تُثار بين بعض المؤمنين، والأعم منهم ومن غيرهم، مسائِل تتعلَّق بالإسلام عقيدة وفقهًا، وهي في عمومها إثارات طبيعية تُولِّدُها التعقلات البشرية بحسب أحوالها الثقافية سعة وضيقًا، وعمقًا وسذاجةً. في بعض تلك الإثارات يضعف الاهتمام، إجمالًا، بالتزام قواعد النظر، فينتهي الأمر إلى حالات من التشكيك والاشتباه، والتردُّد وتزلزل البناءات الفكرية في النفس، وتتعقَّد المشكلة بشكل كبير عندما ينتهج المُهتم منهجًا علميًا صحيحًا من حيث الصورة والهيئة في البحث، فيغيب عن ذهنه، أو نباهته، الخلل الذي يعانيه في المادَّة وفي التقعيدات الصحيحة.
من تلك المسائل، مسألة (التَقيَّة) وصورها ومواردها، ففي مجمل الأذهان يُعتقد أنَّ التقية هي اتِّقاء شرِّ المخالفين بإظهار الموافقة لهم، والحال أنَّ مواردها وصورها أوسع من ذلك.
مقدِّمة عامَّة:
تتكاثر وتتوالد المشاكل والشبهات الفكرية الأعم من العقائدية وغيرها، كلَّما تشوشت المفاهيم أو لم يكن التعامل معها على أساسٍ من كونها مفاهيم حاكمة. لذا، أُقدِّم بمقدِّمة مُؤكِّدًا على أهمية تحديد جهة الحصول على لمفهوم، وهو ما سيتَّضح قريبًا إن شاء الله تعالى.
المفهوم هو “نفس المعنى بما هو، أي نفس الصورة الذهنية المُنتَّزعة من حقائق الأشياء”[1]، والمصداق “ما ينطبقُ عليه المفهوم، أو حقيقة الشيء الذي تُنتَزعُ منه الصورة الذهنية (المفهوم)”[2].
في عملية (الانتزاع) يجتهد الإنسانُ في تجريد الموجودات الخارجية من المشتركات في ما بينها، ليقف على الوحدة العنوانية لحقيقة مشتركة لا يمكن تجريد الموجود منها، فتكون هي المفهوم المُميز لمجموعة من الأفراد عن غيرها.
من أمثلة ذلك، تجريدهم للإنسان عن طوله ووزنه ولونه، ومادَّته، وكل ما يشترك فيه مع غيره من الموجودات، فيبقى منه، بحسب اجتهاد المُنتَزِع، أمران، هما: الحياة والإدراك (الناطقية)، أمَّا الحياة فهي الجنس الذي يشترك فيه مع غيره ممَّا يصدق عليه أنَّه حي، وأمَّا الإدراك (الناطقية) فهو الذي يميزه عن كلِّ من يشترك معه في عنوان (الحياة).
نلاحظ أنَّ محلَّ الانتزاع هو نفس المصاديق الخارجية، أي أنَّ المُنتَزِع يلاحظ الخارج ويبدأ في عملية التجريد طلبًا لاستخلاص العنوان الجامع، وهو، من بعد التجريد، الحقيقةُ التي تُظهِرها في الخارج مجموعةٌ من العوارض، على رأسها الجسمية.
المهم هنا، جهة الانتزاع، وهي نفس الواقع الخارجي المحسوس أو المُدرَك؛ وإنَّما حدَّدتُ المهمَّ فيه لوجود جهة ثانية يحصل الإنسانُ منها على مفاهيم أكثر دقَّة من تلك المُنتَزَعة من الخارج، وهي في أحد أمرين:
الأوَّل: البرهان العقلي.
الثاني: الوحي.
أمَّا البرهان العقلي فمحصور في كُلِّ ما أمكن إرجاعه إلى حقيقة استحالة اجتماع وارتفاع النقيضين، إرجاعًا دقيقًا مُتقنًا، كضرورة وجود واسطة تتحمل مسؤولية إنباء الناس بما يريد الله جلَّ في علاه؛ إذ أنَّ عدم الواسطة ناقضٌ لحكمة الخالق الثابتة مسبقًا، وهو بحث يُطلب في محلِّه، وإنَّما أشرت إلى المسألة هنا من باب المثال فقط.
وأمَّا الوحي فهو ما تلقيناه عن الأنبياء والرسل، وأوصيائهم (صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين)، مثل تفاصيل المعاد والعِصمة التكوينية، وما شابه.
إذا اتَّضح ذلك، فإنَّ من أهم ثمرات التفريق بين كون المفهوم منتزعًا من الخارج بالجهد البشري، أو قد تلقيناه من البرهان العقلي أو الوحي، هو إمكان وعدم إمكان النقض على المفهوم بالمصداق الخارجي؛ إذ أنَّ المفهوم المُنتزع من الخارج يستند في صحته على دقة الوصول إلى الماهية المُجرَّدة، وبالتالي فإنَّ الخلل في ذلك يُرجِّح وجود خلل في المفهوم، ولا مكابرة حينئذ، فتصحيح المفهوم في مثل هذه الموارد أمر طبيعي.
أمَّا إذا كانت جهة التلقي للمفهوم هي البرهان العقلي أو الوحي، فإنَّ الفهم والواقع الخارجي يُصحَّح ويُقَوَّم بحسب المفهوم، ولا يمكن النقض عليه بهما، أي لا يمكن النقض على المفهوم بالفهم والواقع الخارجي.
تطبيقات: المقام الأوَّل: ما يظهر في الآيات الكريمة من أخطاء أو معاصي ارتكبها أنبياء ورسُل:
ذهب بعضٌ إلى اقتصار عصمة الأنبياء والرسل (عليهم السلام) على الجانب التبليغي دون غيره، فهم، عند هذا الفريق، رجال صادقون مُخلَصُون، على أعلى درجاتِ ومراتبِ التقوى الورع والزهد، إلَّا أنَّهم، في نهاية المطاف، بشرٌ قد يُخطئون، فلا شيء يستدعي تأويلَ الآيات والنصوص الشرعية التي تبين وقوعهم في بعض الأخطاء والذنوب والمعاصي. وهذا ما عليه جمهور العامَّة.
فيما ذهب آخرون إلى أنَّ فعل المعصوم بما تقتضيه الطبيعة البشرية لا يُعدُّ من نواقض عصمته، فالإنسان من حيث بشريته قد يغضب كما غضب موسى (عليه السلام) ووكز الرجل فقتله، وكما غضب يونس (عليه السلام) فترك قومه داعيًا عليهم، ولم تكن الآيات القرآنية المعاتبة في مثل هذه الموارد إلَّا في صدد طلب الأولى لمن هم في مقام النبوة والرسالة. وهذا ما عليه مشهور الطائفة المُحِقَّة.
وذهب آخرون إلى وقوع مثل تلك الأفعال منهم (عليهم السلام) على وفق حكمة خاصَّة ترجع إلى نفس كونهم أنبياء ورُسل يبلغون رسالات ربِّهم. وهذا رأي ذهب إليه بعض من علماء الطائفة[3].
على فرض القول بالعصمة التكوينية في جميع الجهات، منها، عدم مخالفة المعصوم للأولى، يكون القول الثالث هو الأقرب، بل هو المتعين، فتكون كلُّ أفعالهم (عليهم السلام) مقصودة عن حكمة محكمة، إن أدركناها وأحطنا بها، أو بشيء منها، وإلَّا، أمسكنا عنها التزامًا بالأدب، إلى أن يفتح الله تعالى علينا بفهمها، أو بظهور الإمام (عليه السلام).
بالبناء على هذا التوجُّه، يكون الكتاب العزيز في مقام بيان الواقع إثباتًا؛ فمخالفة آدم (عليه السلام) معصية، وبإرجاعها إلى عدم صدور المخالفة من المعصوم (عليه السلام) مطلقًا، يكون فعله من قبيل قصَّة الإمامين الحسن والحسين (عليهما السلام) عندما مرَّا “على شيخٍ يتوضَّأ ولا يُحسِنُ، فأخذا في التنازع؛ يقولُ كُلُّ واحِدٍ منهما: أنت لا تُحسِنُ الوضوءَ. فقالا: أيُّها الشيخ، كُنْ حَكَمًا بيننا يتوضَّأ كُلُّ واحِدٍ مِنَّا. فتوضَّئَا، ثُمَّ قالا: أيُّنا يُحسِنُ؟ قال: كِلاكُما تُحسِنَانِ الوضُوءَ، ولكنَّ هَذا الشَيخ الجاهل (يقصد نفسه) هو الذي لم يكن يُحسِنُ، وقد تَعَلَّمَ الآنَ مِنْكُمَا وتاب على يديكما ببركتكما وشفقتكما على أمَّةِ جَدِّكُما”[4].
ومن ذلك، ما عن الحسن الصيقل، قال: “قلتُ لأبي عبد الله (عليه السلام): إنَّا قد رُوينا عن أبي جعفر (عليه السلام) في قول يُوسُف (عليه السلام): (أيتُها العير إنَّكم لسَارِقُون)! فقال (عليه السلام): واللهِ ما سَرَقُوا وما كذب، وقال إبراهيم (عليه السلام): (بل فَعَلَهُ كبيرُهم هذا فاسألوهم إنْ كانُوا ينطقون)! فقال (عليه السلام): والله ما فعلوا وما كذب.
قال: فقال أبو عبد الله (عليه السلام): ما عندكم فيها يا صيقل؟
قال: فقلتُ: ما عندنا فيها إلَّا التسليم.
قال: فقال (عليه السلام): إنَّ الله أحبَّ اثنين وأبْغَضَ اثنين؛ أحبَّ الخطر فيما بين الصفين، وأحب الكذب في الإصلاح. وأبغض الخطر في الطرقات، وأبغض الكذب في غير الإصلاح. إنَّ إبراهيم (عليه السلام) إنَّما قال: (بل فعله كبيرهم هذا) إرادة الاصلاح ودلالة على أنَّهم لا يفعلون، وقال يوسف (عليه السلام) إرادة الإصلاح”[5].
عندما يتخلَّصُ النظرُ من ضغط المطالبات الثقافية الخارجية، فإنَّه يقف على الكثير من الفوائد الدقيقة والخطيرة من مثل ما يظهر فيه مخالفة أو معصية صدرت من أحد الأنبياء والرسل (عليهم السلام)، ومع إرجاعها للكبرى المتقدمة، يخرج بفائدة جليلة، وهي فضيلة إنكار الذات في سبيل المصالح الإسلامية العليا.
تطبيقات: المقام الثاني: ما يظهر منه التعارض أو الخدش في عِصمة أئمة الهدى (عليهم السلام):
ينبغي التنبُّهَ دائِمًا إلى أنَّنا لم ننتزع مفهوم العِصمَة من أفراد خارجية، بل تلقيناه من البرهان العقلي، ومن الوحي. أمَّا البرهان فيرجع إلى جبلة النفس البشرية من جهة بحثها الدائم، وعدم اطمئنانها المُستَقر لغير الكامل الذي لا يُتَصَورُ فيه أدنى نقص مُطلَقًا.
إنَّ الوقوف على هذه الحقيقة مشروط، ضرورةً، بالتعالي عن ظروف وأحوال هذه الدنيا؛ بحيث أن يكون الرجوع إليها محكومًا ومُضبَطًا بها، أي بتلك الحقيقة، فيكون فهم الواقع في خصوص ما يصدر من المعصومين (عليهم السلام) مبنيًا على حكومتها، فإن أمكن فهمها وإرجاعها إلى واقع أمرها، وإلَّا سُلِّمَ بها وأُرجِئت إلى ساعة الفرج؛ بفهمٍ جديد أو بظهور صاحب الأمر (عليه السلام).
عن زرارة بن حمران، قال: كانَ يُجَالِسنا رَجُلٌ من أصحابنا، فلم يكن يسمع بحديثٍ إلَّا قال: سَلِّمُوا حَتَّى لُقِّبَ، فكان كُلَّمَا جَاءَ قَالُوا: قد جَاءَ سَلَّم. فدخل حمرانُ وزرارةُ على أبى جعفر (عليه السلام)، فقال: إنَّ رجُلًا من أصحابنا إذا سمع شيئًا من أحاديثكم قال: سَلِّمُوا، حَتَّى لُقِّبَ، وكان إذا جاء قالوا: سَلَّم.
فقال أبو جعفر (عليه السلام): قَد أفْلَحَ المسلِمُون؛ إنَّ المُسلمينَ هُمُ النُجَبَاءُ”[6].
إذا اتَّضح ما نُريد بيانه أصلًا وأساسًا، يكون توجيه الأحاديث الغريبة على الأفهام أمرًا هيِّنًا عند استغلاق طُرِق التأويل والصرف عن الظاهر، ومن ذلك، ما عن سلمة بن محرز قال: “قلتُ لأبي عبد الله (عليه السلام):
رجلٌ ماتَ وله عندي مَالٌ، وله ابنة وله مَوَالي.
قال فقال لي: اذهب فاعط البِنْتَ النِصْفَ، وامْسِكْ عن الباقي.
فلمَّا جئتُ أخبرتُ بذلك أصحابَنَا. فقالوا: أعْطَاكَ مِنْ جِرَابِ النورة.
قال: فرجعتُ إليه، وقلتُ: إنَّ أصحابَنَا قالُوا لِي: أعطاك من جِرَابِ النورة!
قال: فقال (عليه السلام): ما أعطيتُكَ من جِرَابِ النورة. قال: عَلِمَ بِهَا أحَدٌ؟
قلتُ: لا.
قال (عليه السلام): فاذهبْ؛ فاعطِ البِنْتَ البَاقِي”[7].
و”قد وَرَدَ في الأخبار أنَّ الشيعة كانوا يقولون في الحديث الذي وافق التقية: (أعطاك من جراب النورة). قيل: مُرادهم تشبيه المعصوم (عليه السلام) بالعَطَّار، وكانوا يبيعون أجناس العطارين بالجربان، وكان النورة أيضًا يبيعونها في جرابها، فإذا أعطى التقية قالوا: أعطَاكَ من جرابها – أي ما لا يُؤكل، ولو أُكِلَ لقتل – والفائدة فيه دفع القاذورات وأمثالها.
وقيل: إنَّ النقباء لما خرجوا في أواخر زمن بني أمية في خراسان، وأظهروا الدعوة لبني العباس بعثوا إلى إبراهيم الإمام منهم بقبول الخلافة، فَقَبِلَ، وهو في المدينة، وكانت هي وسائر البلدان تحت سلطنة بني أمية وحكمهم، سوى خراسان إذ ظهر فيها النقباء، وكانوا يقاتلون ويحاربون، ولمَّا اطلع بنو أمية قبول إبراهيم الخلافة أخذوه، وحبسوه، وقتلوه خفية، ووضعوا جراب النورة في حلقه، فخنقوه، فصار ضرب المثل بالنسبة إلى ترك التقية وتاركها، وكان هذا الكلام من الشيعة إشارة إلى هذه الحكاية، ومثلًا مأخوذًا منها”[8].
إنَّ مثل هذه الروايات توقفنا على الشدَّة العظيمة التي كان يعيش الأئمة (عليهم السلام) ظروفها القاسية، إلى درجة أنَّهم يجيبون بأجوبة مُحيِّرة، وقد تكون مخالفة للعامَّة والخاصَّة، ولا يكون ذلك تشريعًا جديدًا، بل هو في موارد دفع الضرر الخطير المُحتَمل، من جهة كونهم ولاة الأمر مطلقًا ولاية في طول ولاية مالك الملك سبحانه وتعالى (إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ)[9].
وعن زرارة، عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: “سألتُه عن قول الله (عزَّ وجلَّ): (وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ)[10].
قال (عليه السلام): إنَّ اللهَ تعالى أعظمُ وأعزُّ وأجلُّ وأمْنَعُ مِن أن يُظلم، ولكنَّه خَلَطَنَا بِنَفْسِهِ، فَجَعَلَ ظُلْمَنَا ظلمه، وولايتنا ولايته؛ حيثُ يقول: (إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ)، يعني الأئِمَّة مِنَّا”[11].
وبالتالي، فإنَّ المبدأ في التعامل مع ما ورد من أحاديث وروايات في كتبنا الحديثية المعتمدة، يبتني على القبول أو الإرجاء بقيد بياني، هو: ما وردَ حقٌّ ما دام أنَّه صادر عن المعصوم (عليه السلام).
ظهر هذا في إصرار الخضر (عليه السلام) عند توجيهه لنبي الله موسى (على نبينا وآله وعليه أفضل الصلاة والسلام)، أن يلتزم الصمت؛ (قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْأَلْنِي عَن شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا)[12]، وعندما لم يلتزم الصمت، جاء القرار (قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ)[13].
إنَّنا قد لا نُدرِك الوجه في قول الإمام (عليه السلام) أو فعله أو تقريره، ولا يصحُّ حينها رفض الحديث أو الرواية بحجَّة مخالفتها لمقام العِصمة أو الحكمة أو ما شابه.
عن موسى بن أشيم، قال: “دخلتُ على أبى عبد الله (عليه السلام) فسألتُه عن مسألة فأجابني، فبينا أنا جالسٌ إذ جاءه رجلٌ فسأله عنها بعينها، فأجابه بخلاف ما أجابني، ثُمَّ جاء آخر فسأله عنها بعينها، فأجابه بخلاف ما أجابني وأجاب صاحبي، ففزعتُ من ذلك وعَظُمَ عليَّ. فلمَّا خرج القومُ نَظَرَ (عليه السلام) إليَّ فقال: يا بن أشيم، كأنَّك جزعتَ!
قلتُ: جعلني اللهُ فداك، إنَّما جزعتُ من ثلاث أقاويل في مسألة واحدة!
فقال (عليه السلام): يا بن أشيم، إنَّ الله فوَّض إلى داود (عليه السلام) أمر ملكه؛ فقال: (هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ)[14] وفوَّض إلى محمَّد (صلَّى اللهُ عليه وآله) أمر دينه؛ فقال: (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا)[15]، فإنَّ الله تبارك وتعالى فوَّض إلى الأئمَّة مِنَّا والينا ما فوَّض إلى محمَّد (صلَّى الله عليه وآله) فلا تجزع”[16].
وفي الحديث التالي يبين الإمام (عليه السلام) وجهًا من وجوه اختلاف الحديث:
عن زرارة بن أعين، عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: “سألتُه عن مسألة فأجابني، ثُمَّ جاءه رجلٌ فسأله عنها، فأجابه بخلاف ما أجابني، ثُمَّ جاء رجلٌ آخر فأجابه بخلاف ما أجابني وأجاب صاحبي، فلمَّا خَرَجَ الرجلانِ قلتُ: يا ابن رسول الله، رجلان من أهل العراق من شيعتكم قَدِمَا يسألانِ فأجبتَ كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما بغير ما أجبت به صاحبه؟
فقال (عليه السلام): يا زرارة، إنَّ هذا خير لنا وأبقى لنا ولكم، ولو اجتمعتم على أمر واحد لصَدَّقكم الناسُ علينا، ولكان أقلَّ لبقائنا وبقائكم.
قال زُرارةُ: ثُمَّ قلتُ لأبي عبد الله (عليه السلام): شيعتُكم لو حَمَلتمُوُهم على الأسِنَّةِ أو على النار لمضوا، وهم يخرجون من عندكم مختلفين!
قال: فأجابني (عليه السلام) بمثل جواب أبيه (عليه السلام)”[17].
ربَّما يتعرَّض الإمام (عليه السلام) إلى ألسِنَةِ الجهل، فيُتَّهم بالقصور أو عدم العلم، إلَّا أنَّ هذا مُتحمَّلٌ في قبال دفع الضرر عن الشيعة وعنهم (عليهم السلام)، إلَّا أنَّ الثبات على الولاية في مثل هذه المواقف الدقيقة مرهون بفهم العِصمة والولاية، وجهة الحصول على مفهومهما.
عندما ينتبه المؤمن إلى أنَّ مثل هذه المفاهيم مأخوذة من جهة عليا محصورة في العقل البرهاني والوحي، فإنَّه لا يشعر البتَّة بأدنى جزع أو انزعاجٍ أو نفور ممَّا ورد عنهم (عليه السلام) ويكون في ظاهره مخالِفًا لبعض المُسلَّمات أو الأعراف أو الثقافات، أو ما شابه، وغاية ما يكون أن يُرجئ إلى ساعة فرجٍ، بفهمٍ جديدٍ أو بظهور الإمام (عليه السلام).
جاء عن سفيان بن السمط، قال: “قلتُ لأبي عبد الله (عليه السلام): جُعلتُ فداك، يأتينا الرجلُ من قبلكم يُعرَفُ بالكَذِبِ، فَيُحدِّثُ بالحديث فنستبشعه.
فقال أبو عبد الله (عليه السلام): يقول لك أنِّى قلتُ عن الليل أنَّه نهار والنهار أنَّه ليل؟
قلتُ: لا.
قال (عليه السلام): فإن قال لك هذا إنِّي قلتُه فلا نُكذِّب به، فإنَّك إنَّمَا تُكذبني”[18].
وجاء عن علي بن سويد السائبي، عن أبي الحسن الأوَّل (عليه السلام) أنَّه كَتَبَ إليه في رسالته: ولا تَقُلْ لِمَا يبلُغُكَ عنَّا أو يُنْسَبُ إلينا: هذا باطِلٌ، وإنْ كُنْتَ تعرف خِلَافَهُ؛ فإنَّك لا تدري لِمَ قُلنَاه وعَلَى أيِّ وَجْهٍ وضَعْنَاه”[19].
لقد تجاوزت الأحاديث في هذا الباب حدَّ الاستفاضة، وقد أوردها أعاظم المُحدِّثين في كتبهم، فلا يُصار، والحال هذه، إلى ردِّ شيء منها بداعي مُشكِلٍ سندي، وهذا مع الإغضاء عن موافقتها التامَّة للبحث العقلائي، وهو ما بينَّاه في كتاب يصدر قريبًا إن شاء الله تعالى[20].
إنَّ حديثَ أهل البيت (عليهم السلام) المحفوظ بيد اللطف الإلهية، سفينةُ نجاةٍ تحمل في قلبها الكتاب العزيز، وهذا أمر ينبغي لنا تأمُّله جيِّدًا.
السيد محمَّد بن السيد علي العلوي
18 من شهر رمضان 1440 للهجرة
البحرين المحروسة
………………………………………
[1] – المنطق – الشيخ محمَّد رضا المظفر-
[2] – المصدر السابق
[3] – الفقه، العقائد – السيد محمَّد الشيرازي- ص 36
[4] – بحار الأنوار – العلامة المجلسي – ج 43 – ص 319
[5] – الكافي – الشيخ الكليني – ج 2 – ص 341 – 342
[6] – بصائر الدرجات – محمد بن الحسن الصفار – ص 543
[7] – الاستبصار – الشيخ الطوسي – ج 4 – ص 174 – 175
[8] – الفوائد الحائرية – الوحيد البهبهاني – ص 461 – 462
[9] – الآية 55 من سورة المائدة
[10] – الآية 57 من سورة البقرة
[11] – الكافي – الشيخ الكليني – ج 1 – ص 146
[12] – الآية 70 من سورة الكهف
[13] – الآية 78 من سورة الكهف
[14] – الآية 39 من سورة ص
[15] – الآية 7 من سورة الحشر
[16] – بصائر الدرجات – محمد بن الحسن الصفار – ص 403 – 404
[17] – الكافي – الشيخ الكليني – ج 1 – ص 65
[18] – مختصر بصائر الدرجات – الحسن بن سليمان الحلي – ص 76 – 77
[19] – مختصر بصائر الدرجات – الحسن بن سليمان الحلي – ص 77
[20] – عنوان البحث: تحرير المسائل، رسالة في مبادئ دراية الحديث