عُقْدَةُ (السَلَامَةِ) النَفْسِيةِ

بواسطة Admin
0 تعليق

اضطراب

من أوضح الواضحات اختلاف الناس في أفهامهم وأمزجتهم وطباعهم؛ لاختلاف عموم ظروفهم الاجتماعية والتربوية وما نحو ذلك، ولو أنَّ شخصين عاشا نفس الظروف وفي بيئة واحدة، فإنَّ موقفًا واحدًا يتعرَّض له أحدُهما كفيل بأنْ يُميِّزَه عن الآخر ويجعله مختلفًا، وهذا لو سلَّمنا بإمكان التساوي المطلق بين شخصين حتَّى على المستوى الجيني الوراثي!

تدلُّ الاختلافات المزاجية والذهنية وما نحوها بين الناس على أنَّ الإنسان صنيعة ظروفه الحياتية، فهي التي تُشكِّلُه نفسيًا بالمعنى الأعم من الذهن والمزاج والذكاء وما إلى ذلك، ثُمَّ أنَّه يبدأ بالتشذيب والتهذيب والتأدب والتخلق بحسب ما يمتلك من أسس وأدبيات تقدمها له عقيدته الدينية أو انتماؤه الاجتماعي بشكل عام.

هكذا هو الإطار العام للتكون الشخصي للإنسان، أختصره في العبارة التالية:

(الإنسان في تَشَكُّلِه الأوَّل صنيعة بيئته الاجتماعية بالمعنى الأعم).

تتميز البيئات الاجتماعية باستمرارها على خطِّ التجارِب واكتساب الخبرات، فهي متغيرة متحولة في اتجاهات متعددة، فقد يكون المجتمعُ المحافظُ يومًا، متحلِّلًا بعد حين، وقد يكون اللقيطُ حاضِرَةً علميَّةً في ظرفِ جيلٍ أو أكثر، وهكذا لا تبقى المجتمعات على حال أبدًا، ولقاعدة التبادل السلوكي بين المجتمع وأفراده، فإنَّ الأفراد يتغيرون في ثقافاتهم وأدبياتهم تبعًا لتغيُّر المجتمع، وتَنْصَبُّ هذه التغيُّرات في قنوات الأساليب التربوية في الأسرة والمدرسة والقانون والتشريع وعموم السياسات التي تحكم المجتمع. وتبعًا لكلِّ هذه الأجواء المتحوِّلة يتأثَّرُ الفَرْدُ وخصوصًا على المستويين السلوكي والمِزاجي، وهذا التأثر وحتَّى لو كان محدودًا جدًّا، فإنَّ ظهوره في موقف لحظي داخل الأسرة قد يؤثِّر بعمق في نفسِ طفلٍ لا زال يحبو، يكبر ويكبر معه الأثر النفسي، ويتحول سريعًا إلى عقدة نفسية لها علاماتها ومظاهرها وإفرازاتها ونتائجها.

إذن، من الطبيعي جِدًّا أن يحمل الإنسانُ الطبيعي في صدره مجموعة كبيرة من العُقَدِ النفسية المعلولة لكلِّ لحظةٍ عاشها فرحًا أو حزنًا أو فرجًا أو ضيقًا أو أزمة أو أريحية أو غير ذلك، ومن لا يكون كذلك فهو إمَّا أن يكون معصومًا من التكوين كالنبي وأهل بيته (عليهم السلام)، وإلَّا فهو يعيش تحت وطأة أخطر أنواع المرض النفسي؛ إذ أنَّ السلامةَ النفسيَّةَ في هذه الدنيا ممتنعة التحقق إذا كان معناها سلامة النفس من العُقَدِ مطلقًا.

نعم، نحن نبحث دائمًا عن السلامة النفسية، ولكن بأي معنى؟

هناك حالة نفسية تُسمَّى بالاضطراب الحَدِّي، أو (اضطراب الشخصية الحَدِّية)، من مظاهرها مشاعر لفراغ الداخلي مهما حقَّق المصاب من نجاحات وإنجازات، ومن مظاهرها الميل نحو التخريب الذاتي في اللحظة القريبة من تحقيق الهدف، كأن يُقدِمَ -مثلًا- على تصرُّفٍ يؤدي به إلى الطرد من الوظيفة قبل مرحلة التقييم الإداري الذي كان من المفترض أن يكون في صالحه، أو كأن يعمد إلى إنهاء علاقة إذا ظهر له أنَّها قابلة للاستمرار والنجاح؛ إذ أنَّ كثرة التوهمات سِمَةٌ تُمَيِّزُ هذه الشخصية.

الآن..

إذا اكتشفَ في نفسه مثل هذه العلامات، فهنا أمران:

الأول: يعمل مع نفسه بصدق على أن لا تتحول هذه الاضطرابات النفسية إلى سلوك عملي، ومن أهم ما يعين على ذلك القدرة على التفكير المنصف الواعي.. مثلًا:

  • لمعالجة الفراغ النفسي:

المصالحة الحقيقية مع الذات، وقوامها: القناعة والحب والرضا، فأنا أسمر البشرة، قصير القامة، لا أملك ذهنية رياضية جيدة، ولا صوتًا يؤهلني للخطابة الحسينية. ولكنَّني قادرٌ على التسامح والتجاوز عن أخطاء الآخرين، وأمتلك ذهنية تحليلية فلسفية جيِّدة، وأتمكن من القاء المحاضرات بأسلوب مُسْتَحْسَن.

أحتاج فعلًا للاقتناع بشخصيتي على مستوى الأصول والقواعد، وعليَّ أن أهتمَّ بحبِّها واحترامها عن رضى وسرور، ثُمَّ أُركِّز جانبًا من جهودي في تنمية ما أملك من مزايا وقدرات، وأحدد أهدافي وأرسم الطرق لإصابتها بما يوافق شخصيتي وما أتميز به.

قد لا يغادرني الشعور بالفراغ النفسي، ولكنَّ الرهان على أن أكبحه ولا أسمح له بالتحول إلى سلوك عملي يقتلني.

  • لمعالجة أفكار التخريب الذاتي:

خوف من الفرح، حتَّى أنَّ مشاعر المظلومية والتعاسة النفسية أصبحت هوية تحافظ عليها هذه الشخصية وتخشى التخلي عنها!

هي أفكار تجتاح النفس وتعصف بالفكر.. فلتكن كذلك، ولكن إذا اكتشفتَها فلا تسمح لها بالتحول في حياتك إلى سلوك عملي، بل عليك بالعمل على خلاف ذلك، بأن تمضي في علاقاتك الاجتماعية ومساراتك العلمية والعملية، وإن لم يحالفك النجاح مرَّة أو مرَّتين أو عشر، فإنَّ ذلك لا يعني أكثر من معادلات تحتاج منك إلى مراجعة وتقييم وتقويم، ولا تعني، بل ولن تعني أنَّك إنسان تعيس وغير موفق.

إنَّ معاندة هذه الأفكار غير الواقعية لهي مِنْ أهم وأقوى وأنجع الإجراءات العلاجية على الإطلاق.

لمعالجة التوهمات:

يشعر المضطرب الحَدِّي بحالة دائمة من الخوف والقلق من الناس، ويعتقد بأنَّ هناك من يتحدث عنه بسوء، وهناك من يحيك المؤامرات ضده!

فلتبقى هذه الأفكار في إطار الصدر، ولكن على مستوى التفكير المنطقي فعلى المضطرب أن يعي جيِّدًا انشغال الناس بأنفسهم، وأنَّه ليس محورًا في حياة الآخرين. وإن كان هناك من يغتابه أو يحيك المؤامرات ضدَّه، فليوكل أمر نفسه إلى الله تعالى، ثُمَّ يمضي في طريق العمل والبناء. وإن حصل بالفعل وتحقَّق ما كان يخشاه، فليحمد ربَّه ويسأله التيسير، ويفكر بموضوعية تكفل معالجات صحيحة لما يعانيه مع الآخرين. ومهما كان الأمر فإنَّ مساحات المضي على طريق العمل والبناء أوسع بكثير من مساحات الغيبة والمؤامرات ضد شخص واحد.

ثانيًا: الحرص الصادق على عدم التوريث النفسي:

عندما يكتشف الإنسانُ عُقَدَه النفسية، فمن الحري به الاهتمام بعدم توريثها لأولاده وكل من يقعون تحت سلطته التربوية مطلقًا، بل من كمال الحِكمةِ أن يعمل على بناء نفسي صحي في أولاده وتلامذته ومن في حكمهم، فتتوسع دوائر الصحة النفسية في جيل وأجيال، وتنحسر فيه ومن قبله.

من المهم هنا التنبيه على ضرورة تحليل العُقد النفسية بما يوصل إلى أسبابها التاريخية، فهذا من شأنه أن يوقف الإنسان على الأخطاء، فلا يُكرِّرها مع الآخرين. وعليه أن يكون صادقًا جدًّا في تحليلاته.

علينا أن لا نُضخِّم مسألة الحالة النفسية بما يُخرِجها عن حدِّها الطبيعي، فكلنا، وبشكل طبيعي جِدًّا نحمل مجموعات كبيرة من العُقَد التي ينبغي أن لا نسمح لها بالتحول إلى أمراض، وأمارة ذلك ظهورها في سلوكياتنا العملية. والأمر كلُّه بأيدينا، وذلك قوله تعالى: (فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَاقَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا)، وقد قال رسول الله (صلَّى الله عليه وآله): “عمَّالكم أعمالكم“، ولذلك فـ: (إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ).

 

السيد محمَّد علي العلوي

25 رجب 1438 هجرية

 

 

       

مقالات مشابهة

اترك تعليق


The reCAPTCHA verification period has expired. Please reload the page.