ننظر إلى مجتمع قريش قبل وحِين وبعد الدعوة الإسلامية العظيمة على أنَّه مجتمع متخلِّف لا وعي فيه ولا نباهة، وعلى ذلك نستشهد ببعض ثقافاتهم وسلوكياتهم آنذاك مثل وئد البنات والرِق والتقاتل وما شابه ممَّا نراه من أجلى مصاديق الجرائم البشعة والتخلف المقيت، ثُمَّ إنَّنا نقول: هي جاهلية العرب التي طالما آذت الرسولَ الأكرمَ وأهلَ بيتِه الأطهار (صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين).
ولكنَّنا عندما ننظر في محاوراتهم مع رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) ومع الأئمة (عليهم السلام) نجدهم مستغنين غالبًا عن زيادة بيان، في الوقت الذي نشرح فيه اليوم حديثًا من سطر واحد في عشرات الصفحات وأكثر!
هل ما نفهمه بعد التقليب والشرح والتفصيل كان مستوعبًا للعربي بمجرد أن يطرق سمعه، أو أنَّ فهمه في حينها كان في حدود ظاهر اللفظ وبشكل مجمل جدًا؟
إذا كان الجواب هو الأوَّل، فنحن في حاجة للوقوف على المعاني الصحيحة للجهل والعقل والعلم والوعي والفهم وما نحوها. وإن كان الجواب هو الثاني، فحينها نقول: أي فهم هو المطلوب؟ هل فهم العربي وهو يستمع للمعصوم (عليه السلام)، أو فهمنا اليوم بعد شرح العبارة في صفحات وصفحات؟
لنأخذ المثال التالي:
قال الإمامُ الصادِقُ (عليه السلام): “إنَّ اللهَ لمَّا خلقَ العقلَ قال له: أقبِلْ، فأقبَلَ، ثُمَّ قال له: أدبِر، فأدبَرَ. فقال: وعِزَّتي وجلالي، ما خلقتُ خلقًا أعز عليَّ منك، أؤيدُ من أحببتُه بِك”.
نتساءل:
ما الذي استوجب حبَّ الله تعالى لهذا العبد؟
من الواضح أنَّ التأييد بالعقل جاء نتيجة للمحبة، وبالتالي فما استوجب محبَّة الله تعالى لا يستند إلى هذا العقل الذي يتحدَّث عنه الإمام الصادق (عليه السلام)، فإلامَ يستند إذن؟
ثُمَّ، ما المقصود بالعقل هنا؟ هل هو العلم، أو أنَّه نور خاص، أو هو أمر آخر؟
عندما نريد بحثَ هذا الحديث، فإنَّه لا غنى لنا حينها عن الاستعانة بمجموعة من العلوم، منها: علم الأعصاب وعلم النفس بفروعه وعلم التربية، وغيرها.
نعم، هناك حالة من طلب زيادة البيان كان يمارسها البعض مع المعصومين (عليهم السلام) بطرح الأسئلة والاستفسارات، ولكنَّ الجو العام لا يشير إلى ذلك، بل في بعض الحالات يقوم السائل فيقع على رأس الإمام (عليه السلام) مُقبِّلًا بعد سماعه للحديث، وكأنَّه قد أصيب بمضامينه في عمق وجدانه، وفي الكثير من المواقف نجد عبائر الإجلال والإكبار من السائلين، مثل: إنَّ الله يعلم حيثُ يضع رسالته!
نفسُ هذه الأحاديث لا نفهمها اليوم إلَّا من بعد تقليب وتفصيص وتشريح، ولا نحيط إلى ببعض جوانبها!
لا أقول أنَّهم في زمن الأئمة (عليهم السلام) يفهمون كلَّ أبعاد الحديث، ولكن لا أقل أنَّهم يستغنون عن السؤال، بل يبدون ارتياحًا من الجواب وكأن نفوسهم قد سكنت إلى البيان، ولا نرى مواقف تصحيحية من المعصومين (عليهم السلام) لطبيعة المحاورات، ممَّا ينبئ على صحتها، أو لا أقل مقبوليتها.
أقول:
لم يكن عرب قريش ولا عرب الكوفة ولا عرب شبه الجزيرة العربية بشكل عام جُهَّال بمعنى قلَّة الفهم أو الغباء، بل على العكس من ذلك تمامًا، كانوا على مستويات عالية جدًّا من الفهم والاستيعاب الجيد، وكان فيهم العلماء في الطبِّ والفلَكِ والهندسة وغيرها، ولكنَّهم كانوا يعانون مشكلة عميقة التعقيد، ولو أنَّها حُلَّت لكان الحال غير الحال..
فلنلاحظ قليلًا..
(ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّن بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُّعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِّنكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الأَمْرِ مِن شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنفُسِهِم مَّا لاَ يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ).
(وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِن تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ * أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ).
(وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا).
(إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا).
يبدو لي أنَّ المشكلة التي عاناها العربُ، عربُ الجاهليةِ، كانت مشكلة المعاندة والمناكفة والتكبر على قبول الحق، وهي نفس المشكلة التي أوقعت إبليس فيما وقع فيه (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ)، هذا ولم يكن إبليس قليل العلم والمعرفة، بل كان من الشاهدين على كثير من الوقائع في ذاك العالم العلوي، ولكنَّه العناد والتكبُّر!
أعتقد بأنَّ معايير العِلم الصحيح مشوشة في أذهاننا، وبالتالي تتبعها في الحكم معايير التقدم والرقي، والجهل والتخلف، وهذا أمر في غاية الخطورة.
تعالوا لنطرح بعض الأسئلة..
ما هي عوامل العلم والمعرفة والنباهة والوعي في الإنسان؟
بمراجعة بعض الآيات الشريفة نرى ارتباطًا بين علم الإنسان ومعارفه نباهته ووعيه وبين الطبيعة الكونية التي فطرها الله سبحانه وتعالى.
قال تبارك ذكره: (وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلاً لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ).
ومن خلال هذه الآلاء أراد الله تعالى للإنسان أن ينطلق في بناء نفسه، ولنا في سورة الرحمن أعظم شاهد، قال تعالى:
(الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الإِنسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ * الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ * وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ * وَالسَّمَاء رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ * أَلاَّ تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ * وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ * وَالأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ * فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الأَكْمَامِ * وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ * فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ * وَخَلَقَ الْجَانَّ مِن مَّارِجٍ مِّن نَّارٍ * فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ * فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ * بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لّا يَبْغِيَانِ * فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ * فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالأَعْلامِ * فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ * فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * يَسْأَلُهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ * فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ).
يرتبط الوعي الحقيقي للإنسان بمدى تمكنه من ضبط فكره وتعقلاته بحسب الحركة الزمنية الطبيعية لهذا الوجود، وكلَّما تناغم معها كلَّما فهم لغة التخاطب الكونية، وكلَّما تخلَّف عنها كلَّما تبلَّد في مختلف أنحائه المعرفية، وكلَّما تجاوزها كلَّما أوغل في التيِه والضياع وإن توهم إنجازاته تقدُّمًا وحضارة!
هذا أمر اناقشه في مقالات قادمة إن شاء الله تعالى، ولكنِّي في هذا المقال أريد التنبيه على ضرورة التوقف لمصلحة انفاس عميقة نأخذها من الطبيعة الصِرفة، ونراجع أنفسنا..
ما هي الحضارة التي أرادها لنا الثقلان المقدَّسان؟
أين نحن من حضارة القيم والبناء المعرفي الكوني الذي خُلقنا من أجله؟ (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً).
من قال بأنَّ اختصار الوقت وكسر القوانين الكونية في ثقافاتنا تقدمٌ وحضارةٌ؟ من أين جاء هذا المعيار؟
نلتقي في مقالات قادمة إن شاء الله تعالى لمناقشة هذه الإثارات.. وغيرها..
السيد محمَّد علي العلوي
26 من شهر رمضان 1438 هجرية