قال تعالى: « وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ۚ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ ».
وعن زرارة عن أبي جعفر (ع) في شرح الآية الكريمة قال: « إنّ الله عز وجلّ يقول: (إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين) قال: هو الدعاء » .
وعن أبي عبدالله في حديث قال: « ادعهُ ولا تقل قد فرغ من الأمر فإنّ الدعاء هو العبادة، إنّ الله عز وجل يقول: (إنّ الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنّم داخرين، وقال: (ادعوني أستجب لكم) » .
و عن سيف التمار قال: سمعت أبا عبدالله (ع) يقول: « عليكم بالدعاء فإنكم لا تتقربون بمثله، ولا تتركوا صغيرةً لصغرها أن تدعوا بها، إنّ صاحب الصغار هو صاحب الكبار » .
الدعاء طريقٌ من الطرق التي يتصل بها العبد بربه، بل هو من أبلغ الطرق التي تحقق هذه الوصلة فهو مخُّ العبادة على حد تعبير رسولنا الأكرم (ص)، فهو يشكِّل وصلةً معنويّة بين كلِّ ما يحتاجه العبد من حاجاتٍ متجددةٍ حادثة وبين المهيمن على كل أسباب الحياة.
وحقيقة الدعاء تتقوّم بإبراز وإظهار الإنسان ما في نفسه من حاجات ومطالب إلى ربِّه سبحانه بغرض تحقيقها وإجابتها، وليس الدعاء محض إبرازٍ وإظهارٍ من غير خصوصيّة إضافية، بل هناك خصوصية أخرى لذلك، وهي نسبة العبد المملوك المحتاج إلى الله الغني المتعالي الوهّاب، أو بتعبير آخر: هي نسبة الداني إلى العالي التي تعني خضوع وذلة الداعي، وجلالة وعظمة المدعو.
وهذه النسبة التي ذكرناها نسبةٌ شريفةٌ مضمرةٌ في قلب العبد، وبها يتقوّم الدعاء ومن غيرها لا تكون ألفاظ المتلفظ دعاءً، ولا يصدق عليه أنّهُ داعٍ.
ولمّا كان الله سبحانه وتعالى متنزهًا عن التلبس بالمادة والجسمية، ولا تطاله الحواس الخمس كان لابد لكلِ داعٍ لكي يدعوه من يقينٍ خاصٍ بالله سبحانه في قلبه وموضع سره، وبقدر هذا اليقين تتوثّق النسبة التي يتقوم بها الدعاء، وهذا اليقين الذي نذكره هو يقينٌ به سبحانه وبصفاته ونفوذ قدرته في كل الأشياء، وأنّه مهيمنٌ على أسباب السماوات والأرض، وأنّه يتدخلُ في كل تفاصيل حياتنا بوجهٍ قد لا تدركه عقولنا -على وجه التفصيل-.
فقد يكون الداعي غير متقين بقلبه يقينًا فعليًا وعمليًا بالحقيقة التي ذكرناها من هيمنة الخالق على عالم الأسباب، فإنّ الخالق وإنْ خلق الأشياء إلا أنّه ليس له يد على أسباب الطبيعة، فالرزق له طريقه وسببه التكويني، والإنجاب له سببه، والحفظ من الحوادث والوقاية من الأمراض والشفاء منها والنجاح وغير ذلك كلها لها أسبابها التكوينية المعروفة، فتمتمة الإنسان ببعض الألفاظ لا تغيّر من الواقع شيئًا.
هذا الاعتقاد موجودٌ عند البشر، وقد بينه الله تعالى بقوله: « وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ ۚ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا ۘ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ » حيث أنهم يعتقدون بعدم نفوذ يده وسلطانه في الكون وكونها مغلولة عزّ ربنا وجلّ عن ذلك.
وهذه العقيدة تحولُ دون تحقق أصل الدعاء، حيث تُثْبت ضمنًا عجز الخالق، والعجيب في الأمر أنّ الإنسان قد لا يعتقد بهذه العقيدة نظريًا كما يعتقد اليهود، لكن يعتقدُ بها عمليًا، فعقيدته النظرية أن الله متمكنٌ من كل شيء، ويقينه القلبي في مقام العمل والواقع هو عكس ذلك تمامًا، وهي مناقضةٌ من المناقضات الكثيرة التي قد يقع فيها الإنسان.
ومن هذه النقطة الأخيرة نقول: يتبدّى في الدعاء اعتقادُ الإنسان المؤمن ويقينه لنفسه عندما يتوجهُ فعليًا إلى ربِّه، فقد يصل الحال بالإنسان أن يعتقد بالله المقدس عن كل نقص والموصوف بكل كمال، ثمّ عندما يدعوه تشوب قلبه الريبة والتردد، فهل الله العظيم يجيب الدعاء ويسبب الأسباب من غير الطرق التي اعتدناها؟
وقد يجيب الإنسان على نفسه نظريًا بنعم، من المفترض أن يكون كذلك. ويشرع في الدعاء لكن بريبة في القلب فعليةٍ حاول أن يطفئها بتلك الإجابة نظريًا.
ومن هنا أيضًا تظهر ضرورة الدعاء وأهميته بالنسبة للإنسان، حيث أنّ الدعاء قد يكون طريقًا لتصحيح بعض المعتقدات العملية، ومعالجة بعض التناقضات التي قد يقع فيها الإنسان.
ولو تجاوز الإنسان كل ما ذكرناه وكان يقينه العملي سليمًا نقيًا، وسلم الأسُّ الأول الذي يتوقف عليه الدعاء، فإنّ هناك أسًّا آخر لابد من مراعاته، وهو الشأن العملي لله سبحانه في نفس العبد والمقام الذي يعتقده له، فما هو قدر الله عند العبد؟ هل الذي يعتقد بوجوده وهيمنته على العالم من شأنه أن يقدّس أو لا؟ هل من شأنه أن يتأدّب معه في الدعاء أو لا؟
إنّ الداعي الذي يعجل في دعائه فيلوكه بلسانه لوكًا، والداعي الذي يسهو في دعائه، والداعي الذي اعتاد على الدعاء الذي يدعو به حتى بات لسانه يسترسل في التلفظ به من غير شعور ولا حضور، والداعي الذي لا يتأدبُ في دعائه مع ربه حتى بأبسط الآداب عند الكلام مع أي إنسان، كلّ هذه المصاديق للداعين تكشف عن مدى شأن الله عندهم.
وهنا نسأل: هل يُخاطب الباري كيفما كان أو أنّ هناك أدبًا خاصًا في مخاطبته؟
إنّ مقام الربِّ عز وجلّ يقتضي على الإنسان أمورًا جليلةً عظيمةً بعظمة المدعو، وقد فصّلت الأحاديث الشريفة عن الأئمة الأطهار ذلك، فإذا اختار العبد أن يدعو الله سبحانه فعليه أن يتأدّب بالآداب التي تليق بشأن البارئ سبحانه، والالتزام بالآداب هو ديدن العقلاء وقد جرت سيرتهم على ذلك، فهم يرون حسن الإلتزام بها وقبح مخالفتها، بل الإنسان يرى نفسه مُلزمًا بآدابٍ واحترامات تجاه الناس بمختلف مستوياتهم، ويزيد ذلك بحسب مقام وشأن المخاطب، كما لو كان المخاطب ملكًا عظيمًا أو فقيهًا أو إمامًا معصومًا، فما بال الداعي إذا دعا لا يتأدّب، ومدعوّهُ هو الله جلّ شأنه؟!
وههنا آدابٌ قلبية وآداب أخرى متعلقة بنفس لفظ الدعاء وكيفية أدائه.
أمّا الآداب القلبية فهي:
الأدب الأول: أن لا يكون الداعي في دعائه ساهٍ ولا لاهٍ ولا شارد الذهن، فإنّه خلاف الأدب مع الله سبحانه، ويكون على العكس من ذلك مقبلاً ومتوجهًا في دعائه، ويستحضرُ في قلبه المدعو الذي يدعوه بأسمائه الحسنى التي أمرنا أن ندعوه بها.
الأدب الثاني: هو تيقن الإجابة، قال رسول الله (ص): « ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة » وقال الصادق (ع): « إذا دعوتَ فأقبل بقلبك وظنّ أنّ حاجتك بالباب ».
فإنّ الإنسان الذي يعلمُ بالله، ويعرف جلالة شأنه وعظمة مقامه وكرمه وجوده لا يدعوه وفي قلبه ترددٌ وشكٌّ من إجابته، وإنما يقعُ ذلك من الجاهل به سبحانه، فالله أجلُّ من أن يمنع الداعين له عمّا يحتاجون إليه وفي يده قضاء ذلك، غاية الأمر أنّه ينظر في حاجتهم بحسب ما يراه من مصالح ومفاسد ونتائج -إن صح التعبير-.
قال رسول الله (ص): « ما فُتِح لأحدٍ بابُ دعاءٍ إلا فُتِح له فيه باب إجابة، فإذا فُتِح لأحدكم باب دعاء فليجهد، فإن الله لا يملُّ حتى تَمُلُوا » .
وقال (ص) أيضًا: « الدعاء مخُّ العبادة، وما من مؤمنٍ يدعو الله إلا استجاب له، إمّا أن يُعجّل له في الدنيا أو يؤجّل له في الآخرة، وإمّا أن يُكفِّر عنه من ذنوبه بقدر ما دعا ما لم يدعُ بمأثم ».
وقال الصادق (ع): « إنّ المؤمن ليدعو الله عز وجلّ في حاجته فيقول الله عزّ وجل: أخّروا إجابته شوقًا إلى صوته ودعائه، فإذا كان يوم القيامة قال الله عزّ وجل: عبدي دعوتني فأخّرتُ إجابتك وثوابك كذا وكذا، ودعوتني في كذا وكذا فأخّرت إجابتك وثوابك كذا وكذا.
قال: فيتمنّى المؤمن أنّه لم يستجب له دعوة في الدنيا مما يرى من حُسن الثواب ».
والكلام حول إجابة الدعاء بابٌ واسعٌ لا نخوض فيه، لخروجه عن مقصد هذا المقال.
الأدب الثالث: أن ييأس العبدُ مما في أيدي الناس، وأن لا يكون يقينه في قضاء حاجته بهم، ويتوجّه كل التوجّه في قضائها إلى ربِّه سبحانه، فهو مسبب كل الأسباب والقادر على كل شيء، والنّاس أجمع عياله ولا سلطان لهم من دونه.
وهذا أدبٌ جليل عظيمٌ راجعٌ لمدى معرفة الإنسان القلبية بالله سبحانه.
فعن أبي عبدالله (ع): « إذا أراد أحدكم أن لا يسأل ربه شيئًا إلا أعطاه فلييأس من النّاس كلهم، ولا يكون له رجاء إلا من عند الله، فإذا علم الله ذلك من قلبه لم يسأل الله شيئًا إلا أعطاه ».
الأدب الرابع: أن يعرف مقامه أمام الرب الجليل العظيم، وأن يتوجّه إلى افتقاره وفاقته وضعفه أمامه سبحانه، فكثيرًا ما يغفل الإنسان عن ذلك رغم واقعية الأمر وحقيقته، فقد ورد في الحديث الشريف: « إنّ رسول الله (ص) كان يرفع يديه إذا ابتهل، ودعا كما يَسْتطعم المسكين ».
أمّا الآداب المتعلقة بنفس لفظ الدعاء وكيفية أدائه:
القسم الأول: الآداب المتعلقة بألفاظ الدعاء:
لابدَّ أن ينتقي الداعي ألفاظ دعائه جيدًا، وعليه أن يقدِّم بالمقدمات المناسبة واللائقة بالحضرة المقدسة قبل طلب حاجته، وهو أمرٌ يلتزم به أيُّ عاقلٍ تجاه أي عاقلٍ آخر فكيف إذا كان المتوجه إليه هو الله عز وجل؟!
فيبدأ بالتمجيد والثناء، وما فيه رضا الرب من الصلاة على النبي وآله، والاعتراف بالتقصير والذنب والحاجة والافتقار، ثم يطلب حاجته، ثم يختمُ دعاءه بالصفات الإلهية التي يتوسل بها إلى الله سبحانه والملائمة لحاجته، ويصلي على النبي وآله.
عن الصادق (ع): « إذا طلب أحدكم الحاجة فليُثْنِ على الله سبحانه وليمدحه، فإنّ الرجل إذا طلب الحاجة من السلطان هيّأ له من الكلام أحسن ما يقدر عليه، فإذا طلبتم الحاجة فمجّدوا الله العزيز الجبّار وامدحوه وأثنوا عليه … الحديث » .
وعن الحارث بن المغيرة قال: سمعت أبا عبدالله (ع) يقول: « إيّاكم إذا أراد أحدكم أن يسأل من ربه شيئًا من حوائج الدنيا والآخرة حتى يبدأ بالثناء على الله عزّ وجل والمدح له والصلاة على النبي (ص) ثم يسأل الله حوائجه ».
وقال الصادق (ع): « مَنْ كانت له حاجة إلى الله عزّ وجل فليبدأ بالصلاة على محمد وآل محمد، ثمّ يسأل الله حاجته، ثم يختم بالصلاة على محمد وآله، فإنّ الله عزّ وجلّ أكرم من أن يقبل الطرفين ويدع الوسط، إذا كانت الصلاة على محمد وآل محمد لا تحجب عنه».
ومن المندوب أن يتوسل إلى الله سبحانه بالخلق الذين يحبهم وهم الرسول (ص) والأئمة الأطهار، بل هو أدبٌ عظيمٌ أرشد إليه الحديث الشريف، فعن سلمان الفارسي قال: سمعتُ محمدًا (ص) يقول: « إنّ الله عزّ وجل يقول: يا عبادي أوليسَ مَنْ له حوائج كبار لا تجودون بها إلا أن يتحمّل عليكم بأحبِّ الخلق إليكم تقضونها كرامةً لشفيعهم؟
ألا فاعلموا أنّ أكرم الخلق عليّ وأفضلهم لديّ محمد وأخوه علي ومَنْ بعده الأئمة الذين هم الوسائل إلى الله، ألا فليدعنّ من همّته حاجة يريد نفعها أو دهَمتْهُ داهية يريد كشف ضرّها بمحمد وآله الطيبين الطاهرين أقضها له أحسن ما يقضيها من تستشفعون له بأعزّ الخلق إليه».
والأفضل للداعي أن لا يدعو بدعواتٍ من تقديراته العقلية واختياراته لألفاظ الدعاء، لأنّه قد يخالف الأدب مع الله سبحانه، وعليه بأن يتجنّب كل التجنب عن اختراعِ دعاءٍ من عنده يدعو به، فهو من الأمور المرغوب عنها شرعًا.
وليس هناك أفضل من أن يدعو الداعي بدعواتٍ نطق بها آدم أو إبراهيم أو الخضر أو الرسول أو الأئمة الأطهار (عليهم أفضل الصلاة والسلام)، فالدعاء المأثور سندٌ للداعي عند ربِّه، فهو كلامٌ يتوفّر على كل شروط الإجابة، ويتوفّر على كل الآداب اللازمة.
فأعلى الدعوات هي الدعوات التي سمعتْها الملائكة من لسان الأنفس الزكيّة والطاهرة، فهي ألفاظٌ شريفةٌ ومضمونة ومعلومٌ رضا الله بها، وإجابة مَنْ دعا بها ممّن أُثِر عنه.
القسم الثاني: الآداب المتعلقة بكيفية الدعاء:
بعد أن يختار العبد ما يدعو به عليه أن يتأدّب في كيفية دعائه، فعليه أن لا يستعجل في دعائه، وأن لا يلحن فيه، وأن يُعرب الكلام، فما يليق بالله سبحانه هو ذلك، وليس ما هو دونه.
فعن أبي جعفر الجواد (ع): « ما استوى رجلان في حسب ودين قط إلا كان أفضلهما عند الله عز وجل آدبهما، قال: قلت: جعلت فداك، قد عرفت فضله عند الناس في النادي والمجالس، فما فضله عند الله عز وجل؟
قال: بقراءة القرآن كما أُنزل، ودعائه الله عز وجل من حيث لا يلحن، وذلك أنّ الدعاء الملحون لا يصعد إلى الله عز وجل» .
قال ابن الأثير: اللحن الميل عن جهة الاستقامة، يُقال لَحَن فلانٌ في كلامه إذا مال عن صحيح المنطق. اهـ
ويطلق اللحن ويُراد به الخطأ في الإعراب.
وقد يكون من الأدب التباكي إنْ لم يتمكن من البكاء خضوعًا وتذللاً لله سبحانه، فعن سعد بن يسار قال: قلت لأبي عبدالله (ع): « إنّي أتباكى في الدعاء وليس لي بكاء؟ قال: نعم، ولو مثل رأس الذباب».
الخاتمة: قد وردت أخبار كثيرة عن الأئمة الأطهار (ع) حول الدعاء وآدابه وإجابته بما لا يسعها المقام، وحقيقٌ بالمؤمن أن يتأمّل فيما أوردناه من أحاديث وغيرها لضرورة وأهمية الدعاء، خصوصًا بعد ما عرفت من أنّه العبادة التي لو استكبر عنها أحد لكان في جهنم من الداخرين، وأنه ما من قربى يتقرب بها العبد كالدعاء.
نسأل الله تعالى أن يجعلنا من الدعّائين كما كان أمير المؤمنين (ع)، والحمدلله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الخلق والمرسلين محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين.
مهدي صالح آل جواد الجمري
16 من المحرَّم 1440 للهجرة
بني جمرة – البحرين