تقرير وتوضيح باب المفاهيم من كتاب أصول المظفر (1) ll بقلم سماحة الشَّيخ طلال بن عبد الحميد الجمري

بواسطة Admin
0 تعليق

 

باب المفاهيم (1)

 

تقرير وتوضيح باب المفاهيم من كتاب أصول الفقه للشَّيخ المظفر

لدرس سماحة الأستاذ السيد محمد العلوي

 إعداد

أبو يقين طلال الجمري

 

 

 

 

مقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين

 

يرى بعضٌ انحصارَ أهمية علم أصول الفقه في خصوص استنباط الأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية، بينا ما وجدناه أنَّ لهذا العلم أثره البالغ في الصياغة السليمة الخاصَّة للعقلية العلمية لطالب العلم فيما إذا أتقنه على الوجه الصحيح، وحينها يتجاوز حدَّ الصياغة الخاصَّة حتى يُؤثِّر في تحسين وإنضاج العقلية الاجتماعية والتفاعلية لنفس طالب العلم مع الأخرين. وبالمقابل فإنَّ لدراسةَ هذا العلم دراسةً جامدة ضيِّقة أثرًا سيئًا في تشكُّل عقلية ونفسية الطالب؛ والوجه في ذلك أنَّ مثلَ أصول الفقه علومٌ ذات مبادئ عُرفية دقيقة قبل أن تكون قواعد وقوانين مُدَوَّنة، فإنْ دُرِسَتْ بحسب طبيعتها المرِنة المُحكَمة كانت ذات آثارٍ إيجابية سليمة، وإن دُرِسَتْ على اعتبارها معادلات رياضية جامدة فقد تكون لها آثار سيئة مُعَقَّدة.

لِما تقدم وجدنا الاهتمام البالغ الذي يوليه سماحة الاستاذ السيد العلوي في بيان جوانب عدة في حلقة درس الأصول؛ حيثُ اعتدنا دخوله للمبحث الأصولي من جهات عرفية أو تكوينية وربطها ربطًا وثيقًا بالمسألة الأصولية، ثمَّ يوجِّه اهتمامه لبيان كيفية إعمال القاعدة أو القواعد في طريق استنباط الأحكام الشرعية بحسب ما يتحمله المقام ويناسب المرحلة، ويبين أيضًا كيف يُؤثِّر ما نبحثه في تَشَكُّل العقلية العلمية للطالب الحوزوي.

من هذا المنطلق وجدت أنَّ الاهتمام بعلم الأصول ضرورة لا يصحُّ التهاون في الوفاء بحقِّها، لذا أوليتُه اهتمامًا خاصًّا، لا سيما مع ما لمسته من أثره البالغ في طريقة التفكير والنظر للأمور من مختلف زواياها وحيثياتها، وكذا طريقة الحكم على الأشياء، وهي من أصعب وأخطر الموارد التي قد يسقط فيها الإنسان عمومًا وطالب العلم على وجه الخصوص جراء الاستعجال وضعف القدرة على التحليل الدقيق والصحيح بما يكفل الوصول والوقوف على مواطن والاشتباه والشبهة حتَّى في المواضيع العامَّة غير المرتبطة باستنباط الأحكام الشرعية.

حاولت في هذا التقرير ألَّا أغفل تدوين الملاحظات المهمة التي تفضل بها سماحة السيد محمد بن السيد علي العلوي زاد الله في توفيقاته بالإضافة إلى تلخيص المطالب من كتاب أصول المظفر لشيخنا الجليل العالم الكبير الشيخ المظفر رحمه الله.

أمَّا اختياري لباب المفاهيم فلِما وجدتُ في طبيعته من ترشيد علمي للتهاون العُرفي العامِّي في البناء على ملازمات مُقدَّرة غير منطوقة، وأثر ذلك على الفهم العلمي لطالب العلم.

 

والحمد لله رب العالمين

………………………………..

تمهيد:

ينقسم البحث في المفاهيم إلى ثلاثة مباحث:

الأول: في معنى كلمة (المفهوم).

الثاني: في النزاع في حجيته (المفهوم).

الثالث: في أقسامه.

أولاً: معنى كلمة المفهوم‌

تطلق كلمة المفهوم على ثلاثة معان:

الأول: المعنى المدلول للفظ الذي يفهم منه، فيساوق كلمة المدلول، سواء كان مدلولًا لمُفرد أو جملة، وسواء كان مدلولًا حقيقيًّا أو مجازيًّا.

هو بهذا المعنى اسم مفعول اي ما دل عليه اللفظ سواء كان اللفظ مفردًا أو مركبا ناقصا أو تاما وسواء كانت دلالة اللفظ عليه بطريق الحقيقة أو المجاز.

الثاني: ما يقابل المصداق، فيراد منه كل معنى يفهم وإن لم يكن مدلولًا للفظ، فيعمُّ المعنى الأول وغيره. وهو المدلول بالاصطلاح المنطقي، ويراد به الصورة الذهنيّة سواء جاءت بواسطة لفظ أو غيره.

الثالث: ما يقابل المنطوق، وهو أخص من الأولين. وهو ما يدل عليه نفس اللفظ في حد ذاته على وجه يكون اللفظ المنطوق حاملًا لذلك المعنى وقالبًا له، فيُسَمَّى المعنى (منطوقًا) تسميةً للمدلول باسم الدال.

هذا الأخير هو ما نبحثه في باب (المفاهيم) من أصول الفقه.

تمهيد:

الخصوصية في هذا البحث هو أننا في أصول الفقه نبحث في القواعد التي تقع في طريق الاستنباط، وهي قواعد ينبغي أن تكون ثابتة، إمَّا ليقينيتها أو لكونها مجعولةً من قِبَلِ الشَارِعِ المقدَّس، وعلى كلا التقديرين تكون مبرئة للذمة.

توضيح القصد من اليقينية:

لو حضر طالبُ عِلْمٍ للدرس وسألنا عن غايته وما يريده من وراء حضوره؟ فقد نجيب باحتمال أنَّه يريد ويتطلع إلى أن يكون عالمًا، وقد يُقال أنَّه لا يطلب أكثر من أن يكون مشتغلاً بطلب العلم.. وقد يُقال غير ذلك..

لا يمكن في أصول الفقه تحويل هذه الاحتمالات إلى قاعدة نقيس عليها؛ فنقول: كل طالب يحضر الدرس فهو إمَّا أن يكون كذا أو كذا أو كذا.. إذ إنَّنا في هذا العلم لا نقبل بغيرِ قَوَاعد كليَّة ثابتة لا مجرَّد احتمالات قد تصدق وقد لا تصدق، ولذلك قال (قُدِّس سرُّهُ) في تعريف علم أصول الفقه: “علم يبحث فيه عن قواعد تقع نتيجتها في طرق استنباط الحكم الشرعي”.

إذا اتَّضح ذلك، فإنَّ المفهوم، وهو موضوع بحثنا، مَعْنى واقِع في غير محلِّ النطق أو اللفظ، ومثله المُفاد من حضور طالب العلم لحلقة الدرس كما في المثال السابق؛ إذا أنَّ وجوده في الحلقة هو المدلول المطابقي لنفس حضوره، أمَّا المعنى اللازم والمفاد من الدلالة الالتزامية فهو محل الكلام، وقد مرَّ أنَّنا في أصول الفقه لا نعتمد المُحتَملات. فتنبَّه.

تنبيه:

في مثال الطالب تثبت الدلالة الالتزامية من فعل الحضور، أي من نفس حضوره لحلقة الدرس. أمَّا المفاهيم في أصول الفقه فنبحث فيها عن الدلالة الالتزامية للجملة التركيبية، وهو ما سوف يتَّضح قريبًا إن شاء الله تعالى.

نقول:

عند صدور اللفظ، سواء عن نطق أو عن اصطكاك حجرين فإنَّ له معنى يدل عليه بالوضع، وهو ما اصطلح عليه بالدلالة التصورية، وإذا قيس إلى ما سواه ظهرت دلالات أخرى غير ما دل عليه اللفظ، وهي ما يُعبَّر عنها بالدلالة الالتزامية؛ كما لو كان اللفظ: (كرسي) فبالضرورة هو ليس أي شيء آخر. غير أنَّ الذي نريده في المقام يظهر بوضوح أشد في الجمل التركيبية؛ لما لنفس الهيئات والتركيبات من سعةٍ دلالية.

ننتهي إلى:

أنَّ المنطوقَ حكمٌ دلَّ عليه اللفظ في محل النطق.

وأنَّ المفهومَ حكمٌ دلَّ عليه اللفظ لا في محل النطق.

ولأنَّنا نعني في أصول الفقه بحجية الأصل أو القاعدة، فإنَّنا نقول:

لا كلام في حجيَّة المنطوق، ولكن، هل كلُّ ما نفهمه التزامًا من الجملة المُركَّبة المنطوقة مُعتبرٌ في أصول الفقه؟

للإجابة على هذا السؤال نحن بحاجة لدراسة الجمل التركيبية دراسة ننتهي فيها إلى القطع بأحد أمرين:

الأول: القطع بثبوت المفهوم.

الثاني: القطع بعدم ثبوت المفهوم.

المفهوم معنى يكون اللفظ المنطوق حاملًا له دالًّا عليه باعتباره لازم لمُفاد الجملة بنحو اللزوم البَيِّن بالمعنى الأخص. ولأجل هذا يختص المفهوم بالمدلول الالتزامي.

ولهذا المفهوم ثلاثة أركان يمتاز بها عن غيره بأنَّه لازم بَيِّنٌ بالمعنى الأخص:

الأول: أنه مدلول مركب للجمل التركيبية.

الثاني: أنه مدلول التزامي وهذا ما يميزه عن المنطوق.

الثالث: إنَّ كون لزومه بَيِّنًا بالمعنى الأخص يُمَيِّزُهُ عن باقي المدلولات الالتزامية؛ فإنَّ لزومها بَيِّنٌ بالمعنى الأعم أو غير بَيِّنٍ أصلًا.

ما هو المراد بالازم البَيِّن بالمعنى الأخص؟

عندما نقول (البَيِّن) فهذا يعني أنَّ هناك من اللازم ما هو غير بَيِّن؛ أي ما هو مستتر وخافي، وهذا اللزوم الخافي يحتاج إلى ما يكشف عنه. فهو إذًا يحتاج إلى استدلالٍ وطَريقٍ يُوصلنا إليه ليظهر، وهذا ليس من شأن عالم الثبوت، فالملازمة في الثبوت دائرة بين الوجود والعدم.

أقسام الملازمة في مقام الإثبات منها:

أولاً: ما لا يكفي فيه تصور أمرين (شيئين) وتصور النسبة بينهما لإثبات الملازمة، فلا بُدَّ من الاستعانة بمقدمة خارجية لتظهر هذا الملازمة وتثبت.

ثانيًا: الملازمة لا تظهر إلَّا بتصور أمرين والملازمة بينهما؛ فإنَّه بِمُجَرَّد تصور الأمرين والملازمة بينهما نجزم بها، أي بالملازمة، وهذا هو اللزوم بالمعنى الأعم.

مثال ذلك فيما لو أردنا أن نثبت مدة حمل المرأة بالنظر إلى الآية المباركة في قوله (وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أولادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ) وأيضًا النظر في الآية الأخرى في قوله تعالى (وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا) فبمجرد التفحص في الآيتين وبأبسط عملية حسابية نرى أن الملازمة تظهر، بل وتثبت أيضًا.

ثالثًا: تصور الملزوم كاف لإدراك الملازمة ومثاله حينما نتصور الشمس يكون لازمها وجود النهار.

وعليه فإن المحصلة كالتالي:

أولاً: تتصور الأمرين ولا تنكشف الملازمة إلا أن تستعين بمقدمة خارجية.

ثانيًا: أن يكفي في الجزم بالملازمة تصور الأمرين ونسبة اللزوم بينهما، وهو اللازم بالمعنى الأعم.

ثالثًا: أن تدرك الملازمة بتصور الملزوم وهذا هو اللزوم بالمعنى الأخص.

والمشهور عند قداما العلماء أنَّه:

المنطوق: هو حكم مذكور في اللفظ. والمفهوم حكم غير مذكور في اللفظ.

وعلى هذا يمكن تعريفهما بما يلي:

المنطوق: “هو حكم دل عليه اللفظ في محل النطق”.

والمفهوم: “هو حكم دل عليه اللفظ لا في محل النطق”.

والمراد من الحكم: الحكم بالمعنى الأعم، لا خصوص أحد الأحكام الخمسة.

2-النزاع في حجية المفهوم‌:

ماهي فلسفة الظهور التي قالوا بحجيته؟ وما هي حدوده؟

الأمر الأول:

عندما ننفي الاحتمالات ودلالة اللفظ على أكثر من معنى يكون المراد متعينًا في أمر واحد، فيقال هذا نص في المعنى.

أما إذا أحتمل أكثر من معنى ننظر في الأظهر منها.

الأمر الثاني:

أن يكون للفظ أكثر من معنى، ولكن يكون ظهوره في أحدها أشدَّ بسبب دليل عقلي أو عقلائي أو قرينة خارجية، فيكون الظهور بواسطة مقدمة أخرى. والمسألة راجعة إلى التعين في معنى واحد أو أكثر ويكون لأحدهما ظهور أشد من غيره.

وكيف كان، فلا قيام للتفاهم بين الناس ما لم يلتق المتكلم والمستمع في طريق واحد يطلبان فيه فهمًا واحدًا يكون للمتكلم بما يقول وهو ما يريد إفهامه، وللمستمع بما يفهمه من قول المتكلم. ولا شكَّ في ضرورة أن يكون نظام الكلام وقواعده واحدة ومعلومة للطرفين بحيث يتمكَّن كلُّ واحد منهما الاحتجاج على الآخر بحجَّة لا تُرد؛ وذلك لمحلِّ الاتِّفاق.

وعليه إذا لم نقل بحجية الظهور على المتكلم والسامع لما وضع حجر على حجر كما يقال، وهو ما عبَّروا عنه بانسداد باب العلم أو انسداد الطريق إلى العلم، ولذا أثبتوا حجية الظهور.

الجانب الأخر؛ وهو حدود هذا الظهور:

اللفظ له ظاهر، والفعل له ظاهر، والسكوت على أمر ما له ظاهر أيضًا، ففعل المعصوم مثلاً حجة وتقريره حجة؛ لِما له من ظهور. فعندما تكون هناك قرينة أنَّ السكوت إنكاري -مثلًا- انصرف إلى ظهوره وهو الإنكار.

وعليه؛ فإنَّ الظهور ليس مقصورًا على اللفظ فقط، بل الظهور من كل عاقل لفظًا كان أم فعلاً أم سكوتًا عن فعل. إلَّا أنَّنا في مقام قصر الظهورات على اللفظي منها. وإلَّا فلا يصحُّ قصرُ الظهور على اللفظي فقط؛ إذ أنَّ أفعال الإنسان تعبير عن وجودات ذهنية يظهرها بالتلفظ أو الكتابة أو غيرها، وكلها موضوعها المعنى.

وكيف كان، هناك مدلول مطابقي للجملة في محل النطق وهو المنطوق، وإذا ثبت الظهور للمدلول الالتزامي بالمعنى الأخص كان صغرى لحجية الظهور.

لا شك أن الكلام إذا كان له مفهوم يدل عليه فهو ظاهر فيه، فيكون حجة من المتكلم على السامع، ومن السامع على المتكلم، كسائر الظواهر الأخرى. إذًا، ما معنى النزاع في حجية المفهوم حينما يقولون مثلا: هل مفهوم جملة الشرط حجة أو لا؟ فإذا كان للمفهوم ظهور، وقد مرَّ أنَّ الظهور حجَّة، فما هو وجه النزاع؟

وعلى تقديره، فلا يدخل هذا النزاع في مباحث الألفاظ التي كان الغرض منها تشخيص الظهور في الكلام وتنقيح صغريات حجية الظهور، بل ينبغي أن يدخل في مباحث الحجة كالبحث عن حجية الظهور وحجية الكتاب ونحو ذلك.

والجواب: إن النزاع هنا في الحقيقة إنما هو في وجود الدلالة على المفهوم، أي في أصل ظهور الجملة فيه وعدم ظهورها. وبعبارة أوضح، النزاع هنا في حصول المفهوم للجملة لا في حجيته بعد فرض حصوله.

فمعنى النزاع في مفهوم الشرط- مثلا- أن الجملة الشرطية، مع قطع النظر عن القرائن الخاصة، هل تدل على انتفاء الحكم عند انتفاء الشرط؟ وهل هي ظاهرة في ذلك؟

مثلًا: لو قال: إذا مرضتَ فاقرأ سورة القدر عشر مرَّات.

فهل ينتفي الأمر بقراءتها عشر مرَّات بانتفاء الشرط وهو المرض؟ وإذا كان نعم، فهل هذا الانتفاء عند الانتفاء ظاهر في جملة الشرط؟

لا أنه بعد دلالتها على هذا المفهوم وظهورها فيه يتنازع في حجيته، فإن هذا لا معنى له، وإن أوهم ذلك ظاهر بعض تعبيراتهم، كما يقولون مثلا: مفهوم الشرط حجة أم لا. ولكن غرضهم ما ذكرنا.

كما أنه لا نزاع في دلالة بعض الجمل على مفهوم لها إذا كانت لها قرينة خاصة على ذلك المفهوم، فإن هذا ليس موضع كلامهم.

نعم، بعد ثبوت الظهور تثبت له الحجية بالقياس على كبرى حجية الظهور، ولو نوقش في نفس الحجيّة لكان محلُّ النقاش مباحث الحجّة لا هنا.

والحاصل إنَّ البحث في المفهوم هنا إنَّما كان بصدد إثبات الظهور من عدمه.

3-أقسام المفهوم:‌

ينقسم المفهوم إلى مفهوم الموافقة ومفهوم المخالفة:

القسم الأول مفهوم الموافقة:

نقصد أن يكون الحكم المسكوت عنه، أي الذي ليس في محل النطق، موافقًا للمنطوق إثباتًا ونفيًا.

مثال ذلك: فحوى المبيت في دار أحدهم؛ فباعتبار الإذن في المبيت يكون من باب أولى الأذن بالمشي في الغرفة مثلاً، بمعنى: عدم ممانعة صاحب الدار وهو الآذن للمشي؛ لكونه أهون من المبيت الذي أجازه وهذا ظاهر بالموافقة. وإن أراد المنع من المشي افتقر المقام إلى بيان زائد من قِبَلِه.

مثالاً آخر قوله تعالى (ولا تقل لهما أف) فإنَّ العرف يفهم النهي عن الضرب؛ حيث إنَّ تحريم الأفّ دون تحريم الضرب أمر غير عقلائيّ.

نُطلِق على هذا القسم (بمفهوم الأولوية)؛ إذ إنَّ النهي عن ضرب الوالدين أولى من النهي عن قول الأف لهما، وكذا يُسمَّى (فحوى الخطاب)؛ حيث إنَّ نفس الإذن بالمبيت مُتَضَمِّنٌ للإذن فيما دون المبيت كالمشي في الدار.  ولا نزاع في حجية مفهوم الموافقة، بمعنى دلالة الأولوية على تعدي الحكم إلى ما هو أولى في علة الحكم.

 مفهوم المخالفة:

ما كان الحكم فيه مخالفًا في السنخ للحكم المنطوق، وبعبارة أخرى: أن يخالف المفهوم الحكم المسكوت عنه حكم المنطوق.

لمفهوم المخالفة موارد كثيرة وقع الكلام فيها كجملة الشرط وجملة الوصف وغيرها من الجُمَل، وهي على ثلاثة أضرب:

الأول: أن يكون معها (أي مع الجملة) قرينةٌ تدلُّ على أنَّ المتكلم لم يرد المفهوم.

الثاني: أن يكون معها قرينةٌ تدلُّ على أنَّ المتكلم يريدُ المفهوم.

الثالث: أن تكون مُجَرَّدَةً عن أيِّ قرينةٍ تدلُّ على إرادة المفهوم أو عَدم إرادته.

أمَّا الضرب الأول فلا خلاف ولا نزاع في لزوم اتِّباع القرينة والالتزام بعدم دلالة الجملة على المفهوم.

وأمَّا الضرب الثاني فكذلك لا خلاف ولا نزاع في لزوم اتِّباع القرينة والالتزام بدلالة الجملة على المفهوم.

وأمَّا الضرب الثالث فهو محلُّ الكلام، والنزاع فيه من جهة الدلالة من عدمها، فمنهم من يقول إنَّ الجملة تدلُّ على المفهوم، ومنهم من يقول بأنَّها لا تدلُّ على المفهوم. وسواء ثبت الدلالة لنوع من أنواع الجمل، فهل هذا يعني ثبوتها لكلِّ الأنواع؟ وكذا لو انتفت الدلالة، فهل تنتفي عن كلِّ أنواع الجُمَل؟

قبل الشروع في البحث نقدِّم بمقدِّمتين لهما دورهما في فهم وضبط المسألة.

المقدمة الأولى:

قال بعض المحققين أنَّ المفهوم ينقسم إلى قسمين: خبري وإنشائي.

الخبري:

فلنفترض قناعةً تكونت بأنَّ التزام طالب العلم بحضور الدرس أمارة على جدِّه واجتهاده، فإنَّنا حينها نقول مُخبِرين: إذا التزم طالبُ العلم بحضور الدرس فهو جادٌّ.

كان مفهوم الجملة هو عدم جدِّه في حال عدم التزامه بحضور الدرس. وهذا المفهوم خبري؛ لأنَّ الجزاء جملةٌ خبريه.

المفهوم الإنشائي:

وهو فيما إذا أراد المتكلِّم إصدار أمرٍ، ولكنَّه يُعَلِّقه على تَحَقُّقِ أمرٍ آخر فيقول مثلًا: إذا جاءك زيدٌ فأكرمه.

فيكون لِسانُ المفهوم لسانَ إنشاء: (إن لم يجيء زيدٌ فلا تكرمه)، فالمفهوم إنشائي؛ لأنَّ جزاءه جملة إنشائية. وعلى القول بثبوت المفهوم، يكون: إن لم يأتِ زيدٌ فـ(لا يجب) إكرامه، وهو خبري. ومِنَ الواضح أنَّ إنشائية الجملة الشرطية أو خبريتها تتبع الجزاء.

ملخص القول:

لا مُحصل من تقسيم المفهوم إلى خبري وإنشائي؛ إذ إنَّ المشهور هو انتفاء الجزاء عند انتفاء الشرط، لا التأسيس لحكم أخر يكون محلُّه المفهوم الخبري حتَّى نقول: إن لم يأتِ زيدٌ فـ(لا يجب) إكرامه.

المقدمة الثانية:

ما هو سبب ظهور المفهوم؟

السبب هو اللفظ وإن كان الوقوف عليه بإعمال عقلي أو الرجوع إلى العرف، أيًّا كان فالسبب هو اللفظ، لذلك دخل مبحث المفهوم في المسائل اللفظية.

……………………..

مقالات مشابهة

اترك تعليق


The reCAPTCHA verification period has expired. Please reload the page.