حضارة الجاهلية (2)/ (قفزة إلى القرن الثاني عشر الهجري)

بواسطة Admin
0 تعليق

 

نتحول في هذا المقال من الصدر الإسلامي الأوَّل إلى القرن الثاني عشر من الهجرة؛ والغايةُ التأكيد على فكرة الامتداد الطولي للخط الزمني إلى مفصلِ عصر (السرعة).

ولد في العام 1086 هجرية العالم النحرير والمحدِّث الصالح الشيخ عبد الله بن صالح السماهيجي (طاب رمسُه)، وكان من أكابر العلماء وأعاظم الفقهاء ونوادر الفصحاء، قال عنه المتتبع المدقِّق صاحب الحدائق النضرة شيخنا البحراني (قَدَّس اللهُ روحه الشريفة): “وكان الشيخ المذكور صالحًا عابدًا ورعًا شديدًا في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، جوادًا كريمًا سخيًّا، كثيرَ الملازمة للتدريس والمطالعة والتصنيف، لا تخلو أيامُه من أحدها…”، وقال عنه صاحبُ أنوار البدرين الشيخ علي البلادي البحراني (رضوان الله تعالى عليه): “وهذا الشيخُ من أكابر العلماء العاملين، والفقهاء الورعين، ذكره كلُّ من تأخر عنه كصاحب (منتهى الآمال)[1] و(الروضات)[2] و(المستدرك)[3]، وغيرهم، وله كتب كثيرة…”.

اشتغل الشيخ السماهيجي (رضوان الله تعالى عليه) مع العاملين من أبناء هذه الأرض الطيبة في توعية الناس وصيانة العقيدة في نفوسهم وحمايتهم من غزوات الشياطين في مختلف الميادين، وقد طاب صدري بقراءة شطر من خُطَبِهِ المباركة التي كان يلقيها على المؤمنين في أيام الجُمَعِ والأعياد، وهنا بالضبط محلُّ الشاهد..

أقتبس ثلاثة مقاطع من خطبة له (طاب رمسُه)، ثُمَّ أبين المقصد إن شاء الله تعالى:

المقطع الأوَّل:

“والحمدُ لله الذي دلَّ على وجود ذاته بذاته التي جلَّ شانُها، وعلى وجوب معرفته بمعرفته التي وضح بيانها، وأبَتْ أن تُعرَفَ بِكُنْهِ حقيقتها على أنَّه قاطعٌ برهانُها. الذي تعاظَمَ بالعظمة التي صَغُرَ لها كلُّ عظيمٍ سواه، وتعالى بالقَهْرَمَةِ[4] التي دَرْبَخَ[5] لها كلُّ سنامٍ وكلُّ قاهرٍ إلَّا إياه…”

المقطع الثاني:

“أين آباؤكم الأكابر؟ وأين أبناؤكم الأصاغر؟ وأين إخوانكم الأعزاء؟ وأين جيرانكم الأقرباء؟ قد دارت عليهم أيدي سبا[6]. طحنتهم بِرَحاها التي لا تبقي ولا تذر، وجعلتهم عبرةً لمن اعتبر، فكانوا هباءً منثورًا، فكأنَّهم لم يكونوا شيئًا مذكورًا…”

المقطع الثالث:

“فعلى المؤمن الذي يرغب في طاعة الله، ويرهبُ من عقابه، أن يتأمَّل ما قاله (عليه السلام)، وما صرَّح به اللهُ في كتابه؛ فهل قد اشترط فيها إذن المعصوم؟ أوَما كلٌّ من الآية الكريمة والرواية العظيمة مؤذِنة بالعموم؟!”[7]

ألقيت هذه الخطبة في الربع الأوَّل من القرن الثاني عشر الهجري؛ إذ أنَّ بدايات الشيخ في طلب العلم كانت أوائل هذا القرن، ووفاته في 1135 هجرية.

أقول: ما هو تصورنا للمستوى الثقافي الذي كان عليه البحراني آنذاك بحيث أنَّ الشيخ السماهيجي (قُدِّسَ سِرُّه) مستقيم على هذا المستوى من الخطب في جهات البلاغة والفصاحة وقوة وخطورة المواضيع والاستدلالات الفقهية، وهو ما لا يغفل عنه قارئ وهو يجول متدبرًا في خطب الشيخ[8]، ممَّا يدلُّ على استقرار جماهير المؤمنين على مستويات عالية من الوعي والثقافة وحسن التلقي والفهم والاستيعاب إلى درجة انَّه (رحمه الله) يمرُّ على الاستدلال الفقهي مكتفيًا بالإشارة إلى عدم ورود الشرط لا في الآية الكريمة ولا الرواية العظيمة، والاحتكام لأصل العموم، فيُثبِتُ وجوب الجُمعة دون تخصيص بحضور المعصوم (عليه السلام).

بغض النظر عن سلامة الاستدلال، فما أُلفِتُ إليه هو قوة الطرح ومتانة الكلمة في خُطَبِهِ الجماهيرية (رضوان الله تعالى عليه) الموثَّقة في كتاب (الخُطب).

كان البحراني في ذاك الزمن بين قلَّة من تجَّار اللؤلؤ، وكثرة من فلَّاحين وصيَّادي سمك، ولا انتشار للكتب كما هو الحال اليوم، ولا وسائل (تكنلوجية) للتواصل (الاجتماعي) ولا طائرات للسفر ولا تسجيلات مسموعة ولا مرئية، ولا وجبات سريعة ولا معلبات.. ولا ولا ولا..!

وممَّا يشار إليه أنَّ الشيخ (طاب رمسُه) رأس وفدًا من أعيان البحارنة قاصدًا إصفهان لطلب المعونة من الدولة الصفوية بعد غزو العمانيين للبحرين وما أصاب أهلها من أحداث جِسام، وهذا يدل على وجود أجواء تشاورية وتنقيح للآراء واتخاذ لقرارات مصيرية، وكلُّ ذلك نابع من عمق المجتمع.

انتبهوا أيُّها الأفاضل، فخطب الشيخ السماهيجي وغيره من علماء ومثقفي ومفكري تلك القرون نفتقر لشرحها وتفكيك عبائرها لنتمكن من فهمها، في الوقت الذي كانت تُلقى فيه آنذاك على الجماهير في خطب الجمعة والعيدين!

هل وصلت الرسالة؟

نعود إلى الصدر الإسلامي الأوَّل في المقال القادم إن شاء الله تعالى..   

  

 السيد محمَّد علي العلوي

27 من شهر رمضان 1438 هجرية

 

[1] – هو الشيخ عبَّاس القمِّي (1294 – 1359 هـ).
[2] – روضات الجنَّات، وصاحبه السيد محمَّد باقر الموسوي الإصفهاني الخونساري (1226 – 1313 هـ).
[3] – مستدرك الوسائل، وصاحبة الميرزا حسين النوري الطبرسي (1245 – 1320 هـ).
[4] – أي: السيطرة، وهي لفظة فارسية مُعرَّبة. راجع مادَّة (قهرم) في لسان العرب لابن منظور.
[5] – أي: خضع وذلَّ. راجع مادَّة (دربخ) في لسان العرب لابن منظور.
[6] – جاء: “تفرَّقوا أيدي سبا وأيادي سبا: تبدَّدوا … ضُرب المقل بهم لأنَّه لمَّا غرق مكانُهم، وذهبت جنَّاتهم، تبدَّدوا في البلاد”. راجع القاموس المحيط، مادَّة (سبأ).
[7] – تصدَّى الشيخ هنا للدفاع عن وجوب صلاة الجمعة في زمن الغيبة، ويعود الضمير في (ما قاله) إلى الإمام الصادق (عليه السلام).
[8] – الخطب/ الجزء الأوَّل من المجموعة الكاملة لمصنَّفات المُحدِّث الصالح الشيخ عبد الله بن صالح السماهيجي (1086 هـ – 1135 هـ)، تحقيق د. حسين السماهيجي/ مركز ابن ميثم البحراني للدراسات والتراث

مقالات مشابهة

اترك تعليق


The reCAPTCHA verification period has expired. Please reload the page.