التحصيل الأفقي وخطر التَأسيس للفكر الالتقاطي

بواسطة Admin
0 تعليق

تنامت خلال السنوات القليلة الماضية أنشطة القراءة وما يتبعها من تلخيصات وشبه مراجعات وما نحو ذلك من مُظهِرات لحالة متقدمة من الاهتمام بالمطالعة بشكل عام. وإلى جانب ذلك نرى الدور الكبير الذي تلعبه تطبيقات التواصل في توسعة دائرة مجالات التحصيل، ومن أهمها -في نظري- تطبيقا (youtube) و(Instagram)؛ لاشتمالهما على تدفقات هائلة من المواد والرسائل التثقيفية شديدة التنوع.

ولكن ثمَّة مشكلة، أُقدِّم لها بالتالي..

هناك نوع من الكتابات قد يناسب أن أُطلِق عليه عنوان (البحث الجمعي)، وفيه يقوم الكاتب بتتبع الأقوال في مسألة ما، ويجمعها في مقال إذا اقتصر عليها، وفي كتاب إذا ما نقل إلى جانبها المناقشات فيها، وهذا في الواقع جهد طيب في نفسه ومطلوب للباحثين من جهة أخرى، ولكنَّه بالنسبة للكاتب ومجتمع المعرفة ليس هو الغاية البحثية المنتجة.

يحتاج الفِكرُ حتَّى يُنتِجَ فِكرًا إلى بحث المسألة العلمية في عمقها العِلِّي، أي أن ينظر في منشأ التفكير البشري فيها؛ مقدّمة للتعمق في عِلَلِها المباشرة وغير المباشرة، القريبة والبعيدة، وفي ظروف تشكل العِلَل، وما نحو ذلك ممَّا هو في الواقع الوجودي للمسألة.

لا شكَّ في أنَّ الكمال التحصيلي يتحقق بالجمع بين التحصيلين الأفقي كما في جمع الآراء، والرأسي كما في البحث العِلِّي والظرفي، ولكنَّ العمق المعرفي قد يحصل بالثاني منفردًا، ولكنَّه لن يحصل بالأول ما لم يضم إليه الثاني، وهذا ما أنا بصدد بيانه في هذه السطور.

نرجع إلى أنشطة القراءة وتطبيقات التواصل الألكتروني..

قد يقرأ القارئ عشرة كتب في نظرية التطور التي حرَّرَ مسائلها وقرَّر مطالبها العالم البريطاني تشارلز روبرت داروين (1809 – 1882م)، ويتتبع الآراء وما قيل حولها ومراتب تطورات وتحولات التفكير فيها، وحينها سوف يكون على درجة عالية من إمكانية شرحها وتوضيح غوامضها بحسب إطار الامتداد الأفقي للمسألة. ولكن لو طُرِح عليه هذا السؤال:

هل الاشتراكات العضوية بين الأحياء (وغيرها) اشتراكات ماهوية أو وجودية؟ بمعنى:

هل الاشتراكات التي تبحثها المدرسة الداروينية لها تحقق في الخارج بحيث أن يقع نفس الاشتراك بين هذا الحي وذاك تحت الرصد التجريبي، أو أنَّ القول بنفس الاشتراك راجِعٌ لجهد ذهني تحليلي يصدق في مفرداته ولكنَّه محل نظر في تركيباته، فيكون مِثلًا لا اشتراكًا؟

وبعبارة أخرى:

لو سلَّمنا بوجود تماثل بين هذا الحي وذاك، فهل يمكن الانتقال من القول بالتماثل إلى القول بالاشتراك؟ وإذا استقرت الدعوى على إمكان الانتقال، فإنَّ البحث ينتقل حينها إلى المطالبة بإثبات نفس الاشتراك البيني، وليس التماثل. أي الوجود النسبي الحقيقي لكونه علَّة الاشتراك.

ما هو الفرق بين التحصيل الأوَّل والثاني؟

التحصيل الأوَّل يعتمد التتبع الأفقي والتلقي، فهو سواء قَبَلَ (القارئ/ الباحث) النظرية أو رَفَضها فلن يخرج عن إطارها، بينما في النظر الرأسي تتحول المسألة أمام البحث إلى مادَّةٍ خام يعالجها بالأدوات العلمية ومن خلال هيمنة معرفية ذات سطوة كشفية تُنتِج لمجتمع المعرفة معارِف جديدة.

مثالٌ آخر..

يدور الحديث في ميادين البحث العلمي الحوزوي حول أثر الشهرة الفتوائية بين المتقدمين على سند الحديث جبرًا لضعفه في حال الموافقة للدلالات المتن وكسرًا لصحته في حالة المخالفة، وقد ذهب مشهور العلماء إلى جابرية وكاسرية الشهرة الفتوائية لسند الحديث، فيما خالف السيد الخوئي (رحمه الله) ورفض ما ذهب إليه المشهور، وذلك لالتزامه العلمي والأدبي أيضًا بمبانيه في علمي الدراية والرجال، تبعًا لسعة مبناه الاجتهادي.

ولكنَّنا نطرح سؤالًا قبل النظر في قبول أو رفض المبنى محل البحث..

هل كانت الشهرة بين المتقدمين ناظرة أصلًا لسند الحديث حتَّى نُفرِّع على ذلك بحث الجابرية والكاسرية؟

هذا أوَّل الكلام، وهو نتاج النظر الرأسي في المسألة بحثًا وتقليبًا، وإن لم تثبت عناية المتقدمين بسند الحديث في مقام إثبات الصدور من عدمه إلَّا باعتباره قرينة من ضمن قرائن أخرى، فإنَّ الدور لا يأتي على الكلام في جابرية وكاسرية الشهرة الفتوائية!

فلنرجع لأصل موضوع المقال..

ينتقل المشتغل بتطبيقات التواصل مثل (youtube) و(Instagram) من صورة أو مقطع إلى آخر، وفي خلال ساعة أو أكثر يجد نفسه وقد جمع كمًّا لا بأس به من المعلومات ذات النِسَب المختلفة فيما بينها، وبعدها لن يجد صعوبة في الحديث عن كرة القدم لدقائق وعن النظرية النسبية لدقائق أخرى، وعن أدبيات الرئيس الأمريكي ترامب، وبعدها عن انتكاسة 1967 وانتصار 1973، وربَّما بعدها يتحدَّث أيضًا عن (من سيربح المليون)!

هذا جيد، فالمعلومات المتفرقة مطلوبة على نحو (مِن كُلِّ بستانٍ زهرة)، ولكنَّ هذا الجمع عادة ما يؤدي بصاحبه إلى تِيه ومتاهات الفِكر الالتقاطي، وهو الذي يقوم على مجموعة من النظريات والتصورات الملتقطة دون عمق بحثي، ودون التفات للنسب بينها، فيقع الفِكر في التناقض وما في حكمه، وللتعنت، انتهت الالتقاطية إلى إطلاقات لا يمكن لذي مِسكة من عقل أن يقبلها، كإطلاق التعددية والمساواة بين كلِّ الأديان والمعتقدات، فانبثقت العقلية الليبرالية التي تدعو للاستقلال الفكري، وترفض استقلال من لا يوافق على استقلالها!

 

السيد محمَّد علي العلوي

18 من ذي القعدة 1438 هجرية

مقالات مشابهة

اترك تعليق


The reCAPTCHA verification period has expired. Please reload the page.