هناك في حياتنا الاجتماعية العامَّة من الأمور ما هو مستغنٍ تمامَ الاستغناء عن مجرَّد التفكير في إثبات صحَّته؛ إمَّا لوجدانيته، كما في حقِّ الأمومة؛ إذ أنَّ الأمَّ تجد في نفسها اندفاعًا تكوينيًا مُطابقيًا لاحتضان ولدها والعناية به وحمايته والدفاع عنه، بل والقتال والتضحية بالنفس من أجل سلامته. وإمَّا لإطباق العقلاء، بل وعامَّة الناس عليه، ومن ذلك ما نحن بصدده في هذه المقالة.
يبعث العقلُ دائمًا، وبلا حاجة لاجتهادٍ أو مزيدِ نَظَرٍ على قصدِ المُخْتَصِّ، فالمريض يذهب إلى الطبيب، والأخبار السياسية تُؤخذ عن وكالاتها، والدراسات والبحوث لا تُقبل على موازينها إلَّا من أهلها والعارفين بها، وهكذا تسير الحياة، حتَّى أنَّهم في أصول الفقه يبحثون حجية قول أهل الاختصاص والخِبرة وحجية أعرافهم.
يطرح بعض الأفاضل مسألة الاختصاص وضرورة احترام التخصص نقضًا على من يتدخلون مِن عامَّة الناس في تخصُّص العلماء وطلبة العلوم الإسلامية، فيقولون لهم: كما أنتم على احترامكم لسائر التخصُّصات، فعليكم احترام التخصُّص العلمي الحوزوي.
هذا كلام منطقي معقول، إلَّا أنَّني أضيف عليه أمرين أعتقد أهميتهما..
الأمر الأوَّل:
يذهب جمهورٌ من العلماء في دراستهم للأحاديث المروية عن أهل بيت العصمة (عليهم السلام) من حيثُ صحَّة وعدم صحَّة القول بصدورها إلى النظر في رجال سند كلِّ حديث، وعلى وفق بعض الموازين العلمية المقرَّرة، يقولون بصحة سند هذا الحديث وعدم صحة سند ذاك، ومن بعد ذلك يبحثون جهات أخرى تتعلق بمتن الحديث ومدى مقبوليته والعمل به عند الأصحاب وما نحو ذلك ممَّا قد يجبر سندًا ضعيفًا أو يكسر سندًا صحيحًا.
أقول: إنَّه وبالرغم أهمية دراسة أحوال الرجال، إلَّا أنَّ من أهم القرائن على محلِّ الحديث ومستواه إنَّما يَتَحَصَّلُ عليها العالِمُ الفقيهُ بعد سبره لكتب الحديث بعد بعض الدراسات بما يوقفه على واقع تماسكها الموضوعي العام ويُكسِبُهُ ملكةً خاصَّة يُعبِّرُ عنها السيد الخوئي (قُدِّ سرُّه) في بعض بحوثه بـ(مذاق الشارع).
لا يمكِنُ لا لقارئ نهِمٍ ولا لِباحِثٍ صادِقٍ مخلصٍ الظفر بهذه المَلَكة ما لم يسلك طريق العلم على وفق ما يظهر إن شاء الله تعالى في:
الأمر الثاني:
تقوم العلوم المعروفة مثل الطب والهندسة والبناء والحساب والفلك، على استنتاجات تستند إلى التجريب الخارجي، فيُقرَّرُ -مثلًا- أنَّ الدواء المعين لعلاج ارتفاع الهرمون الكذائي في الجسم، وأنَّ هذا الجسم إذا تحرَّك بالسرعة الكذائية فإنَّه يقطع الميلَ في زمن كذا وكذا..
يحفظ الطالب هذه القوانين ويدرس إثباتها، ثُمَّ أنَّه يُبدِعُ في أُطُرِهَا الخَاصَّة.
لكن..
لو أنَّ طالبًا للعلوم الإسلامية يقرأ في الطب، فإنَّ عقليته العلمية تذهب به للنظر في الأسباب الاجتماعية والنفسية المباشرة وغير المباشرة للمرض، ويعتني بدارسة وبحث الطرق الكفيلة بمعالجة أصل المشكلة، ولأنَّ المظهر المرضي معلولٌ لمقتضيات وعلل متوالية في تفرُّعات كثيرة ودقيقة، فهو عادةً ما يُدقِّق النظر في كلِّ جزئيةٍ وفردٍ من أجزاء وأفراد المشكلة، ولذلك تراه لا يعتني كثيرًا بالمظاهر الخارجية؛ لعلمه بكونها مجرَّد وجود خارجي معلول لغيره.
إنَّ العقليةَ العِلميَةَ لِطَالِبِ العُلُومِ الإسْلَامِيَةِ عقلية تحليلية تهتم كثيرًا بمعالجة أصول القضايا، وهي عقلية مطلوبة دائمًا لتحقيق التوازن في المجتمع؛ لقيام هذا الأخير على الطبيعة الجمعية غير القادرة على استيعاب المفاهيم الكلية، ولذا نراه منغمسًا في الجزئيات والمظاهر الفردية. وقد تبعه في ذلك بعض طلبة العلم ففقدوا الكثير من توازنهم العلمي!
زيادة بيان:
عندما يشرع طالب العلوم الإسلامية في دراسة علم المنطق -مثلًا- فإنَّه لا يدرس القانون المنطقي ويحفظه ليطبقه في موارده، ولكنَّه يدرس الباعث الأصل على التأملات العلمية التي انتهت بِمُدَون العلم إلى بحث خصوص هذه المسألة وتلك، ومن هنا يكون (طالب العلم) في مدارج دراسته مرافقًا لأوَّل من دوَّن العلم وبحث مسائلَه.
لا بدَّ لكلِّ عاقل الانتباه جيِّدًا إلى أنَّ هذه العقلية غير مرغوبة للعقل الجماهيري الجمعي؛ فهو عقل انفعالي سريع التأثر والتقلب، وهذا ما يفسِّر تكثُّرَ التنازعات والصراعات بين التوجهات والتيارات الفكرية في المجتمع، فهي لم تتبنى ما تتبناه عن ترقٍّ في دراسته، ولكنَّها أخذته تلقيًا في ضمن أجواء جماهيرية يعتمدها التيار لتأكيد وتعميق وجوده الجماهيري الذي يتكفل بالدفاع عنه وتقويته!
في تصوري القاصر، ينبغي لطالب العلوم الإسلامية التفرُّغ للدرس بعين لا ترى غير الفقاهة مرامًا؛ كونها هي التي يحتاجها توازن المجتمع للعصمة من الوقوع في تجاذبات ومطاحن المصالح الدنيوية الضيقة.
ولذا..
- يضجرُ طالبُ العلم من الإجازات، فهو لا يجد نفسه في غير حلقة الدرس والمباحثة وتحليل المطالب وتدقيقها..
- يضيق طالبُ العلم ويؤنِّبُ نفسه تقريعًا تقريعًا لو تأخَّر عن الدرس دقائق معدودة؛ كيف لا، والدرس محلٌّ يأنس به قلبُ الإمام (أرواحنا فداه)؟
- يعادي طالبُ العلم نظريات حرق المراحل والاستعجال في الدراسة، وعلى العكس من ذلك، تجده في غاية الانشراح وهو ينتقل في المسألة من شرح إلى شرح، ويطالع هذا الرأي وذاك، ويرجع إلى مداركها وما قيل فيها؛ فإنَّ مسألةً واحدِةً من شأنها أن تُوقِفَه على أهم قواعد الحياة.
- يقصدُ طالبُ العلم حلقة الدرس سواء في الحوزة أو في مجلس أحد العلماء وإن بعدت المسافة.. قال رسول الله (صلَّى الله عليه وآله): “من سَلَكَ طريقًا يطلبُ فِيه عِلمًا سَلَكَ اللهُ تعالى به طريقًا إلى الجَنَّةِ، وإنَّ الملائِكَةَ لتضع أجنحتَها لطالب العلم؛ رِضًا به، وإنَّه ليستغفر له مَنْ في السماوات ومَنْ في الأرض حتَّى الحوت في البحر. وفضلُ العَالِمِ على العَابِدِ كَفَضلِ القَمَرِ على سَائِرِ النُجُومِ ليلةَ البَدْرِ، وإنَّ العُلماءَ لورثة الأنبياء، إنَّ الأنبياء لم يُورثوا دينارًا ولا درهمًا، إنَّما وَرَّثُوا العِلمَ”.
- لا يترك طالبُ العلم قراءة الجزئين، الأوَّل والثاني، من بحار الأنوار للعلَّامة المجلسي (طاب رمسه)؛ فما فيهما من أحاديث العترة الطاهرة في ما يتعلق بالعلم والعلماء كفيل بتصحيح الأفهام وصيانة الأذهان وإعلاء هِمَمِ العلم وطلبه.
السيد محمَّد بن السيد علي العلوي
4 ربيع الثاني 1440 للهجرة
البحرين المحروسة