هنالك ظاهرةٌ منتشرةٌ بشكلٍ كبيرٍ في مواقع وتطبيقات التواصل الاجتماعي، وهي اختصار الكلمات والعبارات لأحرف، فنعبّر عن كلمةٍ بحرفٍ أو جملةٍ تتكوّن من كلمتين مثلًا بحرفين وهكذا، فنقول: (س ع)، ونقصد بها: (السلام عليكم)، ويبدو هذا غير مستغربٍ للوهلة الأولى في عصرٍ تُعدُّ السرعةُ سمتَه الأولى أو واحدةً من أبرز سماته.
للألفاظ وجودٌ حقيقي كما يرى البعض وعلى أقل تقديرٍ لها وجودٌ اعتباريٌ كما يرى آخرون، لكن هذا الوجود الذي نشأ من الوضع والجعل كما يقولون حقَّق عُلقةً بين اللفظ والمعنى فجعلهما كأنهما شيئًا واحدًا، فكلَّما حضر اللفظ حضر المعنى عند العارف بذلك، هذا في مقام التخاطب، بل هو في مقام تفكّر وتدبّر الإنسان بينه وبين نفسه كذلك، فلشدة العلاقة -بين اللفظ والمعنى- التي تقترب من الاتّحاد، فهو يفكِّر عن طريق الألفاظ ليصل للمعاني، بل قد نقول أن التفكير عن طريق الألفاظ أفضل لما يستوعبه المُدرِك من حيثياتٍ محيطةٍ باللفظ كما لو كان منقولًا أو مرّ بمراحل توسَّعَ أو تضيّق فيها مدلوله.
ثمّ أن الوجود الكتبي، وهو عبارة عن الخطوط والنقوش التي تدلّ على الألفاظ، التي بدورها تدلّ على المعاني، لا تقل أهميةً عن نفس الألفاظ، فهي وجودٌ آخر لها وللمعنى الذي تدل عليه، احتاجها الإنسان في تعامله أيضًا للدلالة على ما يريد سواء للحاضر أم الغائب عنه الآنَ أم من سيأتي في المستقبل.
إذا كانت العلاقة بين الوجودين الكتبي واللفظي مع المعنى بهذه القوة، فمن الواضح ضرورة الاهتمام بهما، خصوصًا وأنهما يمثِّلان السبيل المعتاد والأكثر استعمالًا لتصوّر المعاني لدى المدرِك، ولا شكّ ولا ريبّ أن كلّ متحدثٍ حكيم فهو يريد أن يبين عن مكنون نفسه كأفضل ما يكون البيان والتعبير، ومن الواضح أن التعبير باللفظ الصحيح والهيئة الصحيحة هو ما يجعل المعنى أكثر قابليةً للتصور عند المتلقي، لذلك فإن الحكمة تقتضي استعمال الألفاظ والنقوش كما هي لا اختصارها دون سببٍ واقعيٍّ صحيح.
المشكلة التي نعانيها أننا في عصرٍ يتسم بالسرعة كما قلنا بل بالعجلة غير المبرَّرة، فدخلت مسألة اختصار الكلمة إلى حرفٍ في عالمنا، خصوصًا مع ملاحظة ما للّغة العربية من خصوصيات، حيث نجد أن القرآن الكريم نزل بها، وأشار لذلك في عديد الآيات.
قال تعالى: (بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ)[الشعراء/١٩٥]. لست في وارد الحديث عن اللغة العربية هنا، لكن انظر لكلمة مبين في هذه الآية الشريفة..
ممّا نغفل عنه وهو في بالغ الأهمية، أن هذه الحروف وُضعت على هيئةٍ معيَّنةٍ لتحقّق معنى معين، لا يصح أن يكون إلا عنها، فيترتّب عليها تصور المعنى بكلّ آثاره، فالإخلال بها يُخلّ بالمعنى وما يحيط به، فبالتالي يتسبب ذلك بالكثير من التشوهات الثقافية التي لا تكون واضحةً بداية، بل يُساهم في خلق أزماتٍ أدبيَّة، بالربط مع ما قلنا من أننا في عصر العجلة، فنفقد صفة التريّث والصبر والهدوء والاستقرار، كما تكون المعاني التي نُريدها مبهمةً في الكثير من الأحيان.
لك أن تتصوَّر أن الأجيال القادمة تتربّى على ذلك وعلى غيره مما يمس اللغة من إخلالٍ في الحروف والحركات والهيئات وما إلى ذلك.
محمود سهلان
١ محرم الحرام ١٤٤٠هـ
١١ سبتمبر ٢٠١٨م
2 تعليقات
أحسنتم. أختلف معكم جذريًا؛ ذلك أن من يختصر يستند على مواضعة بينه وبين المتلقي في دلالة الرمز على المعنى، فهي مواضعة فرعية لأخرى متجذرة في النفس، ومن ثم فما قررتموه من تأصيل لهو وارد على غير محل.
أما الآثار السلبية للاختصار، فهي واردة على الاختصار نفسه ولها كلام مستقل مغاير عن هذا التأصيل.
أرجو أنني فهمت مداخلتكم جيدا..
س: لماذا ترى أن التأصيل في غير محل؟
حتى لو كانت هناك مواضعة فلا يعني ذلك صحة الفعل، فالآثار السلبية مترتبة خصوصًا النفسية منها، مع تأكيدي على أن المواضعة التي قلتم بها غير متحققة في كثير من الأحيان، واستعمال الاختصارات راجعة لنفس من استعملها دون مراعاة للآخرين أحيانا.
س: أليس الاختصار خروج عن الوجود الكتبي؟
ملاحظة: إن لم تكن هناك علاقة ذاتية بين الألفاظ والمعاني وهو أمر مختلف فيه، فهي متحققة في الهيئات كما أرى، فالخروج عنها يحدث خللا دون شك.