يتحمّل الأبوان مسؤوليةً عظيمةً في تربية أطفالهم، حيث ينبغي لهما أن يربّوهم ويؤدّبوهم بالطرق الصحيحة التي تؤدي لنتائج صحيحة سليمة بتوفيقٍ من الله تعالى، كي يَخرجوا للمجتمع أبناء أكفّاء قادرين على تحمّل متطلبات الحياة والقيام بمسؤولياتهم تجاه المجتمع والشريعة الحقّة.
من هنا لزم أن تكون خطوات الأبوين مدروسةً ومرسومةً بالشكل الصحيح، بالنظر إلى النتائج التي يُراد الوصول إليها، خصوصًا في ظلّ الصعوبات التي نواجهها اليوم من كلّ الجهات، وفي ظل هذا الانفتاح الرهيب الذي أثّر كثيرًا على كلّ جوانب الحياة، والذي يعيش أطفالنا في لبّه حيث لا يمكن أن يَتجاهل الكبار في العالم النتائج الاقتصادية والأرباح المهولة عن طريق سُوق الأطفال، ويكفي في ذلك الإشارة للأجهزة الإلكترونية المتنقّلة، وما فيها من مخاطر عصيّة على الإحصاء.
شخصية المؤمن لها ثلاثة أبعادٍ رئيسيةٍ لا يصح تجاهلها أبدا، فضعف أحدها أو الانحراف عنها يعني شخصيةً على غير ما أراده الخالق تعالى، وهي: البعد العقائدي، والبعد الأخلاقي، والبعد الفقهي (الأحكام الشرعية). هذه الأبعاد الثلاثة لا ينبغي بأيِّ حالٍ من الأحوال أن يتجاهلها الآباء، في بناء أنفسهم وأبنائهم كذلك.
هل ينبغي تقديم أحدها على الآخر في العملية التربوية؟
أتصور أن البناء يحتاج لأساسٍ قويٍّ، والأساس هنا هو العقيدة، لكن في مقام الجواب على السؤال أرى أننا لا ينبغي أن نقدّم شيئًا على غيره في السنوات الأولى على الأقل، خصوصًا فيما يتعلق ببعدي العقيدة والفقه، وهذا لعلةٍ قد تتضح في الفقرات القادمة من المقال. فما نحتاجه هو العمل على الأبعاد الثلاثة بشكلٍ عرضي مع بعضها، ومع كلّ بُعدٍ بشكلٍ طولي كذلك، أي نعمل على تربية الأبناء على الأبعاد الثلاثة معًا بحسب المرحلة العمرية التي بلغوها وبحسب قدراتهم على الاستيعاب، خصوصًا في بعض المسائل العميقة التي تحتاج إلى التدرّج بحسب مستويات الفهم.
المشكلة التي أودّ طرحها هي مسألة الاقتناع، حيث أن هناك ظاهرة تقول أنني لا ألزم أبنائي على شيءٍ وأتركهم حتى يقتنعوا، وكثيرًا ما تحصل مثل هذه الحالة في مسألة حجاب الفتاة، فتجد بعض الفتيات تجاوزنَ سنّ البلوغ ولم يلتزمنَ بعدُ بالحجاب الشرعي، وعندما تسأل الآباء والأمهات تجد الجواب أننا تركناهنَّ حتى يقتنعنَ بالحجاب، أو بغيره ممّا فرضه الله تعالى كالصلاة، والحال أنّ الكثير من الأعمال ينبغي الالتزام بها سواء اقتنعنا أم لا في بادئ الأمر.
نسأل الآباء والأمهات: هل تصلّي عن قناعتك بالصلاة؟ وهل تطوف حول الكعبة المشرفة عن قناعة؟ هل تصوم ممتنعًا عمّا كان مباحًا لك من الفجر حتى الغروب عن اقتناعٍ منك؟
هذه التساؤلات وغيرها كثير، مع قليلٍ من الهدوء يكون جوابها نعم، وذلك بالبناء على البعد العقائدي، على وحدانية الله، على حكمته، على قاعدة اللطف، على عدل الله، فإيمان الإنسان وعقله يقوده للامتثال للمولى بالرجوع للبناء العقائدي، فليست المسألة خاليةً من العقلانية والعقلائية والاقتناع، لكنها ليست من نفس الفعل بل في مقام أعمق منه، ولعله يكون من أبواب التسليم لله التي أُمرنا بها.
في الشريعة الحقّة هناك أوامر كثيرة بالتأديب على عدّة أمور، من أهمها الصلاة الذي وصل الحال فيها للأمر بالضرب بمستوى معينٍ في بعض المراحل، فليست الصلاة من الأفعال التي تُترك للاقتناع، والحجاب كذلك، وغيرها من الضروريات، فلا أراك -أيّها المؤمن- تنظر لابنك وهو يشرب الخمر ويتعاطى المخدّرات والعياذ بالله وأنت تنتظره يقتنع بحرمتها وأضرارها! بل نجد أن بعض الآباء يكادُ يُصاب بالجنون لو اختار ابنه تخصّصًا دراسيًا معينًا غير ما يريده هو، أو اختار ترك الدراسة في سنٍّ ما والتوجه لأمر آخر كالعمل أو ما شابه! لكنه لا يجد في نفسه حرجًا ودافعًا للتعامل مع ابنه الذي لا يصلّي ولا يصوم، ومع ابنته التي تبدي زينتها، وكلّه لعدم اقتناعهم!!
مسألة في غاية الخطورة ينبغي الالتفات إليها جيدا، خصوصًا مع ما يحيط بالأبناء من مخاطرَ لا تحصى، فبعد أن كان الابن يعيش أغلب أوقاته مع أبويه وأقاربه، صار الأمر معاكسًا، فيقضي أغلب وقته مع غيرهم، أعني المدارس والمعاهد والجامعات، وأعني التلفاز والأجهزة الإلكترونية وغيرها، فتزداد الحاجة إلى مداراة الأطفال وتأديبهم ومراعاة أحوالهم.
اختصارًا: هناك أمورٌ ينبغي منح الأطفال الفرصة فيها حتى يقتنعوا بها، وهنالك أمورٌ لا مجال فيها لذلك ولا مجال لتأخيرها أيضًا، فانظروا ما أنتم صانعون..
همسةٌ: العادة سواء كانت سيئةً أو حسنةً يصعب التخلّص منها فيما بعد.
محمود سهلان
٢٧ ذو الحجة ١٤٣٩هـ
٧ سبتمبر ٢٠١٨م