لسنا طارئين، فلِمَ المبالغة في الاستيراد؟ ll مقال للأستاذ صادق جعفر

بواسطة Admin
0 تعليق
مقالات عاشوراء
لكل مجتمع من المجتمعات عبر التاريخ هوية يعرف بها، تشكل كيانه وتشد خيوط نسيجهِ وتصوغ فِكرَهُ بشكل يميزه عن بقية المجتمعات الأخرى، حافظةً له من أي عارضٍ يعرضُ عليه أو شائبٍ يشوبه؛ ليتفرد بصفاتٍ أصيلةٍ تختلفُ عن صفاتِ غيره من الجماعات. وإنه بمقدار وعي أفراد هذا المجتمع وثقتهم بثوابتهم عبر التاريخ؛ تستمرُ هذه الأصالةُ وتصان الهوية من أي عبثٍ أو تداخلاتٍ تتسرب له من مجتمعاتٍ أخرى.
إن التطور والانفتاح على دول مختلفة وثقافاتٍ متعددةٍ، إضافة إلى فكرة أن يكون العالمُ قرية صغيرة سهّل عملية استيراد الأفكار والهوّيات المجتمعية المعلبةِ من هنا وهناك ثم قولبتها في قوالب تتماشى بشكل أو بآخر مع مجتمعنا. فصار البعض يبحث عن لهجةٍ مغايرةٍ للهجته (البحرانية) على سبيل المثال ناظراً إلى أنها أقل وأدنى من غيرها من اللهجات، بل يحاول الابتعاد حتى عن محيطهِ (الأدنى بنظره) من بقية الجماعات حوله، فينسلخُ تدريجياً وقدر المستطاع من أصله وهويته، ثم لا يلبثُ أن يكتشف أنهُ كذلك الغراب الذي حاول أن يقلّد مشي الحَمام؛ لظنّه أنها أرقى منه، فلم يكن ليدرك مشيها، بل وقد نسي كيف كان يمشي.
إن التنوع الكبير في الشعائر الحسينية وفي المواكب العزائية في كل عام يعطي زخماً هائلاً لموسم عاشوراء، زخماً لا يمكن لأحد أن يختلف في حجمهِ البتة، حيثُ يشمل ذلك التنوع إضافة للمواكب العزائية التقليدية، شعائراً وممارساتٍ تم اقتباسها من مجتمعاتٍ شيعيةٍ أخرى، كإيران وباكستان والهند وغيرها، وممارساتٍ أخرى اقتُبست من المجتمعات المدنية الغربية بدعوى التمدن والإنسانية وغيرها.
غير أن استنساخ بعض تلك الممارسات الشعائرية من مجتمعاتٍ لها هويتها الأصيلة، الثابتة والراسخة والتي تحافظ عليها بكل قوتها، واستيراد أطوارٍ ونماذج عزائيةٍ معينةٍ أدى ومع الأسف الشديد وساهم بشكل كبير في التأثير على أصالة العزاء (البحراني) وأفقدَهُ طابعه وطمس هويته التي لطالما رنا إليها مختلف المجتمعات الشيعية.
قد يقول قائل: ليس مهماً أن يكون للعزاء هوية بحرانية ما دام الإحياءُ قوي ومستمر كما ترى وتذكر. وأقول: ما الضير أن يكون الإحياءُ قوي ومجلجلٌ بطابع بحراني وهويةٍ أصيلةٍ يسعى الآخرون لاقتباسها منّا، وليس العكس؟
إنني لستُ أدعو إلى نبذ كلّ ممارساتٍ ليست من صميم هوية مجتمعنا، ولكنني أرى أنك بقدر ما تكونُ محترِماً لذاتك ومحافظاً على أصالتك، يحترمُكَ الآخرون ويسعون للسير على خطاك، وبقدر ما تشعرُ بالنقص، وتسعى لاستيراد ما عند الآخر من ثقافاتٍ وممارساتٍ وإن كانت في نفسها مباحة وسليمة تكون مهلهلاً ورخواً، وتحمل هوية مشوهة حتى تكتشف في نهاية المطاف أنك -ومع شديد الأسف- دون هوية، تتقاذفك رياح الثقافات يمنة ويسرى.
صادق جعفر
26 ن ذي الحجَّة 1439 للهجرة
بني جمرة – البحرين

مقالات مشابهة

اترك تعليق


The reCAPTCHA verification period has expired. Please reload the page.