بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على محمَّد وآله الطاهرين، واللعن الدائم على أعدائهم إلى قيام يوم الدين
تقويم الفهم
لما قاله شيخُنا الصدوق (نوَّر اللهُ مرقدَه) في الشهادة الثالثة وسهو النبي (صلَّى الله عليه وآله)
مقدِّمة:
يُشاع عن الشيخ المُعظَّم، مُحمَّدِ بن علي بن الحسين بن موسى بن بابويه القُمِّي، المعروف بالشيخ الصدوق (علا برهانه) القول ببدعية الشهادة الثالثة في الأذان، وبجواز السهو على النبي الأكرم (صلَّى الله عليه وآله)، وطالما تصدَّى الأكابر من ذوي الأفهام الناضجة إلى إبعاد العامَّة عن مثل هذه الإثارات التي لا تجني الأمَّةُ من ورائها غير الضعف والوهن في الالتزام بأحكام الإسلام الأعم من العقدية والشرعية، وفي الثقة بالعلماء الأعلام الذين شرَّفهم الله تعالى بمهمَّة حفظ الإسلام وصيانته في نفوس المؤمنين. إلَّا أنَّ بعضًا، وعن حسنِ نيَّة إن شاء الله تعالى، لا يزالون يصرُّون على إثارة مثل هذه الأمور، ولا يدرون أنَّهم بذلك يحملون معاول هدمٍ طالما شلَّ اللهُ تعالى الأيدي عنها!
إنَّهم يتصورون تصورات خاطئة، ويبنون عليها، فلا يصمد إيمانهم حينها أمام ثوابت الإسلام ودعائم الإيمان، وفي لحظةٍ مُظلِمَةٍ، يجدون أنفسهم أمام ضَيَاعِ وتِيه النسبية والقول بالتغير المطلق بتغير الزمان والمكان، إن لم يكن هم، فممَّن كانوا هم سببًا في تشكيكهم وخلق الشبهات في نفوسهم، فيتحملون بذلك بدل الوزر أوزارًا.
عندما يتصدَّى العلماء لإثارة بعض المسائل، فإنَّهم يثيرونها في حلقات الدرس والمباحثة، ولا يربكون بها العباد، ولكنَّنا اليوم نعيش حالات سيئة من الخِفَّة في طرح المسائل العلمية، ممَّا جرَّأ البعض على اقتطاع ما يثيرون به الفِتن ويبسطون أرضية التنازعات والتسقيطات.. والضحية في نهاية الأمر ليس من شيءٍ غير المؤمنين أنفسهم!
أُحاوِلُ في هذه العُجالة الوقوف على المراد الواقعي لشيخنا الصدوق (علتْ في الجنان درجاتُه) في خصوص المسألتين محلِّ الكلام، فإن كان كما يقولون، زوينا عنهما لما عليه الدليل، وذهبنا للإفادة من نمير علمه العالي إبحارًا في مصنَّفاته وتدويناته الرائقة. وإن كان لا، فنلتمس منه (طاب رمسُه) العذر عن ما بدر من بعض المؤمنين عن غير قصد إن شاء الله تعالى.
- حُكمُ الشهادة الثالثة في الأذان:
قال (قُدِّس سرُّه):
“وَالْمُفَوِّضَةُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ قَدْ وَضَعُوا أَخْبَارًا وَزَادُوا فِي الْأَذَانِ- مُحَمَّدٌ وَآلُ مُحَمَّدٍ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ مَرَّتَيْنِ وَفِي بَعْضِ رِوَايَاتِهِمْ بَعْدَ أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ أَشْهَدُ أَنَّ عَلِيًّا وَلِيُّ اللَّهِ مَرَّتَيْنِ، وَمِنْهُمْ مَنْ رَوَى بَدَلَ ذَلِكَ أَشْهَدُ أَنَّ عَلِيًّا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ حَقًّا مَرَّتَيْنِ. وَلَا شَكَّ فِي أَنَّ عَلِيًّا وَلِيُّ اللَّهِ وَأَنَّهُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ حَقًّا وَأَنَّ مُحَمَّدًا وَآلَهُ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ، وَلَكِنْ لَيْسَ ذَلِكَ فِي أَصْلِ الْأَذَانِ وَإِنَّمَا ذَكَرْتُ ذَلِكَ لِيُعْرَفَ بِهَذِه الزِّيَادَةِ الْمُتَّهَمُونَ بِالتَّفْوِيضِ الْمُدَلِّسُونَ أَنْفُسَهُمْ فِي جُمْلَتِنَا”[1].
من هذه الفقرة قالوا أنَّ الشيخ الصدوق (رضوان لله تعالى عليه) يرى بدعية الشهادة الثالثة في الأذان، وأنَّها من وضع المفوضة.
أقولُ:
أوَّلًا: الظاهرُ من قوله (علا برهانه): “وَالْمُفَوِّضَةُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ قَدْ وَضَعُوا أَخْبَارًا وَزَادُوا فِي الْأَذَانِ” إحدى صور ثلاث:
الأوَّلى: تَشَخُّصُ الرُواةِ عنده، وأنَّهم من المفوضة فعلًا. فهو يعرفهم ويعرف الأحاديث الموضوعة، ولذلك طرحها ولم يذكرها في شيءٍ من مصنفاته.
الثانية: تشخص الرواة، وأنَّهم عنده (رحمه الله) من المفوضة. فهو كما في الصورة الأولى، إلَّا أنَّ القول بأنَّ رواة الأحاديث التي طرجها من المفوضة قولٌ خاصٌ به.
الثالثة: عدم تشخصهم، وإنَّما نَسَبَ إليهم القول بالزيادة محل الكلام لعدم وقوفه على مستند روائي شيعي يقول بها في خصوص الأذان (والإقامة).
ثانيًا: لا تتم الدلالة على نسبته الزيادة إلى الأخبار الموضوعة، فهو (رحمه الله) قال: “وَالْمُفَوِّضَةُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ قَدْ وَضَعُوا أَخْبَارًا وَزَادُوا فِي الْأَذَانِ”، فيحتمل أن تكون الزيادة في الأذان غير وضع الأخبار، وهو ما قد تدل عليه (الواو) الفاصلة، وكان الأصح أن يقول: (قد وضعوا أخبارًا في زيادة الأذان) أو ما شابه، ويؤيد ذلك عدم ورود أحاديث في هذا الخصوص، وإلَّا لحفظها أعلامُنا غير الصدوق (طاب رمسُه).
ثالثًا: ينفي (رحمه الله) جزئية الشهادة الثالثة؛ فقد قال: “وَزَادُوا فِي الْأَذَانِ”، وأيضًا: “وَلَكِنْ لَيْسَ ذَلِكَ فِي أَصْلِ الْأَذَانِ”، ولا يمكن الاستدلال بذلك على نفيه الاتيان بها على وجه القربة المطلقة، وإن قيل بذلك فهي مصادرة واضحة.
رابعًا: عدم ورود الشهادة الثالثة في أحاديثنا لا يعني عدم جزئيتها أو استحبابها، فللمقامات اقتضاءاتها التي نعلم منها شيئًا وتخفى علينا منها أشياء، ونحن لا نستنكر عدم ورود أسماء الأئمة (عليهم السلام) في القرآن الكريم، وخصوصًا اسم أمير المؤمنين (عليه السلام)، بل نفهم مبرِّرات ذلك جيِّدًا، والأذانُ شعارٌ إسلاميٌ عامٌّ يرتفع من على المنابر خمس مرَّات في كلِّ يوم، ونحتمل لو أنَّ الأئمة (عليهم السلام) ذكروا الشهادة الثالثة في أحاديثهم المُبينة لفصول الأذان لكان ذلك ناقضًا لما هم عليه من فرض التقية.
ولا يُقال: لقد ذكروا ما هو أشد وأهم.
لأنَّا نقول ما قلناه قبل قليل من شعارية الأذان وكونه من أبرز المشتركات الظاهرة بين كافَّة المسلمين، ولذكرها فيه استفزازٌ صريحٌ ومباشرٌ لمن يُتَّقى شرُّهم.
أمَّا القول بعدم جزئية الشهادة الثالثة في الأذان والإقامة فهو ليس بمنكر، بل ذهب إليه مشهور العلماء، مع التأكيد على استحبابها بلا شك؛ لعمومات تملأ الخافقين.
إذا قيل: ولِمَ لم يقل الشيخ الصدوق (رضوان الله تعالى عليه) باستحبابها؟
قلنا: أكْثَرَ الشيخُ الصدوقُ (رحمه الله) من لعنِ المفوضة، وبالغ في التحذير منهم ومن أفعالهم المشينة من وضع الأخبار وما شابه؛ وقد نفهم موقفه الحريص على سلامة الإسلام بفهمنا لمخاوف العلماء من انتشار دعوة التفويض، خصوصًا مع دخول تيارات التجديد الفكري حينذاك من فارس والهند والروم وتركيا، وغيرها، ما استدعى تجنب فتح الأبواب أمام إمكان اخترقات المفوضة وغيرهم. ومِثلُ الشيخ الصدوق (رضوان الله تعالى عليه) عارِفٌ بِلُغَةِ العلماء والتفاتهم إلى أنَّ جملةً من الأحكام محفوظةٌ في أدلة عامَّة، فلم يكن ما كان منه إلَّا حكمة وفِطنة وكياسة تليق بأهل العلِم والفقاهة.
نخلص إلى أنَّ غاية ما يمكن القطع به من كلام الشيخ الصدوق (نوَّر الله مرقده) نفيه لجزئية الشهادة الثالثة وعدِّها من أصول الأذان، وليس في كلامه ما يدل على معارضته للإتيان بها على وجه القربة المطلقة، بل أنَّ في قوله: “وَلَا شَكَّ فِي أَنَّ عَلِيًّا وَلِيُّ اللَّهِ وَأَنَّهُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ حَقًّا وَأَنَّ مُحَمَّدًا وَآلَهُ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ” دلالة على تسليمه، كما عليه سائر الأعلام، بعمومات يُستند إليها في القول بالشهادة الثالثة على نحو القربة المطلقة.
- مسألة القول بجواز السهو على النبي الأكرم (صلَّى الله عليه وآله):
نصُّ كلام الشيخ الصدوق (قُدِّسَ سِرُّه):
قال: “إنّ الغلاة والمفوضة لعنهم الله ينكرون سهو النبيّ (صلى الله عليه وآله)، ويقولون: لو جَازَ أن يسهو (عليه السلام) في الصلاة، لجاز أن يسهو في التبليغ؛ لأنَّ الصلاة عليه فريضة، كما أنّ التبليغ عليه فريضة.
وهذا لا يلزمنا، وذلك لأنَّ جميع الأحوال المشتركة يقع على النبيِّ (صلَّى الله عليه وآله) فيها ما يقع على غيره، وهو متعبِّد بالصلاة كغيره ممَّن ليس بنبيٍّ، وليس كُلّ من سواه بنبيّ كهو، فالحالة التي اختصّ بها هي النبوّة، والتبليغ من شرائطها، ولا يجوز أن يقع عليه في التبليغ ما يقع عليه في الصلاة.
وليس سهو النبيّ (صلى الله عليه وآله) كسهونا، لأنّ سهوه من الله عزّ وجلّ، وإنّما هو أسهاه ليُعْلَم أنّه بشرٌ مخلوقٌ، فلا يتّخذ ربًّا معبودًا دونه، وليعلم الناس بسهوه حكم السهو متى سَهَوا، وسهونا عن الشيطان، وليس للشيطان على النبيّ (صلى الله عليه وآله) والأئمّة (عليهم السلام) سلطان، إنَّما سلطانه على الذين يتولّونه، والذين هم به مشركون، وعلى من تبعه من الغاوين، وكان شيخنا محمّد بن الحسن بن أحمد بن الوليد (رحمه الله) يقول: أوَّلُ درجةِ الغلوِّ نفي السهو عن النبيّ (صلى الله عليه وآله)، ولو جاز أن تُرَدَّ الأخبارُ الوارِدَةُ في هذا المعنى، لجاز أن تُرَدَّ جميعُ الأخبار، وفي ردِّها إبْطَالُ الدين والشريعة …”
من هذه الفقرة قالوا بأنَّ الشيخ الصدوق (رضوان الله تعالى عليه) يقول بجواز وقوع السهو من النبي (صلَّى الله عليه وآله)، وهذا مخالف لما عليه الشيعة الإمامية، ومن هنا انطلق بعضٌ للتشنيع على العلماء وعلى نفس العقائد الشيعية، وهيهات لأحد لأن ينال مقدار حبَّة من خردل من ثوابت التشيع.
أقول:
يظهر أنَّ الشيخ (علا برهانه) في وارد إثبات إمكان السهو على النبي (صلَّى الله عليه وآله)، ومن بعد ذلك نفيه وقوعًا بفعل الشيطان، وحصره في فعل الله تعالى.
أمَّا الأوَّل فلكون سلطة الشيطان على الأنبياء ممنوعة؛ قال تعالى (إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ)[2]، وليس الأنبياء كذلك. وهذا ما أشار إليه (قُدِّس سرُّه). وأمَّا الثاني فَلِأمرين:
الأوَّل: عدم وجود ما ينفي المشتركات بين النبي وغيره دون ما يختص بمقام النبوة، وهو قوله: “وذلك لأنَّ جميع الأحوال المشتركة يقع على النبيِّ (صلَّى الله عليه وآله) فيها ما يقع على غيره، وهو متعبِّد بالصلاة كغيره ممَّن ليس بنبيٍّ، وليس كُلّ من سواه بنبيّ كهو، فالحالة التي اختصّ بها هي النبوّة، والتبليغ من شرائطها، ولا يجوز أن يقع عليه في التبليغ ما يقع عليه في الصلاة”.
الثاني: ورود ما يثبت وقوع السهو عليه (صلَّى الله عليه وآله)، أو ما يظهر منه أنَّه سهو؛ كما في عيون أخبار الرضا (عليه السلام)، حدَّثنا تَمِيمُ بن عبد الله بن تميم القرشي قال: حدَّثني أبي عن أحمد بن علي الأنصاري، عن أبي الصلت الهروي، قال: قلتُ للرضا (عليه السلام): “يا بن رسول الله، إنَّ في سواد الكوفة قومًا يزعمون أنَّ النبي (صلَّى الله عليه وآله) لم يقع عليه السهو في صلاته.
فقال (عليه السلام): “كذبوا، لَعَنَهمُ اللهُ؛ إنَّ الذي لا يسهو هو الله الذي لا إله إلا هو”[3].
وجاء عن أبي عبد الله، عن أبيه (عليهما السلام)، قال: صَلَّى النبيُّ (صلَّى اللهُ عليه وآله) صلاةً وجَهَرَ فيها بالقراءة، فلمَّا انصرف قال لأصحابِه: هل أسقطتُ شيئًا في القراءة؟
قال: فسكت القوم!
فقال النبيُّ (صلَّى الله عليه وآله): أفيكم أُبَي بن كعب؟
فقالوا: نعم.
فقال: هل أسقطتُ فيها بِشَيءٍ؟
قال: نعم يا رسولَ الله؛ إنَّه كان كذا وكذا.
فغضب (صلَّى اللهُ عليه وآله)، ثُمَّ قال: ما بال أقوام يُتْلَى عليهم كِتاب اللهِ فلا يدرون ما يُتْلَى عليهم مِنْهُ ولا ما يُتْرَك! هكذا هَلَكَتْ بنو إسرائيل، حَضَرَت أبْدَانُهم وغَابَتْ قُلُوبُهُم، ولا يَقبَل اللهُ صلاةَ عَبْدٍ لا يحضر قلبُهُ مع بدنه”[4].
إنَّه وبحسب ما تنطق به مثل هذه الأحاديث، لا يجد النظرُ مَفَرًّا من القول بوقوع السهو، خصوصًا وقد جاءت بعض الآيات القرآنية مُثبِتَةً لوقوع الخطأ والذنب والمعصية من الأنبياء، إلَّا أنَّ الشيخ المُعظَّم الصدوق (نوَّر الله مرقده) لم يقل ما قال وسكت، بل عقَّب بقولِه: “وليس سهو النبيِّ (صلَّى اللهُ عليه وآله) كَسَهوِنا؛ لأنَّ سَهوَهُ مِنَ اللهِ عزَّ وجلَّ، وإنَّما هو أسْهَاهُ ليُعْلَم أنَّه بَشَرٌ مَخْلُوقٌ، فلا يُتَّخذ ربًّا مَعْبُودًا دونه، ولِيَعْلَم الناسُ بِسَهوِهِ حُكْمَ السَهو متى سَهَوا”.
فظهر أنَّ إسهاءَ اللهِ تَعَالى للنبيِّ (صلَّى الله عليه وآله) طريقٌ من طُرق التبليغ، وقد يكون مثل ذلك ما ورد في “أنَّ الحسنَ والحُسينَ مرَّا على شيخٍ يتوضأ ولا يُحسن، فَأخَذَا بالتَنَازُعِ، يقولُ كُلُّ واحِدٍ مِنْهُما: أنْتَ لا تُحسن الوضُوءَ. فَقَالا: أيُّها الشيخُ، كُنْ حَكَمًا بيننا، يَتَوضَّأ كُلُّ واحِدٍ مِنَّا سَويِةً. ثُمَّ قَالا: أيُنَا يُحسنُ؟
قال: كلاكما تُحسِنَانِ الوضُوءَ، ولكن هذا الشيخ الجاهل (يقصد نفسه) هو الذي لم يكن يُحسن، وقد تَعَلَّمَ الآن مِنْكُما وتاب على يديكما ببركتكما وشفقتكما على أمَّةِ جدِّكُمَا”[5].
ويؤيِّده ما قاله غوَّاص البحار شيخنا المجلسي (طاب رمسه) في حديث المحاسن، ونصُّهُ:
“أقول: في هذا الحديثِ، مع ضعف سنده، إشكالٌ مِن حيثُ اشتِمَاله على التعيير بأمرٍ مُشتركٍ، إلَّا أنْ يُقَال: إنَّه (صلَّى اللهُ عليهِ وآلِهِ) إنَّما فَعَلَ ذلِكَ عمدًا؛ لِيُنَبههم على غَفْلَتِهم، و كان ذلك لجواز الاكتفاء ببعض السورة كما ذهب إليه كثيرٌ من أصحابنا، أو لِأنَّ الله تعالى أمَرَهُ بذلك في خصوص تلك الصلاة لتلك المصلحة، والقرنيةُ عليه ابْتِدَاؤه (صلَّى اللهُ عليه وآله) بالسؤال، أو يُقال: إنَّما كان الاعتراضُ على اتِّفاقهم على الغفلة واستمرارهم عليها”[6].
وليس هذا النوع من التوجيهات بغريب عن أفهام العلماء، فقد قال السيد محمَّد الشيرازي (قُدِّس سرُّه): “المشهور بين العلماء أنَّ أكلَ آدم (عليه السلام) من الشجرة كان من باب ترك الأولى، لا المعصية ولا ترك المستحب ولا الإتيان بالمكروه” إلى أن قال: “لكنَّا ذكرنا في بعض كتبنا[7] أنَّ نسبةَ ترك الأولى أيضًا إلى الأنبياء والمعصومين (عليهم السلام) غير ظاهرٍ عندنا، بل أعمالهم هذه كانت وفق حكمة خاصَّة”[8].
فما أستقرِبُه أنَّ شيخنا الصدوق (علا برهانه) إنَّما اتَّخذ موقفه من المفوضة الذين يقولون بعدم إمكان السهو، فضلًا عن وقوعه، لا لأنَّه يرى السهو وما في حكمه أمرًا طبيعيًا يقع من الأنبياء كما يقع من غيرهم. فتأمَّل، عصمنا الله وإيَّاك من التعسُّفِ وموبقات التسرُّع.
هذا من جهةٍ، ومن جهة أخرى، أقول:
العِصمَةُ الحقيقية التكوينية مقامٌ عالٍ، بل هو الأعلى دون مزاحم، وحتَّى يستوعبه عامَّة الناس فإنَّهم في حاجة إلى المرور بمجموعة من المراحل الإعدادية والتأهيلية التي لا تُقطع في بضعة عقود؛ إذ أنَّها من المفاهيم التي يفتقر فهمها إلى تأسيسات ثقافية تستوعب ما لا يقل على ثلاثة أجيال في منظومةِ عَمَلٍ مُحْكَمَةٍ غاية الإحكام.
بحسب ما أفهم، لم يكن المؤمنون بالنبي الأكرم (صلَّى الله عليه وآله) لينتظروا منه أن يكون معصومًا بالعصمة التي نفهمها اليوم، ولذلك كانوا يناقشونه ولا يسلِّمون تسليمًا كاملًا لما يقول؛ والسرُّ في ذلك عدم تبلور مسألة العِصمة في أذهانهم بالشكل المطلوب، وهو أمر مفهومٌ جدًّا إذا ما انتبهنا إلى طبيعة التبانيات الثقافية ومقتضياتها.
نعم، لقد حقَّقت البحوث الكلامية المُحكمة فهمًا أكثرَ دقَّة لنصوص العقيدة، لا بتحكيم نتائجها، ولكن بإنضاج العقلية العلمية التحليلية والقادرة على الإرجاعات البرهانية الصحيحة، وبذلك وصلنا اليوم إلى ما وصلنا إليه من فتوحات علمية عقائدية أمَّتْنَا فيها الأحاديثُ الشريفةُ لأهل بيت العصمة (عليهم السلام)، فاتَّبعنا بعقول علماء أحبهم الله تعالى فأكمل فيهم العقول، وقد جاء عن أبي جعفر (عليه السلام) أنَّه قال:
“لمَّا خَلَقَ اللهُ العقلَ استنطقه، ثُمَّ قال له: أقبِلْ، فأقبَلَ، ثُمَّ قال له: أدبِرْ، فأدبَرَ. ثُمَّ قال: وعِزَّتِي وجلالي، ما خلقتُ خلقًا هو أحبُّ إليَّ منك، ولا أكملتُكَ إلَّا فيمن أُحبُّ. أمَا إنِّي إيَّاكَ آمُرُ، وإيَّاكَ أنْهَى، وإيَّاكَ أُعَاقِبُ، وإيَّاكَ أُثيبُ”[9].
نخلص إلى أنَّ الشيخ الصدوق (نوَّر الله مرقده) لا يقول بوقوع السهو من النبي (صلَّى الله عليه وآله)، ولكنَّه يقول بإسهاء الله تعالى له (صلَّى الله عليه وآله) لغايات لا تخرج عن غاية التبليغ، فيكون سهوه -على فرض ما يذهب إليه الشيخ الصدوق- في مرضاة الله جلَّ في علاه.
إنَّنا إذ لا نقول بوقوع لا السهو ولا الإسهاء، ونوجِّه الروايات بما يقتضيه برهان العصمة التكوينية، لا نرى المسألة خارجة عن ميدان البحث العلمي التخصُّصي، وبالتالي فإنَّه لا يصحُّ ممَّن لم يحط بالمسائل الكلامية وبعلم العقائد الخوض في مثلها، وإلَّا فسد وأفسد.
مسائل:
الأوَّلى: قال العلَّامة المجلسي (طاب رمسُه): “قد مضى القولُ في المجلد السادس في عصمتهم (عليهم السلام) عن السهو والنسيان، وجملة القول فيه أنَّ أصحابنا الإمامية أجمعوا على عصمة الأنبياء والأئمة صلوات الله عليهم من الذنوب الصغيرة والكبيرة عمدًا وخطأ ونسيانًا، قبل النبوةِ والإمَامَةِ وبعدهما، بل من وقت ولادتهم إلى أن يلقوا الله تعالى، ولم يُخالف في ذلك إلَّا الصدوق محمَّد بن بابويه وشيخه ابن الوليد (قدَّس اللهُ روحهما) فإنَّهما جَوَّزا الإسهاء من الله تعالى، لا السهو الذي يكون من الشيطان، في غير ما يتعلق بالتبليغ وبيان الأحكام”[10].
محلُّ الشاهد: ذكر الشيخُ المجلسي رأيَ الشيخين الصدوق وابن الوليد (رضوان الله تعالى عليهم) كاملًا غير منقوص، ولم يسقه مساق التُهم المُرسلة، وهكذا هو الطرح الموضوعي البعيد عن التأزمات النفسية المقيتة، وهو المرجو من الشيعة (أعزَّهم الله ورفع في الدارين مقاماتهم)؛ فليس يليق بهم غير الحِكمة والإنصاف وتحرِّي الموضوعية في كلِّ ما يقولون.
الثانية: يقوم الإسلامُ الحقُّ بين الناس على حفظ حرمات قادته من العلماء والفقهاء، وهذا ما تواترت الأحاديث الشريفة في الحثِّ عليه حثًّا عظيمًا، ومن أبلغها في هذا المقام قول الإمام علي (عليه السلام):
“إنَّ من حقِّ العالم أن لا تُكثر عليه السؤال، ولا تجر بثوبه، وإذا دخلتَ عليه وعنده قومٌ فسلِّم عليهم جميعًا وخصَّهُ بالتحية دونهم، واجلس بين يديه ولا تجلس خلفه، ولا تغمز بعينيك، ولا تشر بيدك، ولا تُكثر من قول (قال فلان، وقال فلان) خِلافًا لقولِه، ولا تضجر بطول صحبته؛ فإنَّما مثل العالم مثل النخلة يُنتَظر بها متى يسقط عليك منها شيءٌ، والعالِمُ أعظم أجرًا من الصائم القائم الغازي في سبيل الله، وإذا مات العالِمُ ثُلِمَ في الإسلام ثلمَة لا يسدُّها شيءٌ إلى يوم القيامة”[11].
محلُّ الشاهد: جعل الإمامُ (عليه السلام)، منطوقًا، أثرَ موت العالِم على الإسلام، لا على المسلمين، وإذا وقع الضرر على الإسلام تضرَّر بذلك المسلمون، وبالتالي، فإنَّ من أهم ما ينبغي علينا، بذل الجهد الصادق في فهم كلام العلماء على أحسن الوجوه، والحذر كل الحذر من الوقوع في الإساءة إلى أحدهم عن فهمٍ ضيِّق واستعجال مُوسَّع؛ فإنَّ الإساءة إلى العالم إساءةٌ لمقام العلم والعلماء، وهو كإماتة العالِم في نفوس الناس، فيُثلم الدين!
الثالثة: لا يصحُّ الاقتطاع من السياق، ولا يصحُّ فهم السياق على أنَّه المسار اللفظي للكلام؛ بل هو موضوعيًا يستوعب المكتوب في سياق ظرفه، فيُنظر إلى مجموع الأحداث السياسية والاجتماعية، وما بين العلماء من لغات وإشارات خاصَّة، وما إلى ذلك ممَّا يُؤثِّر في اختيار اللفظ والمُركَّب التعبيريين. ومن هنا اقتضت المسؤولية العلمية الحذر الشديد من وعن أدنى طرحٍ دون إحاطة قوية ماكنة بالمقول ظرفًا ومظروفًا، والضابطة في ذلك قوله تعالى (مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ)[12].
الرابعة: نحتاج دائِمًا إلى المناقشات والأطروحات العلمية الوازنة، بحثًا ونقدًا وإيرادًا وردًّا، إلَّا أنَّ كلَّ ذلك ينهدم بمجرَّد سلوك التعسفات والمصادرات، وسائر التوصيفات الخارجة عن حدود اللياقة والأدب، فالقضية ليست هواية أو هوس، ولكنَّها حبٌّ للعلم وتحملٌ لمسؤوليته، ولذلك يبحث العلماء دائمًا عن مساحات الاتفاق والتوافقات بينهم وبين من يقرأون له، ويعملون على توسعتها بالإيرادات العلمية الطيبة الحسنة بأمزجة طبية حسنة، وإن بدا من بعضهم شيءٌ من الحدَّة، فذاك لبعض الظروف الضاغطة عادةً، وإلَّا فالأعلام على سُبُل النجاة دائمًا إن شاء الله تعالى.
الخامسة: نحن هنا لا ندافع عن الشيخ الصدوق (طاب رمسُه)، بل ندفع عن أنفسنا حبائِل الشيطان التي تجرُّ الخلائق إلى المهالك بطرق وألوان شتَّى، منها الفهم الخاطئ والتشوش في الرؤى. نسأل الله تعالى العصمة والسلامة والأمن والأمان.
السادسة: من يقرأ للشيخ المعظم الصدوق (نوَّر الله مرقده) أماليه وما أورده في العلل، ومعاني الأخبار، وثواب الأعمال وعقاب الأعمال، والخصال، وعيون أخبار الرضا (عليه السلام)، وكمال الدين وتمام النعمة، لما تردَّد لحظةً عن تنزيهه، فهو حينها سوف يقف على الطبيعة الفكرية له (قُدِّس سرُّه).
نسأل الله تعالى العِزَّة والمنعة بحفظ علمائنا الأعلام وتخليد ذكراهم في الأنام، بالصلاة على محمَّد وآله الأطهار.
السيد محمَّد بن السيد علي العلوي
6 ربيع الثاني 1440 للهجرة
البحرين المحروسة
……………………………………………..
[1] – كتاب من لا يحضره الفقيه – الشيخ الصدوق – ج1 ص290
[2] – الآية 100 من سورة النحل
[3] – عيون أخبار الرضا (عليه السلام) – الشيخ الصدوق – ج 1 – ص 219
[4] – المحاسن – أحمد بن محمد بن خالد البرقي – ج 1 – ص 260 – 261
[5] – مناقب آل أبي طالب – ابن شهر آشوب – ج 3 – ص 168 – 169
[6] – بحار الأنوار – العلامة المجلسي – ج 17 – ص 106
[7] – راجع موسوعة الفقه: (كتاب البيع): ج5 ص247 في تنزيه الرسول (صلَّى الله عليه وآله) والأئمة (عليهم السلام)، و(من فقه الزهراء) ج1 المقدِّمة وص187 – 191 وص249 – 253
[8] – الفقه العقائد – الشيرازي – ص36
[9] – الكافي – الشيخ الكليني – ج 1 – ص 10
[10] – بحار الأنوار – العلامة المجلسي – ج 25 – ص 350 – 351
[11] – المحاسن – أحمد بن محمد بن خالد البرقي – ج 1 – ص 233
[12] – سورة ق الآية 18