سفيرٌ فوق العادة هو مصطلح لتصنيف بروتوكولي.. وقد فرَّق المتخصصون بينه وبين السفير العادي فقالوا: “يتحدد الفرق الوحيد بين السفير فوق العادة والسفير العادي في كون الأخير يؤدي غرضاً محدداً، بينما الأول يتمتع بصلاحيات واسعة وموسعة، وله من الصلاحيات ما يؤهله لإبرام الاتفاقيات وإعطاء العهود والعقود”.
الحكمة في التشخيص:
إنَّ من الحكمةِ المقدرة على التشخيص في مجمل الظروف، والذي سوف يبنى عليه اتخاذ القرارات الصائبة ووضع الخطط الصحية وتحديد المسارات المختلفة لبلوغ الأهداف المرجوة، وإنَّ من ضمن أهم القرارات التي تعتمد على التشخيص الدقيق النابع من الحكمة العالية قرار أختيار (الرجل المناسب في المكان المناسب).
وقد كان الحسين (عليه السلام) رجل الحرب والسلم، الإمامَ المعصومَ القادرَ المتمكنَ من التشخيص للحالة المعقدة في مدينة الكوفة والتي تمتاز بتعدد الديانات والأعراق، فقد كانت تلك المدينة خليط من القوميات، ففيها الفرس، اليهود، الأقباط، الأتراك والعرب، وقد كانت تحتضن العديد من الديانات كاليهودية، المجوسية، النصرانية، والإسلام وغير ذلك، كما كانت تحوي من القبائل العديد. ذلك وغيره مما عقد المشهد في الكوفة والذي أستوجب من الحسين (عليه السلام) بعدما وصلته كتبهم بأن “أقدم علينا…” أن يختار سفيرًا فوق العادة لمدينة فوق العادة.
الرجل المناسب في المكان المناسب
مسلم بن عقيل بن أبي طالب (عليهم السلام) هو ذاك الرجل المناسب للمكان المناسب؛ فقد أختاره الحسين ثقة منه في قدرته على إدارة مجتمع كمجتمع الكوفة بخصائصه وقومياته وأعراقه وما تمثله من موقعية تاريخية وإسلامية في ذاك الزمان وما قبله. هي مدينة يعلم الحسين (عليه السلام) أنَّ ما فيها من الخليط السكاني لا يرسو على رأي ولا يثبت على كلمة إلا بإدارة حزمٍ، وقوةِ بأسٍ، وحكمةِ علمٍ، وبحاجةٍ لرجلٍ يعرف كل ذلك وأكثر عن هذه المدينة، وكان هو مسلم بن عقيل ذاك الرجل ثقة الحسين والمفضل لديه لتلك المهمة الصعبة والمعقدة.
خلق الأجواء وتهيئة الظروف
خَلْقُ الأجواءِ وتهيئةُ الظروف لهي من أهم المراحل لأي هدف ولأي مشروع.
دخل مسلم بن عقيل الكوفة وقد كانت تموج بالفتن، وقد استطاع أن يوحدهم على رأي واحد في وقت قياسي، وصالح بين القبائل وأرسى الدعائم لجيش عظيم، ثُمَّ كاتَبَ الحسين عليه بأن “أقدم فقد أينعت الثمار…”، فثَبَّتَ صلاة الجماعة وأخذ البيعة في المسجد للحسين (عليه السلام)، وكانت مواعظه النورانية هدفاً لخلق أجواء إيمانية كانت هدفاً لتهيئة الأجواء للنهضة المباركة، نهضةِ الحسين (عليه السلام)، وكان دليلاً على حكمة المرسِل والمرسَل.
ثبات ونفاذ بصيرة وإيمان وطاعة مطلقة
كان مسلم بن عقيل (عليه السلام) عالماً بمقام مولاه الإمام الحسين (عليه السلام) مما جعله أن يضع الحسين (عليه السلام) إمامه ومحور تحركاته في كل صغيرة وكبير ومحور المتغيرات كيفما كانت، وكان نفاذُ بصيرتِهِ وقوةُ إيمانِهِ هما اللذان جعلاه أمةً كاملةً، وقد حزم أمره وجعل هدفه رضى الله سبحانه وتعالى وإطاعة إمام زمانه في جميع خطواته وحساباته وإدارته لمدينة الكوفة، إلى أن ماجت الكوفة بأهلها وحيكت المؤامرت من الشام وضَرَبَ فيها أصحابُ الفتنة سهمهم، وقد جرى ما جرى على مسلم بن عقيل (عليه السلام) بعد ذلك، ولكنه بقي ثابتاً على عهده راسخاً في عقيدته شديد البأس في صبره.
الصبر والاستقامة على المبادئ
إن من أجلى الصور على الاستقامة والثبات على المبادئ ما صورها سفيرُ الحسينِ (عليه السلام) مسلمُ بنُ عقيل (عليه السلام) حينما خذله أهل الكوفة وأصبح وحيداً لا ناصر له فيها ولا معين، ولكنه بقي ثابتاً على أنَّ رضى الله هو محور تحركاته، فلا يخشى في الله لومة لائم وإن بقي وحده في ساحات الصراع بين الحق والباطل، فقد أختار الحق وهو الذي تربى في بيت الفضيلة والشجاعة والنبوة والإمامة. لم يكن همُّ مسلمٍ إلَّا أمرين، الأول رضى الله سبحانه وتعالى، والثاني سلامة الحسين (عليه السلام) من الغدر والخديعة والخذلان.
دخل مسلم بن عقيل على الطاغية بهامةٍ شامخةٍ، وعِزَّةٍ وأنفةٍ، وقالها في وجهه: أنا مع الحق في قبال الباطل.
قال ذلك والسيف مسلط على رقبته ولم يهن ولم ينكل، بل بقي ثابتاً صابراً محتسباً حتَّى لاقى الله شهيداً سفيراً، بَلَّغَ ما أُرسل به، ضارباً أروع أمثلة الصبر والثبات على المبادئ مهما كانت الظروف.
فسلام على أمة في رجل.. مدرسةِ التسليم لله ولرسوله ولإمامه.. ملحمةٍ في الصبر والإستقامة والفضل والفضيلة.. اسمه مسلم بن عقيل بن أبي طالب (عليهم السلام)، فلنتعلم من هذه المدرسة العظيمة.
والحمد لله رب العالمين
طلال عبد الحميد الجمري
4 من المحرَّم 1440 للهجرة