مقالات عاشوراء
إن الإنسان في هذه الدنيا معرَّضٌ للابتلاء والاختبار دائما، فنحن فيها عابروا سبيلٍ نحو الخلود، فإما إلى الجنَّة والنعيم وإما إلى النار والجحيم والعياذ بالله، لذلك اقتضت الحكمة والعدل أن يمرَّ كلُّ فردٍ باختبار في هذه الدنيا ينتقل على إثره إلى دار القرار، يتحدّد من خلاله مصيره ودرجته عند الله تعالى في يوم القيامة.
كلما زاد إيمان العبد عليه أن يتوقَّع المزيد من الاختبارات والابتلاءات، ليثبت على إيمانه من جهةٍ ويكون مستحقًّا للجنة، وليرتقي في إيمانه من جهةٍ أخرى ويترقَّى في درجات الجنة، فلكل نفسٍ ما سعت، وليس بين الله تعالى وأحدٍ من نسب.
الأنبياء والأوصياء والأولياء لم يكونوا استثناءً من هذا، بل تعرضوا لما لم يتعرَّض له غيرهم من الخلق، فهذا إبراهيم (ع) يؤمَر بذبح ابنه، وهذا موسى يتربى في قصر عدوه، وهذا هو خير خلق الله محمد (ص) يُشتم ويتَّهم ويضرب حتى قال: ما أوذي نبي بمثل ما أوذيت.
الإمام الحسين (ع) وارث الأنبياء وسبط خير خلق الله، له درجةٌ يوم القيامة لا ينالها إلا بالشهادة، وأيّ شهادة هي تلك الشهادة، حيث أن القداسة كلَّ القداسة تُرمى بالحجارة والنبال، وتضرب بالرماح والسيوف، وكأني به لم يكترث لذلك وظلَّ ذهنه مشغولًا بالمخيمات فقط، إذ لا حامي بعده، ثمّ بعد سقوطه على حرّ الصعيد يُقطع رأسه وتدوسه الخيول بحوافرها حتى تتكسَّر وتطحن ضلوعه..
هذا وقد رأى بأم عينيه ما جرى على أصحابه وأهله وأبنائه، وهو يعلم ما يجري على نسائه وعياله من بعده، وكلّ هذا لم يثنه عن طريق الحق طرفة عين، وأكثر من ذلك نجد أخته أم المصائب زينب (ع)، قالت وهي واقفة على جسد أخيها: اللهم تقبَّل منّا هذا القربان. بل وقفت بكلّ شموخٍ وصلابة في وجه عدوها عندما سألها: كيف رأيت صنع الله بأخيك؟ فأجابته: ما رأيت إلا جميلا.
إلا أن هناك موقفًا كان جزءً من سلسلة من مواقف الثبات على الحق، وهو قول علي الأكبر (ع) لأبيه الحسين عندما نُعيت لهم أنفسهم: ألسنا على الحق؟.. قال: بلى، والله الذي مرجع العباد إليه، فقال: فإننا إذًا لا نبالي أن نموت محقّين.
هذا الموقف وهذه العبارة الخالدة عبارةٌ عن درسٍ من أرفع الدروس التي رسمت على خطِّ كربلاء، كيف لا وأنت ترى شابًّا في مقتبل العمر تُنعى إليه نفسه ونفس أبيه وأهله وأصحابه لكنه يقول لا نبالي؟! لا يبالي بالموت، ولكن بشرط أنه على الحق، فحقٌّ على كلّ إنسان أن يتخذ هذا المنهج سبيلًا ومنهاجا، فلا يوجد شيءٌ أهمُّ وأولى بالتضحية من الحقِّ الذي أراده الله تعالى، لذلك نجد هذا الشاب الذي هو أشبه الخلق برسول الله خَلقًا وخُلقًا ومنطقًا يمشي بقدميه للموت من أجله، بل ومن هو أكرم منه وأعلى مرتبة وهو الحسين (ع)، وقد سبقه عمه الحسن (ع) وجده أمير المؤمنين (ع)، بل وخيرُ خلق الله جدّه رسول الله (ص).
هؤلاء قوم ابتلاهم الله أعظم البلاء ليرى إن كانوا يثبتون على الحقّ أم يستوحشوا طريقه، وثبتوا على ذلك، لأن الحقَّ عزيز، ولأنهم وجدوه الطريق الصحيح الذي ينبغي اتباعه فلم يتوانوا في ذلك، حتى لو كان ثمنه أرواحهم صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
إذن هناك حقٌّ أراده الله تعالى، وأراد من كلِّ إنسانٍ أن يلتزم به، ولعمري فإن المؤمن أولى من غيره بذلك، خصوصًا مع وجود القدوة المعصومة، والتي أهدت كلَّ ما تملك لهذا الحق حتى الأرواح، وستجد ما قدَّمت غدًا حاضرًا عند الله تعالى.
الابتلاءات التي نتعرَّض لها ليست كما تعرَّض له الحسين (ع) لكنه ثبت، لكننا اليوم نضعف عن أبسط الأمور التي أرادها الحق تعالى، فهذا يتوانى عن أداء الصلاة، ولا يغضّ بصره عن المحارم، وتلك لا تحافظ على سترها، بل وتتفاخر بإظهار زينتها، نعم نرتكب المعاصي ونتخلَّف عن أداء الواجبات، وهذا يدل على أننا لم نتلقّ الدرس كما ينبغي أن يكون.
هذا شهر محرم قد أقبل وفي جعبته العديد من الدروس، وما طرحتُه -في هذه المقالة- أجد أنه من أهم الدروس التي ينبغي الأخذ بها والامتثال لهافي كلِّ آنٍ من أعمارنا. ولا يتعذَّر متعذرٌ بشدة البلاء وصعوبة الاختبار فكلنا نواجه شيئًا منها إلا أن ما تعرّض له الأنبياء والأوصياء والأولياء لا يُقاس به شيء.
قال تعالى: (قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)[الأنعام/١٦٢]، هذا هو الحق الذي ينبغي أن نتَّبعه ونضحي من أجله بكلِّ ما نملك، وبالطريقة التي يرتضيها الله تعالى.
محمود سهلان
٢٤ ذو الحجة ١٤٣٩هـ
٥ سبتمبر ٢٠١٨م
قرية العكر – البحرين