يُشِيرُ القُرآنُ الكَريمُ في أكثر من موضع إلى انحصار الخير والصلاح في القِلَّة دون الكثرة، فيقول: (وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ)، وفي التأكيد على ملازمة الكثرة للضلال، قال: (لَقَدْ جِئْنَاكُم بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ)، ولكنَّ هذه الحالة تُقَابَلُ بضِدِّها تمامًا في عهد إمامنا بقية الله المهدي بن الحسن (أرواحنا فداه)، وهذا ما تفيده مُفردَةُ الامْتِلاءِ في قوله (صلَّى الله عليه وآله): “يَمْلأُ الأرْضَ قِسْطًا وعَدْلًا، كَمَا مُلِئِتْ ظُلمًا وجورًا”، والقول المهم للإمام أمير المؤمنين (عليه السلام): “لو قَدْ قَامَ قَائِمُنَا لأنْزَلَتِ السماءُ قَطْرَهَا ولأخْرَجَتِ الأرضُ نَبَاتَها وذَهَبَتِ الشَحْنَاءُ مِنْ قُلوبِ العِبَادِ، واصْطَلحَتِ السِبَاعُ والبَهَائِمُ، حَتَّى تَمْشِي المَرْأةُ بَينَ العِرَاقِ والشَامِ لا تَضَعُ قَدَمَيهَا إلَّا على نَبَاتٍ، وعلى رَأسِهَا زِنْبِيلَهَا، لا يُهيجُهَا سَبعٌ ولا تَخَافه”.
هل يمكن للمجتمع البشري، أو، هل نتوقع من المجتمع البشري أن يصِلَ إلى هذه الحالة المتقدمة من الاستقرار والأمن قبل ظهور الإمام (عليه السلام) بحيث أنَّها تعمُّ حتَّى السباع والبهائم؟
هل نتوقع ذلك، والحال أنَّ وتيرة الاستعداءات بين البشر آخذة في التزايدِ كل يوم، وما نفيق من أهوالِ فتنةٍ إلَّا وتَعَقَّبتها أهوالُ أخرى؟!
على مستوى الإمكان، فإنَّ هذا غير ممتنع إذا عرفنا مقدِّماته الموضوعية، ومن أهمها ما في قوله تبارك ذكره: (وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ)، وقول أمير المؤمنين (عليه السلام): “وذَهَبَتِ الشَحْنَاءُ مِنْ قُلوبِ العِبَادِ”، وقول الإمام الباقر (عليه السلام): “إذا قَامَ قَائِمُنَا وضَعَ اللهُ يَدَهُ على رؤوسِ العِبَادِ فَجَمَعَ بِهَا عُقُولَهُم وكَمُلْتْ بِهِ أحَلامُهُم”.
تَسْجِيلُ تَجرِبَةٍ:
مَنَّ اللهُ سبحَانَه وتعالى عليهم بصُحْبَةٍ طيبَةٍ استوعبت مساحات واسعة من حياة كلِّ واحدٍ منهم، فَمِنْ مجلس الدرس إلى حلقات المباحثة، إلى فترات الراحة والملاطفة، مرورًا ببعض ساعات الترويح عن النفس بشيء من الرياضة وما شابه.
ساد بينهم شعورٌ جميل بالأخوة وقرب القلوب، حتَّى صار خوفهم على بعضهم البعض خوفًا حقيقيًا، وحبُّ بعضهم الخير لبعض حُبًّا صادِقًا، فأمسوا مُستَغنِين عن حَكَمٍ يَضْبِطُ مخالفةً أو يفصلُ في نزاع، وذلك لأنَّ المُخطئُ منهم يبادر بالتصريح عن خطئه دون الحاجة إلى أن يسبقه أحدٌ بِتُهمَةٍ أو نَفيِهَا، وهو مُصدَّقٌ في سكوته وإن ظنَّ الآخرون خلاف ذلك، وهو قولُ أبي الحسن الأوَّل (عليه السلام) لمحمَّد بن الفضيل: “يا مُحمَّد، كَذِّب سمعك وبصرك عن أخيك”.
نعم، بينهم مصالح مشتركة، نسأل الله تعالى أن تكون لآخرتهم، ولكنَّها مصالح قد يُحقِّقُها كثيرٌ مِنهم في مواقع أخرى وبشكل أكثر ظفرًا من جهة الدنيا ومكاسبها، غير أنَّ هذا الاحتمال مُنْتَفٍ أصلًا؛ إذ أنَّ القلوب أبعد ما تكون عن الغل والحسد والجري وراء المصالح الشخصية الضيقة..
ليس للمال من دَورٍ في بناء هذه الصُحبَة الطيبة، ولا ذِكْرٌ بين أهلها لمصالح الدنيا الزائلة.. لا وجاهةٌ حِزبيَّةٌ، ولا بُرُوزٌ تياري..
هي فقط قلوبٌ اختارت الثقلين المُقدَّسين طريقًا ومنهجًا، وعلِمَتْ بعدم إمكان ذلك ما لم تُفرَّغ من الأنانية وأصولها ومشتقاتها.. وهذا أيضًا لا يكفي ما لم تمتلئ بحبِّ الخير للمؤمنين.
هل هي أفرادٌ اجتمعوا؟
ربَّما يكون كذلك، ولكنَّه جوابٌ غير دقيق، ولا يفي بما تريده هذه السطور.
إنَّما هي أجواءٌ يستقيمُ فيها المُوَائِمُ، ويَخْرُجُ عَنْهَا ضِيقًا وحَرَجًا غَيرُ المُوَائِم، وهذا هو شأن الأجواء الثقافية، فالفرد منَّا قد ينسجم مع جماعة لا التقاء فكري بينه وبينها، ولكنَّ أجواءها الثقافية تحتضنه في راحة منه واستقرار، ومن هنا تأتي أهمية وخطورة الأجواء الثقافية، وقد تطرقتُ لهذا الأمر قبل سنوات عندما كتبتُ وتحدثتُ عن استقطاب الجمعيات اليسارية للشباب من أولاد وبنات المتدينين الملتزمين، وأرجعتُ ذلك حينها إلى الأجواء الثقافية الهادئة التي توفرها تلك الجمعيات لزوارها وروادها، فالشاب هناك يجد لنفسه مساحات واسعة للتعبير عن الرأي وطرح الأسئلة، ولا يستكبر ولا يتعالى عليه أحد حتَّى رئيس الجمعية!
هو يختلف معهم في فكره وما يعتنق من عقائد، ولكنَّه ينجذب لأجواء الحوارات الهادئة وثقافة حرية الرأي وما شابه، وهي الأجواء التي تميز تلك التجمعات، وربَّما تكون من أهمِّ الأسباب التي تؤدي به إلى تحولات فكرية قد تكون واسعة.
تنكسر الأجواء الثقافية في اللحظة التي يُفْقَدُ فيها التمييز بين الثقافة والفكر، فتختلط، ويُفرضُ الفِكرُ ثقافةً، وتكون هي الفكر..!
فهمُ الشيء وحذقُهُ والعمل بمقتضياته ثقافةٌ تبدأ فِكرَةً ففِكرًا فعقيدةً تُعتنق، إن تحولت إلى سلوك عملي فهي ثقافة، وبالتالي فإنَّ كلَّ ثقافةٍ فِكرٌ، ولا عكس.
مِثَالٌ مُبَاشِرٌ:
في مجتمعنا، هناك ألوانٌ وأصنافٌ من المجاميع الفكرية بين بعضها تباين واضح..
عندنا المتدين، وعندنا غير المتدين، وتحتهما تشعبات يصعب حصرها، ولكنَّ الكثير يجتمعون تحت ثقافة واحدة اسمها (كيفي)!
ولذلك، ينفر الأكثر من أي مكان يقال له فيه للواحد منهم: أنت خطأ، ويرتاح إلى أي تجمعٍ يقال له فيه: (كل واحد كيفه).
عود على بدء..
يقول الله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ).
“يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ”، بمختلف توجهاتكم الفكرية ومرجعياتكم “ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَافَّةً” وهي ولاية أهل البيت (عليهم السلام) كما في قول أبي جعفر الباقر (عليه السلام)، وحتَّى تكونوا في سلمٍ حقيقي، لزم أن تنكروا مصالحكم وأنانياتكم وتعصباتكم لمصلحة أجواء الولاية، وهي أجواء السلم والسلام بينكم. واعلموا جيِّدًا أن انتفاءها بينكم يكشف عن خلل في الولاية التي يفترض أنكم فيها، وبذلك يظهر اتباعكم لخطوات الشيطان التي نهيتم عنها.
في ثقافة السِلم الولائية يتلاشى الغِلُّ من الصدور، وتهدأ الاختلافات.. وتنطلق قافِلَةُ الإبداعات القِيَمية والترقيات المبدئية.. كما هو الحال مع الصحبة الطيبة التي سجلتُ تجرِبتها قبل قليل.. هذا ممكن.. بل ممكن جدًّا، وبالرغم من إمكانه، فإنَّ الأكثر لن يفعلوه..
أتردون لماذا؟
لأنَّ الحاكم عندهم هو: (الأنا)، وإن غُلِّفت بـ (هم).. (وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ).
السيد محمَّد علي العلوي
24 رجب 1438 هجرية