الحَسَنُ والأحْسَن فِي المُستَحَبِ شَرْعًا إذا عُورِضَ عُرفًا

بواسطة Admin
0 تعليق

يبحثُ الإنسانُ، بطبعه، عن الحياة الكريمة وراحة البال والنفس، ولا يرجو لنفسه الوقوع في الأخطاء وما ينتهي به إلى المشاكل والهلكات، وقد جاءت الأديان السماوية وغير السماوية لمساعدته على تحقيق هذه الغاية، فَشَجَّعَتْ على أمُور، وهَذَّبت أخرى وقوَّمت، ومَنَعت.. كلُّ دِينٍ بِحَسَبِ رُؤيَتِهِ الكَونِيَةِ.

جاء الإسلامُ العظيمُ على ذات النسق العقلائي الطبيعي، فأيَّدَ شيئًا ممَّا عليه الناس، وهذَّبَ وقوَّم شيئًا، ومَنَعَ شيئًا، ومن هنا أُصِرُّ على أنَّ الدين الإلهي المستقيم لم يأت للاصطدام مع الإنسان، ولا لإخراجه من حياته لمصلحة حياةٍ أُخْرَى لا يعرفها ولا يشعر بالانتماء إليها، بل جاء من أجل إرجاع الإنسان إلى رُوحِهِ الطَيبَةِ وفِطْرَتِهِ الهَادِئَة.

إنَّ هذه الغاية لهي من أسمى الغايات وأعلاها قِيمَةً، إلَّا أنَّ طريقها ليس من الطرق السهلة؛ كيف وقد توعدها إبليس بقعدةِ إضلالٍ لا يتحول عنها إلَّا وقد أفسد بما ملأ به الأرض ظلمًا وجورًا!

بين غايات الإسلام، وتلبيسات الشياطين، يقعُ الإنسانُ مُنهكَ الذِهنِ، مُتعَبَ النفسِ؛بعد أن أجهدَتْهُ تقاذفات الحياة وترامياتها..

تصرخُ نفسُه من أعماق وجدانه..

أَتَدَيَّنُ فأكون من ذوي اللحى والتَخَتُّم، فيُعاب عليَّ ذلك بأشَدِّ ما يكون، وإذا أقبلتُ على قومٍ قال بعضُهم: جاء المطوَّع.. جاء المُلا.. وتوجهوا بالحديث لي: إلى متى تبقى على هذا المظهر وأنت لا تزال شابًّا والعمر أمامك؟!

تدور الأيَّامُ وتبرزُ موظةٌ جديدة سنَّها مُطرِبٌ أو لاعِبُ كُرَةٍ أو راقِصٌ.. موظَةُ إطلاق اللحى والشوارب، ولُبس السروال الممزق وحلاقة نصف الشعر والإبقاء على نصف!

يمرُّ الشابُّ بهذا المنظر أمام أقوام وأقوام دون أن يتوجَّه إليه أحدٌ بِنَقدٍ أو إعابة. وإن صدر شيءٌ عن أحدٍ فإنَّه يُلامُ ويُتَّهم بالتدخل في شؤون وخصوصيات الآخرين؟!

بل والأنكى من ذلك، أنَّ المتدين إذا أطال لحيته في نفس أيَّام موضة اللحى، فإنَّه يُلام ويعاب ويُنبز، وإلى جانبه ابنُ الدنيا وقد أطالها، إلَّا أنَّه في نظر الناس لم يمارس أكثر من حريته الشخصية!

وقس على ذلك العشرات والعشرات من الأمثلة الواضحة والنماذج الفاقعة..

ألا يحقُّ للمُؤمِن أن يتعب ويصاب بالإنهاك والضجر؟ أوليست هذه من الحالات التي تُرسِّخُ وتُجَذِّرُ للازدواجية في شخصية الإنسانِ فردًا وجماعةً ومجتمعًا؟

يتوقَّفُ بعضٌ أمام هذا السلوك المجتمعي، ويرفضه بعضٌ آخر، وفريقٌ ثالث يقبله لِمَا يذهب إليه من حاكمية العرف وعدم صحة مخالفته.

من الواضحِ انحِصَار كلامنا في المستحب والمكروه الشرعيين، وإلَّا فالواجب والحرام لا يُزَاحمان إلَّا بما هو في قوَّتِهما تعيًّنًا؛ كالتعرُّض للقتل أو الغصب في حال إقامة الصلاة الواجبة، أو بتشخيص الحاكم الشرعي؛ كما إذا رأى عدم الحج لما هو أهم.

فنقول:

المُستحبُّ من حيث إنفاعل أطرافه على قسمين:

الأوَّل: انحصار المُنفعل في فاعل المستحب، كما في صلاة الليل؛ إذ أنَّ أثرها محصورٌ أوَّلًا وبالذات في مقيمها، وقد يتجاوزه ثانيًا وبالعرض لمتعلقيه ومن يرتبط معهم في عمل أو ما شابه.

الثاني: توسُّع الدائِرَة لتشمل مجموعةً أو مجتمعًا أو أمَّةً، كما إذا فعل بعضٌ مستحبًّا تُنكِره الثقافة القائمة، فيُعاب المجتمع الإسلامي، ولا تختص الإعابة بفاعله فقط.

قبل الحديث عن ما يتعلق بالموقف في كلا القسمين، أُبَينُ جهات تعلُّق الحكم الشرعي بموضوعه.

انقسام الحكم إلى عقلي وشرعي:

إذا دار الأمر بين القُبح والحُسن الذاتيين، كما في الظلم والعدل، فإنَّ الحكم حينها عقليٌّ، وضابطه عدم انفكاك أحدِهما عن صاحبها متى وأين ما وقع، فالظلم قبيحٌ متى وأين ما وقع، والعدل حسنٌ متى وأين ما وقع.

أمَّا إذا دار الأمر بين المصلحة والمفسدة، كما في القول المطابق للواقع، والقول غير المطابق للواقع، فإنَّ الحكم حينها شرعيٌّ، وضابطه نصُّ الشارِع أو إمضاؤه وعدم الردع عنه، ومن هنا ثبتت الحجيَة للسيرتين، سيرة المتشرعة وسيرة العقلاء.

لا يمكن للتعارض أن يقع بين حكمين عقليين؛ لعدم إمكان عروض التخصيص أو التقييد أو الارتفاع أو الاجتماع على حكم عقلي؛ فسمة الحكم العقلي سمة ثبوتية مستغنية عن الإثبات، كما وأنَّ مدار الحكم العقلي من جهة الإلزام إنَّما هو الوجوب أو الحرمة؛ للتواطي في مفهومي القبح والحُسن من حيث ثبوت حكميهما. نعم، هناك ما هو أشدُّ قُبحًا وأشدُّ حُسنًا، إلَّا أنَّ هذا التشكيك محدود في أدناه بالحرمة أو الوجوب، فتنبَّه.

نعم، يقع التعارض بين خبرين من حيث المدلول؛ وإلَّا فنفس الدليلين لا يتعارضان إذا كانا على نفس درجة القطع بصحتهما، ولذا، فإنَّه في غير تخصيص العام وتقييد المطلق يتوسَّع النظر في المدلولات المحتملة، ومن هنا تحديدًا تظهر احتمالات وقوع التعارض، وهو في الواقع ليس من التعارضات المتدافعة، بل هو وقوعٌ يحكم به النظر البدوي، وسرعان ما يرتفع بأشكال الحمل التي يفقهها أولو الصناعة من قادة العلم وأعلام الفقاهة.

فالتعارضُ، إذًا، يقع بين نفس الموادِّ الدلالية، وحلُّه راجع للعالِم الفقيه العارِف.

التزاحم:

يقع التزاحم في مقامين، أوَّلهما مقام الملاكات، كما في تشريع الحدود والقصاص المُزَاحَمُ -مثلًا- بحفظ مرتكب الجرم لجهات مهمَّة مثل وجوب حفظ الأسرة من التفكك أو ما شابه، “والأمر في هذا التزاحم بيد المولى، فهو الذي يُلاحِظُ الجهات، ويجعل الحكم طِبقًا لما هو الأقوى من الملاكات. وليس للعبد إلَّا الامتثال بلا مُلَاحَظَة المصلحة أو المفسدة”[1].

أمَّا المقام الثاني فمقام الإمتثاله عند تزاحم الأحكام، كما إذا توقَّف إنقاذ الغريق على الجواز في الأرض المملوكة للغير مع عدم إمكان تحصيل الإذن، أو مع المنع؛ فإنقاذ الغريق ممتنع دون ارتكاب الحرام، وهو الجواز في الأرض المملوكة للغير. فهل:

تُرْفَعُ حُرمةُ الجواز في الأرض المملوكة للغير؟ أو:

يُرفَع وجوبُ انقاذ الغريق؟ أو:

يبقى الوجوب وتبقى الحرمة، وترتفع المؤاخذة على مخالفة المهم.

ولكن: هل يُعاقب المُكلَّف عند تركه الأهم للمهم، كما إذا ترك إنقاذ الغريق لتوقفه على ارتكاب محرَّم، وهو الجواز في الأرض المملوكة للغير دون إذن من مالكها؟ هذه مسألة تتكفل بها بعض مباحث أصول الفقه.

إذا اتَّضحت معالِمُ ما نحن فيه، فقد حان الوقتُ للنظرِ في العرف من حيثيات معينة تأتي بعد تعريفه.

العرف:

لتجنب الوقوع في اشتباهات والتباسات، لا بدَّ لنا من التفريق المفهومي بين عناوين ثلاثة، هي: التقاليد، العادات، والأعراف.

أمَّا التقاليد فهي السِيرُ التي تتقلدها الأجيال دون علم لا بمنشئِها ولا بجهة صدورها، وإنَّما يُلتزم بها خوفًا من محاذير المخالفة، وهي في العادة من المحاذير القصصية التي لا تستند لغير توالي التقليد. وتتسم التقاليد برسوخها في المجتمع وصعوبة تغييرها، بل وصعوبة الاقتراب منها بنقد أو ما شابه، لا لتنمر مجموعة تدافع عنها، بل لقيامها على سيرة مجتمعية.

وأمَّا العادات، فهي شبيهة بالتقاليد من جهة عدم وجود منشأ لها أو مستند عقلائي يبرِّرها، إلَّا أنَّها تزول بطروء ثقافةٍ مجتمعيةٍ جديدةٍ، تدفعها وتحل محلها.

يشترك العُرفُ مع العادات والتقاليد من جهة كونه سيرة مجتمعية، ويفترق عنها متميزًا بقيامه على أسس عقلائية نشأ عنها، وقد يكون ذلك ما برَّر اعتباره في الشرع اعتبارًا ذا قيمة.

دخالة العُرف في الحكم وفي مفهوم موضوع الحكم وفي مصداقه:

يدخلُ العُرفُ تارةً في الحكم الشرعي، كما في خيارات البيع من قبيل الغبن؛ الراجع لارتكاز عرفي هو المساواة بين الثمن والمثمن. وتارة أخرى يكون دخيلًا في مفهوم موضوع الحكم الشرعي، وفي مصداقه، أمَّا الأوَّل فكما في تحديد مفهوم الغناء، وأمَّا الثاني فكما في تحديد مصداق الزينة المحرَّمة على المرأة أمام الرجل الأجنبي.

إذا اتَّضح ذلك، فعلى أيِّ الأنحاء تُتَصَوَّرُ مُعارضَةُ العُرفِ لمُسْتَحَبٍّ شَرعِي؟

يبدو واضحًا أنَّ استناد العرف إلى منشأ عقلائي يدفع وقوعه مانعًا من ممارسة مستحبٍّ شرعي، كما وإنَّ التقاليد لا تفترق عن الأعراف في هذا المقام، والسرُّ في ذلك سِمَةُ التدين التي تتميز بها مجتمعاتنا الشيعية، ما يمنع، أو لا يسمح لتقليد مخالف أن يقوم.

فالظاهر انحصار الأمر في العادات، وهي ما يُعبَّر عنه بالبناء الثقافي.

ينبغي الانتباه جيِّدًا إلى أنَّ البناءات الثقافية المُعارِضة وجودًا لمستحبٍّ شرعي، لا يُتصوَّر، غالِبًا، رجوعها إلى مناشئ إسلامية، فهي طارِئة متأخرة، ولا تستند إلى أمر عقلائي واضح، إلَّا أنَّها تَفْرُضُ واقعًا لا يمكن إنكاره، وهو ما يتَّضح عن قريب إن شاء الله تعالى من خلال أمثلة المقال.

  • في التحنُّك:

قال الإمام الصادق (عليه السلام): “إنِّي لأعْجَبُ مِمَّن يأخذ في حَاجَةٍ وهو على وضوءٍ كيف لا تُقْضَى حاجَتُهُ، وإنِّي لأعْجَبُ ممن يأخذ في حاجةٍ وهو مُعْتَمٌّ تَحتَ حنكه كيف لا تُقْضَى حَاجَتُهُ”[2].

وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: “مَنْ تَعَمَّمَ ولم يُحَنِّك فأصَابَه دَاءٌ لا دَوَاءَ له، فلا يَلُومَنَّ إَّلا نَفْسَهُ”[3].

  • في الحنَّاء والخضاب:

قال رسولُ اللهِ (صلَّى اللهُ عليه وآله): “مَنْ دخل الحمَّامَ فأطْلَى ثُمَّ أتْبَعَهُ بالحنَّاء مِنْ قَرْنِهِ إلى قَدَمِهِ كَان أمَانًا له مِنَ الجُنُون والجُذَام والبَرَصِ والآكِلَةِ إلى مِثْلِهِ مِنَ النُورَةِ”[4].

قال النبيُّ (صلَّى اللهُ عليه وآله): “نفقة درهم في الخضاب أفضل من نفقة درهم في سبيل الله؛ إنَّ فيه أربع عشرة خصلة: يطرد الريح من الأذنين، ويجلو الغشاء عن البصر، ويلين الخياشيم، ويطيب النكهة، ويشد اللثة، ويذهب بالغشيان، ويقل وسوسة الشيطان، وتفرح به الملائكة، ويستبشر به المؤمن، ويغيظ به الكافر، وهو زينة، وهو طيب، وبراءة في قبره ويستحيى منه منكر ونكير”[5].

  • في الاكتحال:

عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) قال: “من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكتحل”[6].

  • في النعل الصفراء:

عن حنان بن سدير قال: دخلتُ على أبي عبد الله (عليه السلام) وعليَّ نعلٌ سَودَاءُ. فقال:

مَا لَكَ ولُبسِ نَعْلٍ سَودَاء؟ أما علمت أنَّ فيها ثلاث خصال؟

قال: قلتُ: وما هي، جُعلتُ فداك؟

فقال: تُضعف البصرَ، وترخي الذكر، وتُورث الهمَّ. وهي مع ذلك لباسُ الجبَّارين. عليك بلبس النَعلِ الصَفْرَاء فإن فيها ثلاث خصال.

قال: قلتُ: وما هي؟

قال: تحد البصر، وتشد الذكر، وتنفي الهمَّ. وهي مع ذلك لباس الأنبياء”[7].

  • في حمل العصا:

عن النبي (صلَّى الله عليه وآله) أنَّه قال: ” من مشى مع العصا في السفر والحضر للتواضع، يكتب له بكل خطوة الف حسنة، ومحا عنه الف سيئة، ورفع له الف درجة “[8].

لم تكن هذه الأحاديث الشريفة أكثر من نماذج على الكثير من المستحبات التي لا تقبلها ثقافة المجتمع اليوم، بل وتجري على ألسنة البعض للإعابة على فاعليها ونسبتهم إلى التخلُّف والإساءة إلى صورة الإسلام.

وإن فعلها مثلُ المنتمين إلى جماعة إرهابية أو ماشابه، فإنَّ فعلها حينئذ مرفوض قطعًا من المؤمنين؛ لمحلِّ التشبُّه!

ومن هنا:

إنَّ فعل المؤمنين لمثل هذه المستحبات المُعارضة بثقافة المجتمع تُعرِّضهم، وتُعرِّض المجتمع المتدين إلى الانتهاك استنقاصًا وتسقيطًا، ما يخلق فجوة بينه وبين عموم المجتمع، قد تترتب عليها محاذير خطيرة، منها ضعف اهتمام الناس بما يقوله العالِم برأيه؛ بعد تشكُّلِه في أذهانهم متخلِّفًا سطحيًا لا يعي الواقع الثقافي للعصر!

فهل تكون المصلحة حينها في التخلِّي عن مثل هذه المستحبات؟

قد يُقال:

أوَّلًا: لا شكَّ في أنَّ المحافظة على صورة المتدينين بعيدة عن مثل هذه الثغرات أولى من الإصرار على فعل مستحبٍ قد يكون من شأنه المساهمة في إبعاد الناس على الدين.

ثانيًا: لا نرى الكثير من هذه المستحبات محلَّا لاهتمام أكابر الفقهاء والأعلام، ولو كانت كما تقولون، لفعلها كبار الطائِفة.

فيُقال:

أوَّلًا: لا يرفض المجتمع هذه المستحبات من منطلق عرفي، بل يرفضها من منطلق ثقافي قد يتغير قريبًا، فيكون المُعارَضُ حينها أمرًا آخر من سائِر المستحبات. فهل نبقى ملحوقين بعادات المجتمع المتغيرة دائِمًا؟! هذا لا يقبله عاقِلٌ!

أقول: لو لم يكن إلَّا هذا جوابًا على ما نحن فيه، لكفى.

وثانيًا: لا يفعل الفقهاء والأعلام كلَّ المستحبات، وقد تكون لهم حساباتهم واعتباراتهم الخاصَّة. فهل من يُفتي في رسالته العملية باستحباب الخضاب للرجل نراه يختضب؟

ليس بالضرورة أن يكون ذلك، ولا يقدح عدم فعله في ثبوت الاستحباب للشيء المعيَّن، والردود النقضية على هذه المجادلة كثيرة جدًّا.

ثُمَّ إنَّ من غايات الإسلام، كما مرَّت الإشارة، إصلاح وتقويم الثقافات الخاطِئة في المجتمع، وهنا خطئان:

الأوَّل: ما الذي يضرُّ المجتمع لو اكتحل المؤمنُ أو لبس نعلًا صفراء أو تلحَّى (تحنَّكَ) بعمامته؟ أوليس هذا من الحريات الشخصية التي يدعو لها عصر التمدُّن والتحضر؟

الثاني: هناك استهدافٌ صارخ لكلِّ ما يتَّصل بالإسلام والتدين، وهو ما يظهر جليًّا في مباركة شرائح من المجتمع المؤمن أعياد غير المسلمين، بل ويرون ذلك من قِمَمِ الجمال ومن دواعي الفرح والسرور لما فيه من نشرٍ لروح الترابط وحُسن الحوار، وما شابه..

هنا عيد الألوان والحلويات.. وهناك عيد النبيذ والخمور.. وأعياد قضاء (البابا نويل) لأمنيات الأطفال..

تدعو هذه الشرائح لاحترام كلِّ ما في هذه الأعياد؛ على اعتبارها من الأديان والطقوس والأعراف الخاصَّة بأهلها.

نَفْسُ هذه الشرائح المجتمعية تمارس أقسى مستويات التسقيط والإعابة على المؤمن إذا دخل الحمَّام برجله اليسرى وخرج مقدِّمًا اليمنى؟ وعلى المُؤمِنة إلى غطَّت وجهها ولبست العباءة السوداء في الجامعة، بل وتُشَبَّه بكيس القمامة!!

ونفسها هي هي ترفع راية التشهير والتسقيط ضدَّ من يلبس نعلًا صفراء أو يختضب أو يكتحل من المؤمنين، فيقال أنَّه رجعي ويريد للأمَّة العودة إلى زمن الجاهلية.. ومن بعد ذلك يُتَّهم بتعريضه الإسلام للتشويه في نظر الغرب والشرق!

يُقَال:

بالرغم من صحَّة ما تقولون، إلَّا أنَّ الإنسانَ مأمورٌ عقلًا وشرعًا بجبِّ الغيبة عن نفسه، وقد جاء أنَّ عن النبي (صلَّى الله عليه وآله) قال: “من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فلا يَقِفَنَّ مواقف التهمة”[9].

فيُقال: ربَّما لم يرد عنهم (عليهم السلام) حديثٌ بلفظ “رحم الله امرأ جبَّ (أو دفع) الغيبة عن نفسه”، إلَّا أنَّ ذلك لا يعني جواز تعريض المؤمن نفسه للغيبة وألسنة التوهين، خصوصًا عند وقوع التزاحم. وهنا ينبغي لنا الانتباه جيِّدًا إلى أنَّ المنع الشرعي من الكون في مواقف ومواضع التهمَّة إنَّما جاء على نحو المجاز المرسل، والمراد منه ظهور المؤمن في أماكن أهل السوء، وهذا مُؤيَّدٌ بأحاديث الباب في كتب الحديث؛ فعن سفيان الثوري، عن الصادق (عليه السلام)، قال: قال لي: “يا سفيان، أمرني والدي بثلاث، ونهاني عن ثلاث. فكان فيما قال: يا بني من يصحب صاحب السوء لا يسلم، ومن يدخل مداخل السوء يتهم، ومن لا يملك لسانه يندم”[10].

وقال النبيُّ (صلَّى اللهُ عليه وآله): “أولَى الناس بالتهمة، من جَالسَ أهلَ التُهْمَةِ”[11].كما وجاء عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنَّه قال: “من جالس أهل الريب فهو مريب”[12].

من الواضح أجنبية مثل هذه الأحاديث عن ما نحن فيه، فلا المقام مقام تهمَةٍ، ولا هو ممَّا يستدعي الترك توقيًا عن غيبة من لا شغل له إلَّا ارتكابها في حقِّ المؤمنين، وإلَّا لكان الأولى إنكار أمير المؤمنين (عليه السلام) لما عليه أهل التقوى من تعلُّق بالآخرة وانسلاخٍ عن الدنيا، حتَّى قال هو (عليه السلام) في وصفهم: “ينظر إليهم الناظر فيحسبهم مرضى، وما بالقوم من مرض، ويقول قد خولطوا[13][14].

فإن قِيل:

قد يُجاب على عدم صحَّة تعريض النفس لبذاءة الألسن بما جاء عن معلى بن خنيس، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: “إنَّ عليًّا (عليه السلام) كان عندكم، فأتى بني ديوان فاشترى ثلاثة أثواب بدينار، القميص إلى فوق، الكعب، والإزار إلى نصف الساق، والرداء من يديه إلى ثدييه ومن خلفه إلى ألييه، ثم رفع يديه إلى السماء فلم يزل يحمد الله على ما كساه حتى دخل منزله. ثم قال: هذا اللباس الذي ينبغي للمسلمين أن يلبسوه.

قال أبو عبد الله (عليه السلام): ولكن لا تقدرون أن تلبسوها هذا اليوم؛ ولو فعلنا لقالوا: مجنون، ولقالوا: مراء، واللهُ عزَّ وجلَّ يقول: (وثيابك فطهر). قال: وثيابك ارفعها لا تجرها، فإذا قام قائمنا كان هذا اللباس.

قِيلَ:

لم يَنْهَى الإمامُ الصادق (عليه السلام) عن مثل هذا اللباس، ولكنَّه أشار إلى عدم القدرة على تحمُّل ما يُقالُ من الناس، وكأنَّه (عليه السلام) في حالٍ مِنَ الضيق ممَّا عليه العباد من تخلُّف عن سُننِ وآداب الله تعالى، وهو ما يظهر من توجيهه اللوم إلى المُنكرين بإلقاء التهم، لا إلى المؤمنين.

فإن قِيل:

نهى الشارع المقدَّس عن التشبُّه بالجبابرة والظالمين، وقد جاء عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنَّه قال: “لا تلبسوا السواد فإنه لباس فرعون”

وبذلك يسقط استحباب التحنُّك -مثلًا- لما فيه من تشبُّه بفرقة ضالَّة عُرِفتَ خلال العقدين الأخيرين.

فإنَّه يُقال:

منع المعصوم (عليه السلام) عن المباح حذَرَ التشبُّه بالفراعنة، وأمَّا في المستحبِّ فقد أوثِر عنهم (عليهم السلام) القول بأنَّهم “أولى” به من غيرهم. فتنبَّه.

مسألة الكون مع الجماعة المؤمنة:

نعم، قد يرجح الحذر من اتِّخاذ ما يُميِّزُ عن جماعة المؤمنين، وخصوصًا المُمَيِّزين منهم بمائِزٍ عُرفي، كالعلماء وطلبة علوم آل محمَّد (صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين)، فلا يلبس طالب العلم عمامة صفراء، بالرغم من ورود نصٍّ فيها، والسبب في ذلك المخالفة الصريحة لما عليه سلك طلبة العلوم الدينية في كلِّ الحوازات الشيعية. وقد فرض العرف العلمائي في النجف الأشرف -كما نسمع- أنَّ لبس النعل الصفراء للفقهاء فقط دون غيرهم، ولذلك يُقال بالإنكار على من يلبسها من غير الفقهاء، وقد يكون في الامتناع عن المستحب دفعًا للقيل والقال داخل نفس الجماعة الإيمانية المتميزة ثوابٌ من الله جلَّ في علاه، فإذا ثبتَ اقتضاءُ فِعلِ المُسْتَحَبِ خروجًا صريحًا عن السلك الخاص أو السمت المتعارف، وكان سببًا في فتح بابٍ من القيل والقال، فلا أشكُّ حينها في رجحان الترك محافظة على صفاء الأجواء وخلوها من المعكرات، إلَّا أنَّ هذا لا يثبت بمجرَّد التضخيم والتهويل، خصوصًا وأنَّنا في الكثير من الأحيان نفرض على انفسنا حالات غير مُبرَّرة من الرهاب المزعج، والحال أنَّ الأمور في الغالب أهون ممَّا نتصور.

رؤيةٌ شخصيةٌ:

عندما لا نتمكَّن من الدعوة إلى ما استطعنا من الآداب والسنن، فلا أقل أن نبذل جهودًا مُعتبرةً في ردع المتجرئين عن الإساءة إلى المؤمنين لمجرَّد فعلهم لمُسْتَحَبٍّ شرعيٍ يُثابون عليه ويدفعون به عن أنفسهم أشكالًا وألوانًا من السوء؛ كما جاء في كثير من الأحاديث الشريفة، ولا يصحُّ أن نعكس الأمر فنتوجَّه باللوم للمُؤمنين فنكون والزمان الردي عليهم.

أؤكِّدُ هنا على أنَّ الأمر لا يتجاوز أكثر من كونه حالةً من التَضَيُّقِ على الذات، ولو أنَّ المؤمنين يتركون كلَّ ما يعيبونه عليهم، بما في ذلك المستحبات المؤكَّدة، بل وحتَّى بعض الواجبات، فإنَّ الآخرين لن يرضوا عنهم بحال من الأحوال..

لا، وأكثر من ذلك، لو أنَّهم تخلَّوا عن الدين، واتَّبعوا الغالبين، فإنَّ ما كانوا عليه وصمةً لن تُغادرهم، وسيبقون في أنظار الآخرين: شيعة (استناروا)، لذا، فإنَّ شيئًا من قديمهم يبقى حاضرًا دائمًا، فلن يكونوا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء!

ألا ترون العمامة اليوم وقد باتت في ثقافات بعض المتدينين حاجزًا للناس عن الدين؟!

ثمَّة نكتة مهمَّة في حديث الإمام الصادق (عليه السلام) لو لباس عليٍّ (عليه السلام)، وهي في قوله: “فإذا قام قائمُنا كان هذا اللباس”.

إنَّ من يُنكِرُ هذا اللون من اللباس اليوم، لن يقبله في الغد. ويالها، حينذاك، من حسرة..

ليس في الأمر أكثر من تضخيم لا أريد الحديث عن خلفياته، ولكنَّني أختم بكلمة:

يحترمُنا الغرب والشرق، والقاصي والداني.. تحترمنا الحياة بما فيها عندما نحترم ديننا بما فيه من واجبات ومندوبات احترام فخرٍ واعتزازٍ وشموخ. وكما أنَّنا لا نفرض قناعاتنا على الآخرين، لا يصح لنا التنازل عن شيء من قناعاتنا دون مسوِّغ يقبله العقلي العلمي الرصين.

ومثل ذلك ما نقوله دائِمًا: لا نريد أن نكون أمراء، ولا نريد أن نكون نظراء، ولكن لن نكون يومًا أسراء.

قال أمير المؤمنين (عليه السلام): ” “امنن على من شئت تكن أميره، واحتج إلى من شئت تكن أسيره، واستغن عمن شئت تكن نظيره”.

وقد استعرناها لنقول: افرض قناعاتك على الآخرين تحكمهم، واستسلم لقناعات الآخرين تكون أسير عندهم، واعمل بقناعاتك تكون فرض لها على الآخرين تكن لهم نظيرًا”

لا نريد أن نحكم الآخرين بقناعاتنا، ولا نريد أن نكون لأحد نظراء، ولكن لا يصح أن نقبل بالأسر في خوانق قناعات الآخرين.

 

السيد محمَّد بن السيد علي العلوي

24 ربيع الآخر 1440 للهجرة

البحرين المحروسة

 

[1] – مصباح الأصول – السيد الخوئي – الجزء الثاني، ص 426

[2] – من لا يحضره الفقيه – الشيخ الصدوق – ج 1 – ص 266

[3] – وسائل الشيعة (الإسلامية) – الحر العاملي – ج 3 – ص 291

[4] – الكافي – الشيخ الكليني – ج 6 – ص 509

[5] – الكافي – الشيخ الكليني – ج 6 – ص 482

[6] – ثواب الأعمال – الشيخ الصدوق – ص 22

[7] – ثواب الأعمال – الشيخ الصدوق – ص 24 – 25

[8] – مستدرك الوسائل – الميرزا النوري – ج 8 – ص 127

[9] – مستدرك الوسائل – الميرزا النوري – ج 8 – ص 340

[10] – مستدرك الوسائل – الميرزا النوري – ج 8 – ص 339

[11] – نفس المصدر السابق

[12] – ص340 من المصدر السابق

[13] – أي: مازج عقولَهم خللُ

[14] – نهج البلاغة – خطب الإمام علي (ع) – ج 2 – ص 162

مقالات مشابهة

اترك تعليق


The reCAPTCHA verification period has expired. Please reload the page.