي؟

أذكر ثلاث نقاط تحتاج إلى طول بال ونفس طويل، وعدم استعجال:

  • التأكيد والإصرار دائمًا على حسن الظنِّ ببعضنا البعض، وتجنُّب التهمة والتوصيفات المُهينة.
  • ضرورة العمل على معالجة الخطاب الإصلاحي وتوعيته بقوانين الاجتماع البشري.
  • إعادة الاعتبار الحقيقي إلى نظرية (الكبير).

قد يُقال:

لا يصح الاستمرار على حُسن الظن، والحال أنَّ الأيادي العابثة قد اخترقتنا وتتواجد بيننا بقوَّة.

فأقول:

ما لم تٌشَخَّص تلك الأيادي بشكل واضح، فليكن التحذير منها بحصر ذكرها في جهاتها، والتأكيد على تنزيه المؤمنين عن التُهَم، وهذا خِطَابٌ لا يستقيم في غير نَسَقِ الهدوء والرحمة وإظهار الخوف والشفقة على العباد، وقد قال تعالى (مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ)[16]، كما وأنَّ إعماله في ثقافة الناس مُتعذِّرٌ دُونَ التأسيسِ إليه بأرضِيَّةٍ ثَقَافيَّةٍ صحيحة.

كلمةٌ في الختام..

أوَّلًا: لم نَنَل من الصراعات الداخلية غير الهوان وزيادة في التشظِّي على مدى عقود من الزمن، وفي مقابل ما عانيناه ونعانيه، لم نجد غير الزيادة في العناد والجدل والمِراء، والعِزَّة وهي تأخذ العِباد بالإثم.

ثانيًا: يَعْلَمُ كلُّ من له قليل من عقل أنَّ الشيعة على خلافٍ في قضايا الشعائر ومظاهرها، ولا يُثير من غير الشيعة هذا الأمر غير جهلاء الطوائف الأخرى، وهم لن يكفُّوا عن سفاهاتهم حتَّى لو اقتصرنا في إحياء أمر أهل البيت (عليهم السلام) على مجلس قراءة وفقط، وحتَّى لو توقفنا عن زيارة المشاهد المقدَّسة، وتركنا السجود على التربة.. فإنَّهم لن يرضوا عنَّا ولن يتركوا اتِّهامنا بما يُرَوجُونَ به إلى ضعف وهوان مذهبنا زورًا وكذبًا. فلنكف نحن عن الضرب في أنفسنا وتمزيق جسدنا الواحد بلا موجِب، ولا يمكن أن يكون له موجب.

ثالثًا: التأكيد على التوقُّف عن المزايدات الباطلة، فكلُنا شيعة الحسين (عليه السلام)، وكلُّنا نسعى بصدق وإخلاص لإحياء أمر أهل البيت (عليهم السلام)، وكلُّنا غيارى على أمر أهل البيت (عليهم السلام)، وليس بيننا محارِبٌ للحسين (عليه السلام) ولا خارجيٌّ، والعياذ بالله.. فلنكف عن تبادل مثل هذه الكلمات المُحزِنة، وليُبقي العصبيون عصبيتهم في صدورهم، وليحذروا تصورها غيرةً وحميةً..

رابِعًا: المؤمنون على درجات من الإيمان والفهم، وليكن هذا حاضرٌ في الأذهان دائمًا، وليؤخذ مُؤكَّدًا في صياغة الخطاب التوجيهي والإصلاحي.

عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال:

“إنَّ حَديثَكُم هذا لَتَشْمَئِزّ مِنْهُ قُلوبُ الرِجَالِ، فَمَنْ أقَرَّ بِهِ فَزيدُوه، ومَنْ أنْكَرَهُ فَذَرُوه؛ إنَّه لا بُدَّ مِنْ أنْ يَكُونَ فِتْنَةٌ يَسْقُطُ فِيها كُلُّ بِطَانَةٍ وولِيجَةٍ، حتَّى يَسْقُطَ فيها مَنْ يَشُقُّ الشَعْرَ بشعرتين، حتَّى لا يَبْقى إلَّا نَحنُ وشِيعَتُنَا”[17].

وعن يعقوب بن الضحَّاك، عن رَجُلٍ من أصحابنا سَرَّاج وكان خادمًا لأبي عبد الله (عليه السلام)، قال:

“بعثني أبو عبد الله (عليه السلام) في حاجة، وهو بالحِيرة، أنا وجماعة من مواليه. قال: فانطلقنا فيها ثُمَّ رَجَعْنَا مُغْتَمِّينَ. قال: وكان فِراشي في الحائر الذي كُنَّا فيه نُزُولًا، فَجِئْتُ وأنا بِحَالٍ فَرَميتُ بِنَفْسِي، فبينا أنا كذلك إذا أنا بأبي عبد الله (عليه السلام) قد أقْبَلَ.

قال: فقال (عليه السلام): قد أتيناك. أو قال: جِئناك.

فاستويتُ جالسًا، وجلس على صدر فراشي، فسألني عمَّا بعثني له فأخبرتُه. فحمد الله. ثُمَّ جَرَى ذِكْرُ قَومٍ. فقلتُ: جُعلتُ فداك، إنَّا نَبْرَأ منهم؛ إنَّهم لا يقولون ما نقول.

قال (عليه السلام): يَتَولَّونا ولا يَقُولونَ ما تَقُولون، تبرؤونَ منهم؟

قال: قلتُ: نعم.

قال (عليه السلام): فهوذا عندنا ما ليس عندكم، فينبغي لنا أن نبرأ منكم؟

قال: قلتُ: لا – جعلت فداك -.

قال (عليه السلام): وهوذا عند الله ما ليس عندنا، أفتراه أَطْرَحَنَا؟

قال: قلتُ: لا والله، جُعلتُ فداك. ما نفعل؟

قال (عليه السلام): فَتَوَلّوهم ولا تبرؤوا منهم، إنَّ مِنَ المُسْلِمينَ مَنْ له سَهمٌ، ومنهم من له سهمان، ومنهم من له ثلاثةُ أسْهمٍ، ومنهم من له أربعةُ أسْهُمٍ، ومنهم من له خمسةُ أسْهُمٍ، ومنهم من له سِتَّةُ أسْهُمٍ، ومنهم من له سبعةُ أسْهُمٍ، فليس ينبغي أن يُحْمَلَ صَاحِبُ السهم على ما عليه صاحبُ السهمين، ولا صاحب السهمين على ما عليه صاحب الثلاثة، ولا صاحب الثلاثة على ما عليه صاحب الأربعة، ولا صاحب الأربعة على ما عليه صاحب الخمسة، ولا صاحب الخمسة على ما عليه صاحب الستَّة، ولا صاحب الستَّة على ما عليه صاحب السبعة”[18].

 

نسأل الله تعالى أن يُوفِّقنا إلى أن نكون زينًا لسادتنا من آل محمَّد (صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين).

 

السيد محمَّد بن السيد علي العلوي

15 من ذي الحجَّة 1440 للهجرة

البحرين المحروسة

…………………………………..

[1] – الأمالي – الشيخ الصدوق – ص 437

[2] – الآية 64 من سورة آل عمران

[3] – كمال الدين وتمام النعمة – الشيخ الصدوق – ص 410

[4] – الآية 71 من سورة التوبة

[5] – الإمامة والتبصرة – ابن بابويه القمي – ص 90

[6] – الآية 10 من سورة الحجرات

[7] – الآية 46 من سورة الأنفال

[8] – الآية 92 من سورة النحل

[9] – الكافي – الشيخ الكليني – ج 2 – ص 75 – 76

[10] – الأمالي – الشيخ الصدوق – ص 190 – 191

[11] – مثير الأحزان – ابن نما الحلي – ص 29

[12] – لسان العرب، مادَّة (شعر)

[13] – الآية 32 من سورة الحج

[14] – بحار الأنوار – العلامة المجلسي – ج 44 – ص 288

[15] الآية 11 من سورة البقرة

[16] – الآية 29 من سورة الفتح

[17] – الكافي – الشيخ الكليني – ج 1 – ص 370

[18] – الكافي – الشيخ الكليني – ج 2 – ص 42 – 43

مقالات مشابهة

اترك تعليق


The reCAPTCHA verification period has expired. Please reload the page.