إنَّ الدوافع نحو الأفعال، ترسم صورةً لنفس هذه الأفعال، فعلى أساسها يَبتني السلوك في تأدية الفعل، فكل ما كان الدافعُ ذا مرتبة عالية كان الفعل بإزائه في ذلك.
فترى إذا ما كان دافع شخص نحو إقامة معهد تعليمي الربح الشخصي، ترى أنه لا يتسامح في تخفيض مبلغ رسوم التسجيل لمن لا يقدر على تمامه من أبناء قريته، بل ولا يقبل بتأخيره، بعكس من كان دافعه نحو ذلك منفعة الناس وخدمتهم.
ومن هذا المنطلق، أطرح سؤالًا وهو، ما هي الدوافع نحو العبادة، التي ذكرها الله تعالى في كتابه بقوله: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} ؟، وما هو الدافع الأكمل؟
عند ملاحظة كون العبادة هي الغاية من خلق الجن والإنس، حيث قرنها الله تعالى بلام التعليل، يتبين لنا أهيمتها وعِظمُ شأنها، وهذا ما يدفعنا للإهتمام بتأديتها بأبهى صورةٍ، بما يتناسب مع مقام المعبود جلَّ شأنه، ومعرفة كيفية تأدية العبادة بما يرتضيه الله تعالى لا نُحصِّله إلا بالرجوع إلى أبوابه في خلقه وحُججه عليهم وهم محمد وآله عليهم أفضل الصلاة والسلام.
ولأن العمل يتقولبُ بدافعه كما في بداية الكلام، فلابد أن يعرف كل فرد دافعه من العبادة، وما هو الدافع الأكمل، لكي يسعى إليه.
وقد بَيَّن لنا أهل البيت عليهم السلام دوافع العبادة، فيما رواه الشيخ الكليني بإسناده، عن أبي عبد الله (ع) قال: (العبادة ثلاثة: قوم عبدوا الله عز وجل خوفًا فتلك عبادة العبيد، وقوم عبدوا الله تبارك وتعالى طلب الثواب فتلك عبادة الأجراء، وقوم عبدوا الله عز وجل حبًا له فتلك عبادة الأحرار، وهي أفضل العبادة).
فلا يخلو العبد إما أن يعبد الله خوفًا من عقابه، أو طلبًا وحرصًا في ثوابه، أو حبًا وشكرًا لله كما في رواية أخرى.
فمن كان دافعه للعبادة الخوف من عقاب الله تعالى، لو فرضنا أن العقاب رفع عنه، فلا ريب أنه لا يبقى على عبادته؛ لأن منشأها قد رُفع، فلا عقاب لكي يخاف منه، وهذا ما يُوضح لنا أن العبادة التي منشأها الخوف من العقاب، لم تصل إلى حقيقة العبودية، حيث إنها معلقة على دفع ضرر، وكذا من عبد الله تعالى بدافع الحرص وطلب الثواب، فلو ضُمِنت له الجنة، وأعطيَ مفاتيح أبوابها، فلم يبقى على العبادة ؟، وأصحاب هذين الدافعين مقيدون من جهة خوف العقاب ومن جهة الحرص على الثواب، وهذا ما يفقدهم بعض مراتب التسليم، وقد أمر الله تعالى بالتسليم المطلق للرسول (ص) في قوله:{إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ ۚ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}.
ولكن حين النظر لمن كان دافعه للعبادة الحب لله والشكر له، فنراه حرًا كما عبرت الرواية، فهو ليس مقيدًا بالخوف من العقاب ولا بالحرص على الثواب، إنما يعبد الله لأنه أهلٌ للعبادة، وشكرًا له على ما أنعم عليه من فضله، وهذا ما يُزينُ عبادته، ويقوي إيمانه، فهو لا يَتخلفُ عمّا أمر الله به، ولا يتجرأ على ما نهى الله عنه، تسليمًا لله تعالى فيهما، لما في قلبه من الحب له تعالى، يقول إمامنا الصادق (ع) في قول الله تعالى {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ۗ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}: (فمن أحبَّ الله عز وجل أحبَّهُ اللهُ ومن أحبَّهُ اللهُ تعالى كان من الآمنين).
وينبغي الإشارة إلى أن كون الدافع نحو العبادة هو الشكر لله، لا يعني عدم الخوف من غضب الله وعقابه، وعدم الرجاء لرحمته وجنته، ففي الراية عن أبي عبد الله (ع) قال: كان أبي (ع) يقول: (إنه ليس من عبدٍ مؤمنٍ إلا وفي قلبه نوران: نور خيفة ونور رجاء، لو وزن هذا لم يزد على هذا ولو وزن هذا لم يزد على هذا).
ولكن ما ينبغي أن يدفع المؤمن نحو العبادة هو الشكر لله لا الخوف من عقابه والحرص على ثوابه.
والوصول إلى هذه المرتبة العالية، والثبات عليها، يستدعي منا عزمًا قويًا، وعملًا خالصًا، ونية صدقٍ لا نزيغ عنها، ولا فرصة للوصول إلى ذلك كالتي نحن فيها، فالنستغل هذا الشهر الفضيل لِننال ما نبغيه من الخير، فنحن في ضيافة الرحمن، والله تعالى لن يبخل على ضيوفه إذا ما سألوه.
حسين يوسف طارش
١٠/شهر رمضان المبارك/ ١٤٤٠ هـ
2 تعليقات
مقال رائع جداً، لو حبذا شرحت ماهي العباده في مقالك القادم لان اغلب الناس يعرفون العباده بأنها الفرائض المعروفه عند المسلمين و ذكر الله محصور في تلك الفرائض
السلام عليكم
شكرًا لاهتمامكم ونسأل الله التوفيق في بيان معنى العبادة مفصلًا استنادًا على ما رواه الشيخ الصدوق بإسناده عن خيثمة بن عبد الرحمن الجعفي قال: سأل عيسى بن عبد الله القمي أبا عبد الله عليه السلام وأنا حاضر فقال: ما العبادة؟ قال: حسن النية بالطاعة من الوجه الذي يطاع الله منه.