أفضلية نوم العاقل وإقامته على سهر الجاهل وشخوصه (2-2)[1]
عن عِدَّةٍ من أصحابنا، عن أحمد بن محمَّد بن خالد، عن بعض أصحابه، رفعه؛ قال:
“ما قَسَمَ اللهُ للعباد أفضلَ من العقل، فنوم العاقِل أفضل من سهر الجاهل، وإقامة العاقل أفضل من شخوص الجاهل، ولا بَعَثَ اللهُ نبيًّا ولا رسولًا حتَّى يستَكمِلَ العقل، ويكون عقلُهُ أفضلَ من عقول جميعِ أمَّتِه. إلى أن قال: ولا بَلَغَ جميعُ العابدين في فضل عبادتهم ما بَلَغَ العاقِلُ، الحديث”.
يظهر فضل السهر والشخوص مضمرًا في مفضوليته من الجاهل مقارنةً بنوم وإقامة العاقل.
أمَّا السهر، فقد قال رسول الله (صلَّى الله عليه وآله): “لا سَهَرَ إلَّا في ثلاث: مُتَهجِّدٍ بالقُرآنِ، أو في طَلَبِ العِلْمِ، أو عَرُوسٍ تُهْدَى إلى زَوجِها”[2].
وأمَّا الشخوص فقد يكون الانصراف إلى الخروج للحرب، فقد استشارَ الخليفَةُ الثاني أميرَ المؤمنين (عليه السلام) في ذلك، فكان من جوابه (صلوات الله وسلامه عليه) أن قال: “والعَرَبُ اليوم، وإن كانوا قليلًا، فهم كثيرون بالإسلام، وعزيزون بالاجتماع. فكن قُطبًا، واستدر الرحى بالعرب، وأصلهم دونك نار الحرب، فإنَّك إنْ شَخَصْتَ من هذه الأرض انتقضت عليك العَرَبُ من أطرافها وأقطارها، ..”[3]. وهذا، قطعًا، لا يمنع الحمل على عموم السهر والشخوص في الأمور التي تبدو في ظاهرها حسنة فاضِلة.
عندما نُقرِّر كبرى أنَّ العاقل لا يفعل إلَّا لحِكمَةٍ، يتساوى من هذه الجهة نومُه وسهرُه، وإقامتُه وشخوصُه؛ فهو لا ينام في حال تَعَيُّن السهر، ولا يُقيم في حال تَعَيُّن الشخوص، أمَّا الجاهل فتستفزه الظروف، لحماقة أو خفَّة، أو مشابه من صفات تعلو تعقلاته، وقد قال أميرُ المؤمنين (عليه السلام) لأهل النهروان مُخَوِّفًا: “فأنا نذيركم أنْ تُصبِحُوا صَرْعَى بأثناء هذا النهر وبأهضام هذا الغائط، على غير بَينَةٍ من ربِّكم، ولا سلطانٍ مُبين معكم. قد طَوَّحَتْ بِكُمُ الدار، واحْتَبَلَكُم المقدار، وقد كنتُ نَهيتُكم عن هذه الحكومة فأبيتم عليَّ إباء المخالفين المنابذين، حتَّى صرفتُ رأيي إلى هواكم. وأنتُم مَعاشر أخِفَّاء الهام، سُفَهَاء الأحلام، ولم آتِ، لا أبا لكم، بُجرًا[4]، ولا أردتُ لكم ضُرًّا”[5].
كما أنَّه من الواضح أنَّ الجاهل إذا كان في سهر أو شخوص مع تَعَيُّنِهِمَا، فإنَّه لن يسبق العاقل إليهما، إلَّا إذا كان الأخير خارج المُخاطبين بهما. وحتَّى في هذه الحالة؛ فإنَّ نومَ العاقِلِ أو إقَامَتَهُ مَضْمُونَةُ الصحَّةِ، في حين أنَّ سَهَرَ الجَاهِلِ أو شُخُوصَهُ مُردَّدٌ بين الصحة والفساد، ولذا، كان الركونُ إلى العاقل في نومه وإقامته أصوبَ وأرجحَ من مُتَابَعَةِ الجَاهِلِ في سَهَرِهِ وشُخُوصِهِ؛ خصوصًا وأنَّ المُحتَملَ عند الخطأ عادة ما يكون شديدًا عظيمًا، وإن كان الاحتمالُ ضعيفًا، وهذه حيثية مهمَّة لا يترك العقلاءُ اعتبارها، بل والأخذ بها.
لا بدَّ من الالتفات إلى أنَّ الفاعِلَ مأخوذٌ بِنِسَبٍ مختلِفةٍ في التحقُّق الخارجي للفعل، فإنَّ انقاذ النفس المحترمة من الموت أو من الضرر والحرج، مثلًا، أمرٌ في نفسه حسنٌ، سواء كان المُنقِذُ مُؤمِنًا أو كافِرًا، وسواء كان صادِقَ النِيَةِ أو لا، غير أنَّ الأمر لا يتوقَّفُ عند تحقُّق الإنقاذ، بل يتجاوزه إلى ما يترتب عليه عادةً، ومن أمثلة ذلك، أنَّ المؤمنَ العاقل صادِق النية لا يمُنُّ ولا يُعيِّرُ ولا يبتزُّ، وعلى العكس منه صاحب الرياء والمصالح الدنيوية.
لذا، جاء الحديثُ محل الكلام في سياق أحاديث شريفة توجِّهُ إلى اعتبار العقل وعدم المبالغة في الانبهار بالفعل الخارجي.
منها ما عن أبي عبد الله (عليه السلام): قال: “قال رسولُ اللهِ (صلَّى اللهُ عليه وآله): إذا بَلَغَكُم عَن رَجُلٍ حُسْنُ حَالٍ فانظروا في حُسْنِ عَقْلِهِ؛ فإنَّمَا يُجَازَى بِعَقْلِهِ”[6].
وبَيَّنَ الإمامُ أميرُ المؤمنين (عليه السلام) مُشكِلَةَ الجُهَّال، فقال مُؤكِّدًا: “إنَّ قُلوبَ الجُهَّالِ تَسْتَفِزُّهَا الأطْمَاعُ، وتَرْتَهِنُهَا المُنَى، وتَسْتَعْلِقُهَا الخَدَائِعُ”[7].
نعم، قد أُمِرنَا بعدم تكَلُّفِ أكثر من الظاهر، إلَّا أنَّ هذا لا يعني البناء على الظاهر في الأفعال المهمَّة التي تترتب عليها أمورٌ خطيرةٌ، بل لا بدَّ من التريث والنظر في عقل الفاعل، وهذا ما يبينه الإمام زين العابدين (عليه السلام) في حديث مهمٍّ غاية الأهمية؛ إذ يقول (صلوات الله وسلامه عليه):
“إذا رأيتُمُ الرجُلَ قَدْ حَسُنَ سَمْتُهُ وهَديُه، وتَمَاوَتَ في مَنْطِقِهِ وتَخَاضَعَ في حَرَكَاتِهِ، فَرُويَدًا لا يَغُرَنَّكُم؛ فما أكثر مَنْ يُعجِزُهُ تَنَاولُ الدُنيا وركوبُ المحَارِمِ مِنْها لِضَعْفِ بُنيته ومَهَانَته وجُبنِ قَلبِهِ، فَنَصَبَ الدِينَ فَخًّا لها، فَهوَ لا يَزَالُ يَخْتِلُ النَاسَ بِظَاهِرِهِ، فإنْ تَمَكَّنَ من حَرَامٍ اقْتَحَمَهُ.
وإذا وَجَدْتُمُوهُ يَعفُّ عن المَالِ الحَرَامِ، فَرُويَدًا لا يَغُرَنَّكُم؛ فإنَّ شَهَواتِ الخَلْقِ مُخْتَلِفَةٌ، فما أكثر من يَنْبُو عن المال الحرام وإنْ كَثُرَ، ويحمل نَفْسَهُ على شَوهَاء قَبيحَةٍ فيأتي منها مُحَرَّمًا.
فإذا وَجَدْتُمُوهُ يَعفُّ عن ذلك فَرُويَدًا لا يَغُرَنَّكُم؛ حتَّى تَنْظُرُوا ما عَقَدَهُ عَقْلُهُ، فما أكثر من تَرَكَ ذلك أجمع ثُمَّ لا يَرجعُ إلى عَقْلٍ مَتين، فَيَكُونُ ما يُفْسِدُهُ بِجَهلِهِ أكثرَ مِمَّا يُصْلِحُهُ بِعَقْلِهِ.
وإذا وَجَدْتُم عَقْلَهُ مَتيِنًا، فَرُويَدًا لا يَغُرَنَّكُم حتَّى تَنْظُرُوا مَعَ هَواه يَكُونُ على عَقْلِهِ، أو يَكُونُ مَعَ عَقْلِهِ على هَوَاه. وكيف مَحَبَّتُهُ للريَاسَاتِ البَاطِلَةِ وزُهدُهُ فِيهَا؛ فانَّ في النَاسِ مَنْ خَسرَ الدنيا والآخرة بترك الدنيا للدنيا، ويَرَى أنَّ لَذَّةَ الريَاسَةِ البَاطِلَةِ أفضل من لَذَّةِ الأموَالِ والنِعَمِ المُبَاحَةِ المُحَلَّلَةِ، فَيترُكُ ذلك أجمع طَلَبًا للرياسة!
إلى أن قال (عليه السلام): ولكِنَّ الرَجُلَ كلَّ الرَجُل نِعْمَ الرَجُلِ هُو الذي جَعَلَ هَوَاهُ تَبَعًا لأمرِ اللهِ، وقوَاهُ مَبْذُولَةً في رِضَاءِ الله. يَرَى الذُلَّ مَعَ الحَقِّ أقْرَبَ إلى عِزِّ الأبَدِ مِنَ العِزِّ في البَاطِلِ.
إلى أن قال (عليه السلام): فَذَلِكُم الرَجُل نِعْمَ الرَجُلِ، فِيهِ فَتَمَسَّكُوا، وبِسُنَّتِهِ فَاقْتَدُوا، وإلى رَبِّكُم بِهِ فَتَوَسَّلُوا؛ فإنَّه لا تُرَدُّ لَهُ دَعْوَةٌ، ولا تَخِيبُ لَهُ طَلِبَةٌ”[8].
لا بدَّ من الانتِباه إلى أنَّ حُسْنَ السَمْتِ والهَدي، والتماوت في المنطق والخضوعَ في الحركات، ليست من الصفات المذمومة إلَّا إذا كانت لغايات دُنيوية. هذا من جانب، ومن جانب آخر فإنَّ العاقل لا يلجأ إلى ما هو خارج طبيعته الحَسَنة، لذا، فهو إن كان متماوتًا في منطقه أو متخاضعًا في حركاته، لن يكون ذلك تصنُّعًا أو تكلًّفًا، بل هو طبيعي من سجاياه الخاصَّة. إنَّما ألفتُّ إلى ذلك تنبيهًا إلى عدم صحَّة الحكم مُطلقًا من خلال الظاهر.
يحسن في هذا المقام الإشارة إلى أنَّ من أهم مرتكزات ومحاور القوَّة العقلية والروحية والنفسية والمعنوية، الائتمام بأحاديث العِترة الطاهرة، لا بشيء منها دون شيء، وقد قال الله جلَّ في علاه (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاء مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ)[9]، وينبغي الحذر كل الحذر من تحكيم الثقافات والتوجهات الخاصَّة عليها.
قال الإمام أبو عبد الله الصادق (عليه السلام): “اعْرِفُوا مَنَازِلَ النَاسِ عَلَى قَدَرِ رِوَايَتَهم عَنَّا”[10].
السيد محمَّد بن السيد علي العلوي
20 من شهر رمضان 1440 للهجرة
البحرين المحروسة
…………………………………………….
[1] – الجزء الأوَّل: http://main.alghadeer-voice.com/archives/5336
[2] – الخصال – الشيخ الصدوق – ص 112
[3] – نهج البلاغة – خطب الإمام علي (ع) – ج 2 – ص 29
[4] – البُجر بالضم: الشر والأمر العظيم والداهية
[5] – نهج البلاغة – خطب الإمام علي (ع) – ج 1 – ص 86 – 87
[6] – الكافي – الشيخ الكليني – ج 1 – ص 12
[7] – الكافي – الشيخ الكليني – ج 1 – ص 23
[8] – وسائل الشيعة (آل البيت) – الحر العاملي – ج 8 – ص 317 – 318
[9] – الآية 85 من سورة البقرة
[10] – الكافي – الشيخ الكليني – ج 1 – ص 50