الخُلعُ..
هو مالٌ تبذله الزوجة ليخالعها عليه زوجها بعد أن تصِلَ في مشاعرها تجاهه إلى درجة الكُره، فلا تطيق الاستمرار في علاقتها الزوجية معه.
تندرج تحت عنوان الخُلع مجموعةٌ من المسائل الفقهية، منها رجوع الزوجة عن بذل المال، وهنا سؤالٌ مُفتَرضٌ من زَوجٍ مرَّ مع زوجته بهذه الحالة تمامًا، ولكنَّه وقع في حيرة بعد رجوع زوجته عن بذل المال، فهل يُطلِّقها حتَّى مع عدم البذل؛ على اعتبار أنَّ شرخًا عاطفيًا عظيمًا قد حدث بينهما بطلبها الخُلع، فهي كأنَّها تقول: كرهتُكَ ولا أطيق الحياة معك، إلى درجة استعدادي لدفع المال في سبيل أن أبِينَ منك!
فهل يرجع لو رَجَعَتْ؟
قال أحدُهم: لا يستحق أن يُسمَّى رجلًا لو رجع لها.
وقال آخر: يرجع بكلِّ تأكيد، وعفا اللهُ عمَّا سلف.
ولكنِّي أقول:
من أسوأ العقليات عقلية الإطلاق والتعميم، فهي عقلية غير قادرة على التمييز، وبالتالي تختلط عندها الأشياء فلا يكون للموضوعية الظرفية مكانٌ في حساباتها، فتذهب في أحكام تعسفية صِبغتُها الهدم والتخريب، وهذا أمر سيء جِدًّا.
نعم، كانت مستعِدَّةً لبذل المال لِقاء انفصالها عنه بعد أن وصل بها الحال معه حدًّا لا يُطاق، ولكن ينبغي لنا الالتفات إلى أنَّ لكلِّ هذه الحالة مجموعة من الظروف المتغيِّرة في الغالب، بحيث أنَّ شعورًا سلبيًا قد نشأ في البداية، ثُمَّ تطور أو تراكم مع غيره، ومن الطبيعي في مثل هذه الظروف أن تدور الأمور في بين فعل وردِّ فعل، حتَّى انتهت إلى قرارٍ من الزوجة بالبذل للخُلع.
الآن هي رجعت عن قرارها، فهل يرجع هو أو لا؟
هذا رهين أمور..
كيف كانت المشاعر بينهما قبل بداية المشاكل؟
إن كانت المشاعر باردة من الأصل، فهل كانا على حالة من التوافق والاستقرار حتَّى مع غياب المشاعر العاطفية؟
إن كان الجواب بلا، فالظاهر أنَّ العلاقة بينهما فاقدة لمقومات العلاقة الزوجية الطيبة، وإن كان الاستقرار حاضرًا تحوَّل النظر إلى مستوى القابليات للمحافظة عليه إن لم يكن تطويره إلى الأفضل.
أمَّا إذا كانت العلاقة بينهما قبل المشاكل طيبَةً دافِئَةً بمشاعر الحبِّ، انتقل الكلام إلى طبيعة المشكلة وأصلها والأسباب التي أدَّت إلى وصول الزوجة إلى هذا الحدِّ من الرفض لاستمرار الحياة مع زوجها، ومن بعد ذلك ينظر الزوجان في قابلياتهما لتجاوز هذا المنعطف الخطير.
لا أشكُّ في استحالة نسيانهما لما حدث، وخصوصًا الزوج؛ إذ أنَّ شعورَ الإنسانِ بالرفض من آخر شعورٌ كريه، فضلًا عن أن يُرْفَضَ فعلًا.. وماذا لو كان الرافِضُ للمرفوض على مستوى من القرب العاطفي؟!
إنَّه شعورٌ سيءٌ للغاية، ولكن..
يبحث الإنسانُ العاقِلُ في حياته وعلاقاته الاجتماعية عن البناء دائمًا، ويتجنَّب القطع والهدم ما استطاع، ويشتدُّ هذا الاهتمام كلَّما كانت العلاقة على مستوى من الطيب والنقاء، وتشتدُّ بشكل أكبر وبعمق أعظم إذا كانت تحت عنوانٍ بِرُقِي عنوان (الزواج)، وأنا هنا لا أُنكِرُ قسوة الجرح الذي أحدثته الزوجة في قلب زوجها بإقدامها على خطوة (الخُلع)، كما ولا أُنكِر ما يكون قد أحدثه هو في مشاعرها تجاهه من تشويه وربَّما تمزيق، غير أنَّ دعوتي دائمًا لعقلية احتضانية تدفن الألم وتستوعب الأمل مُتخَلِّصَةً من ضيق التأزُّمِ، وهذا في الواقع من أرقى ما قد يصل إليه الإنسانُ في إنسانيته..
إنَّه وبالرغم من دماءٍ أُريقت وأرواح أُزهِقت، أطلقها من شموخ روحه الطاهرة، فقال (صلَّى الله عليه وآله): “من أغلق بابه وألقى سلاحه أو دخل دارَ أبي سفيان فهو آمِنٌ”. وكذلك قال أمير المؤمنين (عليه السلام) يوم البصرة: “لا تَسبُوا لهم ذُرِّيَةً، ولا تُتِمُّوا على جريحٍ، ولا تتبعوا مُدبِرًا، ومن أغلق بابه وألقى سلاحه فهو آمِنٌ”.
نحن في حاجة إلى ملاحظة رقي هذه القلوب في التعامل مع الأعداء الذين لم يدَّخروا جهدًا في سبيل إيذاء الرسول الأكرم (صلَّى الله عليه وآله) ومن معه من المسلمين، وفي تصوري أنَّ ذلك كان لنفس قيمَتي التجاوز والاحتضان أوَّلًا وبالذات، ولأغراض اجتماعية وسياسية ثانيًا وبالعرض.. ونتذكر دائمًا: (وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى).
فلنترك التشنجات، ولنعالج مشاكلنا بهدوء الحِكمة وحزمِ الطيب وحسمِ الابتسامةِ..
السيد محمَّد علي العلوي
27 رجب 1438 هجرية