العقلانية في المدى الأوسع ll سماحة الشيخ محمود سهلان

بواسطة Admin
0 تعليق

كثيرًا ما تطرح مصطلحاتٌ مثل العقل والتعقل والعقلانية وغير ذلك مما يجري نفس المجرى، ويحاول الكثيرون أن يلصقوها بالحضارات المتأخرة، وخصوصًا بالحداثة وما بعد الحداثة، وكأنّ الإنسان لم يكن يتعقل شيئًا قبل ذلك! وبما أنَّ هذه الثورة الحداثية قامت إثر مجابهتها للكنيسة في القرون الوسطى، ومع انطلاق العلمانية -على مستوى التنظير- بشكل أوضح في منتصف القرن التاسع عشر، أصبحت في مواجهة الدين مباشرةً إمَّا بالتلميح أو بالتصريح، بل أنّ أحدَ علماء العلمانية والمنظرين لها يشير بوضوح إلى أنَّ العلمانية تدعو للإلحاد..

تُنكر بعض التوجهات الفكرية دور الوحي والغيب في الحياة الدنيا، وتجعل من العقلانية المحور الوحيد في كلّ شيء، وتركز في عقلانيتها على الحياة الدنيا فقط، فتعمل من أجل سعادة الإنسان الدنيوية فقط، وتدعو لاحترام كلّ خُلقٍ أو فعلٍ أو فكرٍ يُنتجه العقل، وتَنظر لكلّ مجتمعٍ يرتكز على مبناها على أنه عقلاني بالنظر إلى ظروفه الخاصة، فتتعدد العقلانيات دون إشكالٍ عندهم حتى لو وصلت لحد التناقض بين فئة وأخرى.

في الإسلام يدعو الشارع المقدس لأنْ يأخذَ العقل مكانه أيضًا، ولكنَّه لا يُطلقه وحده، بل يعتبره حجةً باطنيةً على الإنسان، وإلى جانبه هناك حججٌ ظاهرةٌ تتمثل في الأنبياء والأوصياء، فتلعب الحجج الظاهرة دورَ الإنذار والتبشير والهداية والتوجيه، وتفصيل المجملات، والتأسيس، وغير ذلك ممَّا فيه صلاح الدارين.

استقبل الأنبياء والأوصياء الوحي وحافظوا عليه ما استطاعوا واستثمروه من أجل إنقاذ البشرية وهدايتها، ومن أمثلتها الزبور والإنجيل وصحف إبراهيم وغيرها، لكنّ المحفوظ والذي يكفي البشر حتى قيام الساعة هما القرآن الكريم والسنة الشريفة، وقد أشار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مرارًا وتكرارًا لضرورة التمسك بالقرآن والعترة الطاهرة كي نأمن من الضلال، فمن الواضح أن الإنسان لو ترك وحده واكتفى بعقله لم يأمنْ من الضلال ولن يأمنَه، وذلك ما نعاينه بوضوحٍ كلّ يوم.

في علم الكلام (العقيدة) يلعب العقل دورًا كبيرًا جدًّا، وكذلك في مقام استنباط الأحكام الشرعية حيث اعتبره علماءُ الإمامية أحدَ مصادر التشريع، وقبل هذا تجدر بنا الإشارة للكم الكبير من الآيات الداعية للتّفكر والتّدبر والتّعقل، وكذلك للروايات الكثيرة جدًا في ذات الاتجاه، فلا يقال أنّ الإسلامَ يتجاهل دور العقل، ويبتعد عن العقلانية، وما إلى ذلك من تهم.

من جهةٍ أخرى نقول أنّ الإسلامَ لا يَنظر للحياة الدنيا فقط، بل ينظر لحياة الخلود، فتكون الدائرة أوسع بكثير من نظرة الراكن إلى الدنيا، لذلك فإنّ العقلانية عنده مختلفة، فليس من العقل أن أسعى لعمران دنياي التي مهما طال مكوثي فيها لن تساوي سوى بعض جزءٍ من الثانية إذا قُورنت بالخلود الأبدي، فكيف أشتري هذا القليل -إن اعتبرناه شيئًا- بما لا ينفد؟!

في هذا الإطار نستطيع أن نفهم بعض الروايات التي تحدّثت عن العقل، دون أنْ نستغربَ منها، بل نجدها تلامسنا من الداخل بعمق وانسيابية.

أحمد بن إدريس، عن محمد بن عبد الجبار، عن بعض أصحابنا رفعه إلى أبي عبد الله عليه السلام قال: قلت له: ما العقل؟ قال: ما عُبد به الرحمن واكتسب به الجنان…

قال أبو عبد الله عليه السلام: منْ كان عاقلا كانَ له دين، ومنْ كانَ له دين دخلَ الجنة.

عن أبي جعفر عليه السلام قال: إنّما يداقّ الله العباد في الحساب يوم القيامة على قدرِ ما آتاهم من العقول في الدنيا.

قال رسول الله صلى الله عليه وآله: إذا بلغكم عن رجلٍ حسن حالٍ فانظروا في حُسنِ عقله، فإنما يُجازى بعقله.

وأضربُ هنا بعض الأمثلة من القرآن الكريم تدعوا للتفكر والتعقل:

قال تعالى: (يُنبِتُ لَكُم بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالأَعْنَابَ وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) [النحل/١١].

وقال تعالى: (وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) [النحل/١٢].

وقال عزَّ وجلَّ: (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّى مِن قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلا مُّسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) [غافر/٦٧].

ولو أردنا طرح المزيد لطال بنا المقام، لكنّني أدعو القارئ الكريم لمطالعةِ باب العقل والجهل من أصول الكافي الشريف، ففيه الكفاية وغاية المطلوب، ولو اقتصر على مطالعة الرواية الثانية عشر منه لكفاه في فهم ما أردنا من هذا المقال.

 

محمود سهلان

الخميس ١٣ شهر رمضان ١٤٣٨هـ

الموافق ٩ يونيو ٢٠١٧م

مقالات مشابهة

اترك تعليق


The reCAPTCHA verification period has expired. Please reload the page.