المؤمن المكلف إذا لم يكن مجتهدًا -قادرًا على استنباط الأحكام الشرعية- وجبَ عليه أن يقلّد الفقيه الجامع للشرائط أو العمل بالاحتياط من بين آراء مجموعة من الفقهاء، ولا يخفى صعوبة ذلك وحاجته لكثرة مطالعة المسائل الشرعية وفهمها جيدا، ويبدو الأمر غير متيسر للغالبية من المؤمنين.
العمل وفق رأي الفقيه الجامع للشرائط مجزئٌ ومبرئٌ للذمة بإذن الله تعالى، لكنني أستقرب أمرًا ما، لا يكاد يفارق تفكيري منذ مدةٍ ليست بالقصيرة، وهو في حال ما لو كنتَ عالمًا بشهرة رأيٍ ما بين العلماء المعاصرين على أقل تقدير يوافق الاحتياط، لكن المرجع الذي تقلده له رأيٌ آخر، كأن يكون المشهور على الحرمة بينما رأيه على الكراهة، فهل يصح ترك الاحتياط في هذه الحالة أم لا؟ وترك الاحتياط هنا لا على أساس أنّه حكمٌ شرعيٌ أعاقب عليه لكنه من جهةٍ عقلائية.
بالإضافة إلى ما سبق أقول أنني أستقرب أيضًا ضرورة مراعاة الأجواء العامة للمجتمع الذي أعيش فيه، فلو كانت الفتوى على جواز اللعب بلعبةٍ معينة، لكن أجواء المجتمع لا تقبل بهذه اللعبة، وتستهجن وتستنكر على من يلعبها، فمن الأفضلِ الاحتياط وترك اللعب مراعاةً لحال المجتمع، وحفاظًا على الأعراف الملتزمة، خصوصًا عندما يكون رأي الإباحة غريبًا بين آراءٍ كثيرةٍ جدًّا تقول بالحرمة.
من جهةٍ أخرى ينبغي ملاحظة أنّ الحكم الشرعي لا يعطي إلا أقل المراتب التي ينبغي الالتزام بها، والمجال مفتوحٌ على المستويات الأخرى، ومن ذلك ما يكون على مستوى الأخلاق والآداب العامة، وما يكون أنسب لحالِ المؤمن مراعاةً للورع والتقوى والزهد، وخيرها من الرتب والمستويات، والتي بلغت عند بعض الفضلاء لحدِّ ترك بعض المباحات أو إدخال نيّة التّقرب لله تعالى عن طريقها.
أرى أنه من العقل أنْ يراعي المؤمن حالَه الشخصي وحالَ محيطه كذلك، فلا يعمل كلّ مباحٍ بحجة أنّ المرجع قال بأنه حلال، خصوصًا مع وجود بعض مرجحات الترك كما قلنا، ولا يترك الكثير من المستحبّات المؤكدة كالإقامة للصلاة لأنها مستحبة، وعلى أي حال فالاحتياط في كلّ شيءٍ حسن، والمسألة -في الحكم الشرعي- ليست مسألة الراحة الشخصية وإرضاء النفس فقط.
ينبغي لنا كمؤمنين أيضًا أن نلتفت لأن الأحكام الشرعية لها أبعادٌ كثيرةٌ جدا، فالمسألة ليست متعلقة بنفس موضوع الحكم وما يرتبط به بشكل مباشر فقط، فحكمةُ المؤمن تقوده لمحاولة فهم هذه الأمور جيدا، والتوقف حين يكون الأمر مشتبهًا بشكلٍ إجمالي عليه وعلى المؤمنين، فالأمور بين ثلاثة: حلالٌ بيّن فيُتّبع وحرامٌ بيّن فيترك وشبهاتٌ بيَن ذلك، ولا شكّ ولا ريب في أن التوقفَ في الشبهات أمرٌ محمود.
قال رسول الله صلى الله عليه وآله: “الأمور ثلاثة: أمرٌ تبيّن لك رشده فاتبعه، وأمرٌ تبيّن لك غيّه فاجتنبه، وأمرٌ اختلف فيه فردّه إلى الله عزّ وجلّ” [أمالي الصدوق].
وقال صلى الله عليه وآله: “إنّ لكل ملك حمىً، وإنّ حمى الله حلاله وحرامه، والمشتبهات بين ذلك، كما لو أنّ راعيا رعى إلى جانب الحمى لم تلبث غنمه أن تقع في وسطه، فدعوا المشتبهات”[أمالي الطوسي].
وقال أمير المؤمنين عليه السلام لكميل بن زياد فيما قال: “يا كميل!.. أخوك دينك فاحتط لدينك بما شئت” [أمالي الطوسي].
محمود سهلان
١٥ ذي القعدة ١٤٣٨هـ
٧ أغسطس ٢٠١٧م