يُنقل عن علماء ومتدينين موافق تصدَّوا فيها لانحرافات وتجاوزات لا يرتضيها الإسلام الحنيف أو العرف المجتمعي الصحيح، وهي مواقف متوقعة دائمًا في بعض الأزمنة السالفة؛ لجهةِ تَصَدُّرِ الكبارِ من أهل الدين والتقوى للمشهد المجتمعي العام، حتَّى أنَّ أحدًا من أبناء المجتمع لا يجرؤ على مخالفة المنظومة الثقافية المجتمعية ولا حتَّى في لُبسه.
لم تكن في تلك الحالة مصادرات للحريات والحقوق كما قد يتوهم البعض؛ فالضبط المجتمع أمر عقلائي وقرآني، أمَّا العقلائية فلوضوح ما يقتضيه الانتماء المجتمعي من ضرورة المحافظة على منظومته الثقافية في أطرها العامَّة وعناوينها التفصيلية المميزة لها تمييزًا يُعِزُّهَا بهويةٍ خاصَّة، وإلَّا فلا مآل لغير فقدان المجتمع لأصل عنوان المجتمع.
وأمَّا القرآنية فلقوله تعالى (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)[1]؛ إذ من غير الخافي إعطاء الله تعالى المؤمنين حقَّ الولاية على بعضهم، مُؤَكَّدًا في خصوص الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعقَّبَ سبحانه وتعالى بما أراده أن يكون مظهرًا اجتماعيًا ومجتمعيًا عامًّا للمؤمنين، وهو ما تُشكِّله العبادات من إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وإطاعة الله تعالى ورسوله (صلَّى الله عليه وآله)؛ ما يُحقِّقُ قوَّةً مجتمعية جاذبة للمؤمنين نحو الفضائل، ورادعة لهم عن الموبقات والرذائل.
أقيم يوم الثلاثاء 27 من ذي القعدة 1440 للهجرة/ 30 تموز – يوليو 2019 للميلاد، حفل افتتاح بطولة غرب آسيا لكرة القدم في مدينة كربلاء المقدَّسة في الجمهورية العراقية، وكما هو المعتاد في محافل افتتاح الدورات الرياضية، تخلَّلت البرنامج فقرات غنائية وأخرى راقصة قدَّمتها مجموعة من النساء أمام الجماهير، ما أثار أجواءً من الرفض والاستنكار؛ لكون مدينة كربلاء مدينةً مُقدَّسةً عند عموم المسلمين، وعلى وجه الخصوص الشيعة؛ لما وقع فيها من مآسي تاريخية على الإمام الحسين بن علي (عليهما السلام) وأهل بيته، ولاحتضانها لمشهده المُطهر وكذا مشهد أخيه العبَّاس (عليه السلام) وجملة من أولاده وأصحابه الذين استشهدوا بين يدي في واقعة كربلاء سنة 61 للهجرة النبوية الشريفة. وهذا إضافة إلى ما ورد عن أهل بيت العِصمة (عليهم السلام) في فضلها وعلو شأنها، فعن زيد الشَحَّام، قال: “قلتُ لأبي عبد الله (عليه السلام): ما لِمَن زَارَ قَبْرَ الحُسينِ (عليه السلام)؟
قال (عليه السلام): كان كمنْ زَارَ اللهَ في عَرْشِهِ”[2].
لم يمر على الافتتاح سويعاتٌ إلَّا وقد تعالتِ الأصواتُ مطالبةً بمعاقبة كلِّ من كانت له يدٌ في هذا الانتهاك السافر لحرمة كربلاء المُقدَّسة، وبالفعل، تحرَّك ديوان الوقف الشيعي العراقي قانونيًا فـ”رفع دعوى قضائية على اتحاد كرة القدم بسبب تنظيمه افتتاحية بطولة غرب آسيا للعام 2019 التي أقيمت على ملعب مدينة كربلاء الدولي، مخالفة لضوابط وخصوصية المدن المقدسة والأخلاق والآداب العامة”[3].
كما وتبرَّأت حكومة كربلاء ممَّا حدث مؤكِّدةً على أنَّه لم يكن لها أيُّ دور في اعداد فقرات برنامج الافتتاح[4]. وتوجَّهت مطالباتٌ إلى علماء الدين بضرورة التصدِّي لما جرى والتحرُّك الجاد لمحاسبة كل من لد يد فيه.
ولكن.. ليست هذه هي الصورة فقط، فقد عنونت قناة الحرَّة الخبر كالتالي: ” كربلاء (الفرح والفن) تنتصر.. وأصحاب (القدسية) يشتعلون غضبًا”!!
اختلاف التوجهات والرؤى سمةٌ رئيسية من سمات هذه الدنيا، ويكفي في ذلك قوله تعالى (قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى)[5]، وقوله جلَّ في علاه (وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ)[6].
نعم، لا يبعد أن نرى في الأيَّام القادمة بعض الاعتذارات من جهات حكومية رسمية، كما ولا نستبعد عدم تكرار ما جرى على المدى المنظور، إلَّا أنَّ ذلك لا يعني الكثير، فالملعب الذي أقيم فيه حفل افتتاح بطولة غرب آسيا لكرة القدم ملعبٌ حديثٌ يتَّسعُ لأكثر من ثلاثين ألف متفرِّج، امتلأ يوم الافتتاح إلى 27 ألف، بحسب سكاي نيوز العربية، لم يظهر، ولا من بعضهم، إنكارٌ لما جرى أمامهم!
الأمر، أيُّها الأفاضل، ليس في نفس ما جرى، ولكنَّه في أرضيةٍ ثقافيةٍ آخذة في التهيؤ لأكثر من قبول مثل هذه المظاهر. أبين بُعدًا من ذلك بعد التحذير الشديد من اتِّهام الناس بعدم التدين وبالفساد وبما شابه ذلك من اتِّهامات انفعالية غير واعية، فسكوت الجمهور على ما جرى في الملعب دون ابداء إنكار له ولو بترك المكان، أو الاستهجان بالتصفير أو ما شابه، لا يدل على ضعف تدين فيهم، ولا عدم اكتراث كما قد يتوهم البعض؛ فلندقِّق جيِّدًا..
ما حدث، مثل كل شيء يحدث، هو نتيجة لمقدمات اقتضته، وهنا أتعرَّض لواحدة منها، وهي مقدِّمة (التطبيع) مع الخطأ.
أشرتُ قبل قليل إلى دور الرادع المجتمعي في تقويم سلوكيات الفرد دون تهاون، ويفهم المطلعُ على بعض مباحث علم الاجتماع قوَّة بأس الرادع الاجتماعي الذي لا يقوى على مواجهته أحدٌ مهما كان عنيدًا، بل وحتَّى لو كان في جماعة، فالمجتمع يرفضه ويُخرجه خارج دائرته بصلابة حقيقية.
ما يجري في المجتمعات اليوم، بتخطيط ورعاية شيطانية، (تطبيعٌ) مع الخطأ بتحقيق أكبر قدر من التقريب والمماثلة بين بعض المظاهر الأخلاقية والسلوكية، والعبادية، وبين مصاديق نفس الخطأ، ومن أمثلة ذلك كلمات وألحان القصائد التي تُلقى في مناسبة أهل البيت (عليهم السلام)!
نلاحظ اليوم اعتيادَ الأسماع على كلمات الحب والغزل بعد تجويز استخدامها في القصائد المُعدَّة لإحياء أمر العترة الطاهرة، وكذا اعتادت الأذواق ألحانَ الشيلات القريبة جدًّا من ألحان الأغاني، وأيضًا نجد الحركات الانفعالية التي تصدر من بعض المُحيين لذكرى أهل بيت النبوة (عليهم السلام) مُستحسنةً بالرغم من تشابهها مع ما يصدر عن غير المؤمنين من حركات!
القضية هنا:
عندما يُسأل الفِقه عن حكم مثل هذه الكلمات والألحان والإيقاعات الحركية، فإنَّه يجيب بالضابطة التشخيصية، فيقول مثلًا: جائزة ما لم تكن من كلمات أو ألحان أو إيقاعات أهل الفسق والفجور. أو: جائزة ما لم تستلزم حرامًا. ولذلك نجد بعض طلبة العلم المُوَقَّرين يتصدون للدفاع الفقهي عن مثل هذه المظاهر بإرجاعها لعمومات تارة، ولأصل الإباحة تارة أخرى، فيقع الاستدلال صحيحًا، إلَّا أنَّ هذا لا ينفع؛ فالمشكلة ليست فقهية، وإنَّما هي، تحديدًا، في الحِكمَة وبُعد النظر.
لا يخفى على المؤمنين أنَّ الله تعالى يستعبدُ الناس بالأحكام الإلزامية، وهي محصورة في الأمر الوجوبي والنهي التحريمي، ويربيهم على الإيمان في المستحبات والمكروهات، ويزكي في نفوسهم ملكةَ التقوى بتحذيرهم من اقتحام الشبهات، ولذلك، يفعل المؤمن الواجب وينتهي عن الحرام حتمًا، وينشغل بإتيان المندوبات والفرار من المكروهات، ولا يفعل مباحًا إن شابته شائبة شبهة أو ما نحو ذلك.
قال الإمام الصادق (عليه السلام): “فإنَّ الوقوفَ عند الشُبهاتِ، خيرٌ من الاقتِحَامِ في الهَلكات”[7].
لذا، كان ممَّا ينبغي نشره بين المؤمنين ثقافة الاهتمام، بل والمبالغة في الفرار من الشبهات؛ ولا شك في أنَّ هذا هو المناسب لهم كونهم من شيعة أهل البيت (عليهم السلام)، وقد قال إمامنا أبو عبد الله جعفر بن محمَّد (عليهما السلام) لأحد مواليه: “إنَّ الحَسَنَ مِنْ كُلِّ أحَدٍ حَسَنٌ، وإنَّه منك أحسن لمكانِكَ مِنَّا، وإنَّ القَبيحَ مِنْ كُلِّ أحَدٍ قَبيحٌ، وإنَّه منك أقبح”[8]. فالمؤمن لا يسأل عن الأمر إن كان جائِزًا أو لا، بل يسأل عنه إن كان مناسبًا للمؤمنين وسمتهم أو لا، وإن كان ذا أثر، أو آثار غير مرضية أو لا، ولو على الآماد البعيدة، وهذا أيضًا ممَّا يليق بالمؤمن الطالب للتشبه بأبي الفضل العبَّاس (عليه السلام) الذي كان “نافذ البصيرةِ، صُلب الإيمان”[9] كما قال فيه الإمام الصادق (عليه السلام).
لا يقتصر الأمر على مثل هذه الموارد؛ فإنَّ ما يُعرض في الأفلام السينمائية والمسلسلات التلفزيونية يدفع بقوَّة في اتِّجاه (التطبيع) مع الخطأ، وقد لفت نظري أحدُ طلبة العلم الأجلَّاء إلى أمرٍ في غاية الأهمية. قال:
في بعض الأفلام والحلقات التمثيلية يظهر رجلٌ وامرأةٌ في علاقة (حبٍّ) غير شرعية، مع كونهما في حياتهما العامَّة مُؤدَّبين ومن ذوي الأخلاق العالية، إلَّا أنَّهما في علاقة (حبِّ) تصوره النصوص والسيناريوهات (حُبًّا طاهِرًا)!
في ضمن الأحداث، يمرُّ مشهدٌ يكون فيه احتمالُ انكشاف أمر (الحبيبين) وهما مع بعضهما البعض في مطعم أو سينما أو ما شابه، فكيف يتفاعل المشاهد مع الحدث؟
في الغالب يرجو، وبقوَّة، أن لا ينكشف أمرهما، وأن يعيشا (حبَّهما) في سلام!!
هل لاحظتم حالة (التطبيع) مع الخطأ؟ بل يُقال أنَّ الحبيبين قد يكونا في وضع (…) فترتفع شدَّة الانفعال من المُشاهِد متمنيًا عدم انكشاف أمرهما لأحد!
إذن، هناك تيَّارٌ (شيطاني) في غاية القوَّة، مشروعه (التطبيع) مع الخطأ من خلال استغلاله للعاطفة الأعم من الدينية وغيرها، وهذا، في النظر القاصر، من أهم ما ينبغي الالتفات إليه والعمل على معالجته بحكمة وقوَّة في سعة صدر وطول بال، وإلَّا فإنَّ ما جرى في افتتاح بطولة غرب آسيا لكرة القدم 2019م قريبٌ من أن يتطور إلى ما هو أكثر حرمةً، مع عدم شعور المجتمع، في عمومه، بما فيه من فساد.
ولكن، أقول:
مهما تمادى الشيطان في مخططاته ومكائده، فإنَّه أعجز من أن يُحرِّك قشَّة قُدسٍ من موضعها، وستبقى مقدساتنا محفوظة بيد الله القاهرة، وعناية مولانا صاحب الأمر (أرواحنا فداه)، فحتَّى لو قويتْ شوكةُ (التطبيع) مع الباطل، فإنَّ الله تعالى يدفع عن الإيمان والمؤمنين، ولذا نحن في أرفع درجات الاطمئنان وراحة البال من هذه الجهة.
كل المحبَّة والتقدير لإخواننا وأخواتنا من أهل العِراق، نسأل الله تعالى أن يدفع عنهم كلَّ سوء وضر، بمحمَّدٍ وآله الطاهرين (صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين).
السيد محمَّد بن السيد علي العلوي
المُتمِّم لذي القعدة 1440 للهجرة
البحرين المحروسة
…………………………….
[1] – الآية 71 من سورة التوبة
[2] – كامل الزيارات – جعفر بن محمد بن قولويه – ص 278
[3] – صحيفة rt online الإلكترونية، تاريخ النشر: 1 أغسطس 2019 للميلاد تحت عنوان: جدل في العراق بسبب حفل افتتاح بطولة غرب آسيا
[4] – نفس المصدر السابق
[5] – الآية 123 من سورة طه
[6] – الآيتان 118 و 119 من سورة هود
[7] – تهذيب الأحكام – الشيخ الطوسي – ج 6 – ص 303
[8] – مناقب آل أبي طالب – ابن شهر آشوب – ج 3 – ص 362
[9] – عمدة الطالب – ابن عنبة – ص 356