يجتهدُ فقهاؤنا الكِرام في تتبع الأدلة والنظر فيها نظرًا علميًا معمَّقًا بحسب ما تقتضيه القواعد والأصول طلبًا للكشف عن الحكم الواقعي المطلوب للباري تبارك ذكره، ولا شَكَّ في أنَّ هذه العملية تحتاج إلى جهد كبير يبذله الفقيه في دوائر علمية متعدِّدة، منها دائرة النظر في الدليل، ومنها دائرة التتبع لأقوال الفقهاء من المتقدمين والمتأخرين والمعاصرين، ومنها دائرة المباحثة من النظراء تارة ومع طلبة البحث تارة أخرى. وبعد قطعه لمراحل البحث والنظر، واستقراره على حكم كلِّي يفتي به المؤمنين، فإنَّ أمرًا ما قد يستجِدُّ في أي وقت من أوقات المراجعات والمباحثات العلمية فيغير رأيه الفقهي.
ولا يقتصر الأمر على المسائل الفقهية المعتادة فقط، فها هو السيد محمَّد باقر الصدر (قُدِّسَ سِرُّه) يقول في نظره السياسي بحكومة الفقهاء من خلال (شورى الفقهاء المراجع) ثُمَّ يَعدِلُ عنها إلى حالة وسطية بينها وبين (ولاية الفقيه) كما بيَّن ذلك في كتبه لحزب الدعوة تحت عنوان (الأسس)، وذلك بعد مناقشات مع خاله الشيخ آل ياسين وأستاذه السيد الخوئي (رضوان الله عليهما عليهما).
لا أريد الاستطراد في ذكر الشواهد ومناقشة ظروف العدول عن رأي لرأي آخر، ولكنَّني أريد التأكيد على أنَّ المراجعات العلمية قائمة بوضوح تام في ميادين القناعات والأفكار دون الثوابت التي لا يمكن أن تتزحزح على الطلاق؛ فبناؤها برهاني يبزغ معرفةً ويمتنع أفوله أبدًا، كثابتات إمكان المعرفة الحقَّة، والتوحيد والنبوة والعدل والإمامة والمعاد، والقيم الأخلاقية.
أمَّا القناعات فقيامها على الاستدلالات التي يَلْتَمِسُ فيها المُستَدِلُّ الكَشْفَ عن الواقِعِ ما استطاع إلى ذلك سبيلًا، ولكنَّه لا يصيب اليقين إلَّا إذا كان الدليل نَصًّا في المعنى، فلا يَحْتَمِلُ غيره.
إذا كان الحال هكذا، فلماذا الاستماتة من البعض في الدفاع عن قناعات قد تتغير يوميًا؟
نعم، من حقِّ كلِّ واحد منَّا الدفاع عن قناعاته وأفكاره، ولكن مع المحافظة على خطوط جانبية وخلفية مفتوحة، يسلكها ما بدا له باد جديد من أمرٍ أو فهمٍ أو ما شابه، وهذا ممكن جِدًّا طالما أنَّ الكلام في القناعات والأفكار، لا في الأصول والثوابت.
فلنتصور المشهد التالي:
فقيِهٌ يقول بجواز الطواف حول الكعبة المشرفة من الطابق الثاني، وآخر يقول بعدم جواز ذلك، ولا شَكَّ في أنَّ لكلٍّ منهما استدلالاته ونظره. ولكنَّ الغريب في الأمر إنَّما هو في جنوح بعض من هذا الفريق وبعض من ذاك لتسخيف كل منهم لرأي الفقيه الآخر، فتتعالى الأصوات وتمتلئ المقروءات بالتشنيع والتسقيط من هذا الفريق لذاك، ومن ذاك لهذا.. ولا نهدأ بعد الحجِّ حتَّى يتجدَّد الاحتراب مع هلال الحجِّ الجديد، مع زيادة في المسقوف والمشموم… ولا آخر..
القضية هنا..
ماذا سيفعل المتقاذِفُون لو أنَّ أحد الفقيهين أو كلاهما غيَّر رأيه الفقهي، فمن يجيز الطواف من الطباق الثاني تراجع لظهور نظر جديد، ومن لا يجيز أجاز لظهور نظر جديد أيضًا!
من الصحيح جِدًّا أن يَتِدَ المؤمِنُ قدمَه في ثوابته ويَتَعَصَّبَ لها، ولكن من الخطأ جِدًّا أن يفعلَ ذلك مع قناعاته الخاصة، فضلًا عن أن تكون قناعات غيره، وهذا بالفعل ما يعانيه المجتمع من جماهيره المتشظية ثقافيًا وفكريًا وسياسيًا وهي تتقاتل بالخطاب والمقال دفاعًا عن آراءِ وقناعاتِ وأفكارِ غيرها، وهذا ما يزيد الطين بلَّةً وعشر!
ثَمَّةُ مشكِلَةٌ أكثر مرارةً.. وبؤسًا، وهي منع المجتمع على أبنائه حق المراجعة للقناعات والأفكار، ومن يفعل تحوَّل في الحكم العام إلى متذبذب ومتناقض.. وأكثر!
صحيح أنَّ كثرة التحولات والتقلبات الفكرية أمر سيء ويكشف عن اضطراب في الشخصية، ولكنَّ المراجعات الجادَّة أمر مطلوب، وتعديل المسار حالة إيجابية، ولكنَّ تشنجات المجتمع منعتها تعسُّفًا فظهرت العصبيات والتأزمات لتأخذ عنوان الشجاعة والبطولة!
لا شيء في خاتمة هذه السطور غير أمنية عنوانها: تعالوا لنهدأ.. بالفعل نحن بحاجة لشيءٍ من الهدوء.
السيد محمَّد علي العلوي
26 رجب 1438 هجرية