بُرهَانُ النَظمِ والقانونية المُحكمة للنسب الربطية

بواسطة Admin
0 تعليق

تنتظم التوجهات الفكرية اعتناقًا وطرحًا في تَبَانِيَاتٍ نظريةٍ بحسب ظروف التحدِّيات التي تخوضها، فالإنسان في بدايات فكره الديني القائم على المبدأ الغيبي كان يكتفي بمجرَّد إرجاع الظواهر الطبيعية المُحيِّرة إلى قوَّة غيبية، وهذه القوَّة لا تُردُّ إلَّا بالتقرُّبِ منها أو بالتقرُّب إلى قوَّة أخرى لها القدرة والقاهرية عليها، ولكنَّ هذا الإنسان يرى نفسَه مستغنيًا عن قوَّة غيبية تحميه من السيول -مثلًا- بعد إبداعه الأبنية القوية وانتقاله إليها بعد أن كان يسكن البيوت الأكثر بدائية، وهنا تنفتح ثغرةٌ في مُبْتَنَيَاتِ هذا الإنسان أمام التوجهات التي لا تُسلِّم لفكرة وجود قوى غيبية وراء هذا الوجود المحسوس، فتدخل إليه منها موجِّهة إلى أنَّ الدِين ينشأ من حالة الشعور بالخوف، وكلَّما تقدَّم الفِكرُ في إدراكاته وأبدع ما يدفع عنه الخوف، كُلَّما استغنى عن الحاجة إلى فِكْرَةِ وجودِ قوى غيبية قادرة على حمايته من الأخطار.

في قبال هذه التوجهات والتوجيهات تدور رحى الفِكر قاصدة القوة في ظهورٍ جديدٍ بأدِلَّةٍ وحُجَجٍ تُبطِلُ بها ما جاء ويجيء به الخصوم، وهكذا يتقدَّم هؤلاءِ وأولئِكَ نتيجة لاستمرار تخاصماتهم الفِكرية التي غالبًا -كما أرى- تكون خارج سياق المنهج العلمي الدقيق من حيث مناسبة الإيراد ومناسبة ردِّ الإيراد، ومِنْ أمثلةِ ذلك الردُّ بالنقض من خلال المصداق على مفهوم أبعد من مفهومه الخاص، كالاحتجاج بالظواهر الطبيعية القاهرة على القول بعدل الله وحكمته، والحال أنَّ الله تعالى بدايةُ النِظام الكوني بكلِّ قوانينه وسننه، في حين أنَّ الظواهر الطبيعية مصداقًا ومفهومًا بعيدةٌ وتتصل بالمبدأ الأوَّل بغيرها. ومن جهةٍ أخرى فإنَّ الإيرادات كثيرًا ما تأتي ويُردُّ عليها دون مناقشة القواعد المفاهيمية التي تسوِّغُ المناقشة أصلًا.

من نِتَاجِ أمثالِ هذهِ التحدِّيات قرَّر علماءُ الإسلامِ برهانًا في التوحيد أطلقوا عليه اسم (برهان النظم)، “يَتَرَكَّبُ من مقدمتين، إحداهما حِسِّية والأخرى عقلية، ودور الحسِّ ينحصرُ في إثبات الموضوع، أي وجود النظام في الكون والسنن السائدة عليه، وأمَّا دور العقل فهو يرجع إلى أنَّ هذا النظام بالكيفية والكمية المحددة، لا يُمكِنُ أن يكون نتيجةَ الصُدْفَةِ أو أي عاملٍ فاقِدٍ للشعور”[1].

اعتمد مجموعةٌ من علمائِنا في تدبُّراتِهم العِلمِيَّة في خصوص مقدمات برهان النظم على أنَّ (كلَّ مُنتَّظم يفتَقِرُ إلى ناظِم)، ومدخول (كل) في هذه الكبرى لا يخرج عن مصنوعات الإنسان، وإلَّا فالقول بانتظام الكون باطِلٌ ما لم يُقارن بغيره، ومن هنا أورد الفيلسوف الأسكتلندي (الإنجليزي) ديفيد هيوم إشكاله اعتمادًا على عدم المجانسة بين صنع الله وصنع الإنسان، وبالتالي بطلان القياس.

وقد ردَّ اعلامُنا هذا الإشكال بتقرير أنَّ “برهان النظم ليس برهانًا تجريبيًّا بأن يكون المِلاكُ فِيهِ هو تعميم الحكمِ على أساسِ المُمَاثلة الكاملة بين الأشياء المُجَرَّبَةِ وغير المُجَرَّبَةِ، وليس أيضًا من مقولةِ التمثيل الذي يكون المِلاكُ فيه التشابه بين فردين، بل هو برهان عقلي يحكم العقلُ فيه بأمرٍ بعد ملاحظةِ نفس الشيء وماهيته، وبعد سلسلةٍ من المُحَاسبَات العَقلية مِن دُون تمثيلٍ أو إسراءِ حُكمٍ، كما يتمُّ ذلك في التمثيل والتجرِبة، وكون إحدى مقدمتيه حسية لا يضر بكون البرهان عقليًا، فإنَّ دورَ الحِسِّ فيه ينحصر في إثبات الموضوع، أي إثبات النظم في عالم الكون، وأمَّا الحكم والاستنتاج يرجع إلى العقل ويبتني على محاسباتٍ عقلية، وهو نظيرُ ما إذا ثبتَ بالحسِّ أنَّ هاهنا مُربَّعًا، فإنَّ العقل يحكم من فوره بأنَّ أضلاعه الأربعة متساوية في الطول.
فالعقل يرى ملازمَةً بَيِّنَةً بين النظم بمقدماته الثلاث، أعني: الترابط والتناسق والهدفية، وبين دخالة الشعور والعقل، فعندما يلاحظ ما في جهاز العين مثلًا من النظام بمعنى تحقُّق أجزاءٍ مُختَلِفَة كمًّا وكيفًا، وتناسقها بشكل يمكنها من التعاون والتفاعل فيما بينها ويتحقَّق الهدفُ الخاصُّ منه، يحكم بأنَّها من فعل خالقٍ عظيم، لاحتياجه إلى دخالة شعورٍ وعقلٍ وهدفيةٍ وقصدٍ”[2].

وكان لديفيد هيوم إشكالات أخرى ذكرها في كتاب (المحاورات)، فيما أورد الفيلسوف الإنجليزي بيرتراند راسل ما من شأنه لو ثبت أن يُبطِلَ القولَ بالنظم من أصل، وهو أنَّ هذا النظم في عالم الأحياء راجِعٌ إلى قانون التكامل الثابت في علم الأحياء، وبثبوته ينتفي القول بوجود مدَبِّر دبَّر النظم!

ذكرتُ ما أفاده الشيخ السبحاني (دام ظلُّه) ولمحة ممَّا أورده الآخرون، إشارةً إلى سعةِ دائرة التناظر في خصوص القول بـ(النظم) كبرهان على وجود خالق حكيم، وإلَّا فما أسعى لطرحه في هذا المقال رؤية أراها محكمة في حقيقة النظم، وتقريرها في التالي:

النظم المقصود هو مطلق ما يحقق الارتباط بين الموجودات معروضةً وعارضةً، حتَّى في كلامنا هنا وفكرنا.. في كلِّ هذا الوجود بأدق تفاصيله.

يقوم هذا الوجود الممكن مطلقًا على قانون العروض والارتباط؛ فالمُدركُ لا يُدرَكُ إلَّا نتيجةً لالتقاء اثنين أو أكثر، وكلَّما تحقَّق التقاءٌ فإنَّ النتيجة واحِدةٌ لا يمكن أن تكون غيرها على الإطلاق، ومن الأمثلة البسيطة لو التقى اللون الأسود بجسمٍ صلب فإنَّ هذا الجسم يظهر أسودًا، ولن يظهر بلون غير الأسود إلَّا أن يمتزج الأسود بلون سابق. ونفس الطلاء الأسود ما كان ليكون أسودًا لو لم تكن مادَّته معروضة للون الأسود.

وقس على ذلك الرياح والأمطار والجبال والبحار والأرض والسماء وكل ما في هذا الوجود مطلقًا.

عندما يتلفظ الإنسان بكلمة، فإنَّه يسمعها، ولن يكون أن يتلفظ فيرى اللفظ أو لا يسمعه أو يشمه، والكلام في النسبة الرابطة واستقرارها دون تخلُّف على الإطلاق.

إنَّ للقوانين الكونية ثبات مُحْكَمٌ تمام الإحكام، وهي قائمة بإحكامها في فكر من يقول بوجود إلهٍ واحدٍ فردٍ صمد، وفي فكر الملحد بنفس الثبات والاستقرار، فهذا الملحد عندما فكَّر فإنَّ هيئة الفِكر هي نفسها في الموحد وغيره، والكلام في النِسَبِ الربطية التي تقوم بها هيئات الفِكر والنظر.

ثُمَّ أنَّ الكلام ليس في كون المُنتَظم يفتقر إلى ناظِم، ولكنَّه في القوة التي يقوم بها هذا الانتظام، ومن بعد ذلك في النسبة بينهما، أعني: بين المُنتَظِم والناظِم، فيرجع بنا النظر إلى ما قرَّرناه في غير محلٍّ بالضرورة التكوينية لجهة النور التي احتجب بها الخالقُ عن خلقه، فيكون مظهرُ الحقِّ سبحانه وتعالى في هذا الحجاب المتوسط.

وإذن، فليضطرب الكون، ولينزعج الوجود، ولتموج الدنيا بما فيها، فإنَّ كلَّ حركةٍ، سواء راقت لنا أو لا، وسواء كانت خيرًا أو غير ذلك، فهي مستحيلة ما لم يتحقق الالتقاء القانوني المُحقِّق لها، وهذا القانون التكويني القاهر مخلوقٌ للباري جلَّ في علاه، وهو قانون أعمُّ من الحَسَنِ والسَيءِ، وهو قوله تبارك ذكره: (وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُواْ هَذِهِ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُواْ هَذِهِ مِنْ عِندِكَ قُلْ كُلٌّ مِّنْ عِندِ اللَّهِ فَمَا لِهَؤُلاء الْقَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا).

إنَّنا عند التفاتنا لأيِّ حدثٍ، عظُم أو دقَّ، فالسؤال الموضوعي الفِكري الأوَّل، هو: إلى أيِّ التقاءٍ يرجعُ هذا الحدث؟ أو: ما هي الأطراف التي التقت فأنتجت هذا الحدث؟

ثُمَّ أنَّنا نبحث في النسبة الربطية التي قام بها الالتقاء، والأخرى التي تربط النتيجة بمقدماتها، والعقل البرهاني الكلي يثبت في جميع ذلك استحالة تخلف النتيجة عن مقدماتها، فهي حتمية لها، وهي تحتمها.

نُعبِّر بالمصطلح العلمي الفلسفي والكلامي عن التقاء الأطراف باجتماع أجزاء العِلة، وأكُرِّر للأهمية:

الكلام ليس في الالتقاء، وإنَّما فيما يُحقِّق الالتقاء، وهو ما نُعبِّر عنه بنسبة الربط، كما في المعاني الحرفية في اللغة.

ومن الأمثلة البسيطة احتراق الورق بالنار، والنكتة هنا ليست في نفس احتراق الورقة بالنار، ولكن النسبة المتوسطة المُحقِّقة لاحتراق الورقة، وهذا الاحتراق أمرٌ ثالث، فهو ليس النار، ولا الورقة، ولكنَّه ورقة تحترق، وإن اشتركت نارها بنار الحرق، إلَّا أنَّها ليست هي، بل هي نتيجة لالتقاء النار والورقة.

هكذا هي في كُلِّ موجودٍ، حيثُ استحالة وجود موجود عن غير التقاء بين موجودين، وهذا في عالم الإمكان بطبيعة الحال.

إذا تَمَّ ذلك، قلنا:

لا شكَّ في أنَّ هذا الإحكام المطلق في قانون الانتظام مفتقرٌ إلى علَّتين، علَّة إيجاد وعلَّة إبقاء، ولجهة الإحكام المطلق مكانًا وزمانًا فإنَّ علَّة الإبقاء لا بدَّ أن تكون فوق الزمان والمكان، وإلَّا لما أبقته فيهما قهرًا، وإذا كانت كذلك فعلَّة الإيجاد أولى بالكون قاهرة للزمان والمكان، ولا يمكن أن يكون قاهران فوق الزمان والمكان لورود إشكال البين، وملخصه أنَّ الاثنين لا يكونان إلَّا في ظرفي الزمان والمكان، فتعيَّن أنَّ العلَّة الموجِدة هي هي العلَّة المبقية.

الحمد لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله على محمَّد وآله الطيبين الطاهرين.

 

السيد محمَّد علي العلوي

17 من شهر رمضان 1438 هجرية

12 يونيو 2017 ميلادية 

 

[1] – الإلهيات – الشيخ جعفر السبحاني – ص57
[2] – محاضرات في الإلهيات – الشيخ جعفر السبحاني – ص 21

مقالات مشابهة

اترك تعليق


The reCAPTCHA verification period has expired. Please reload the page.