“إنَّ تصورَنَا لِمَوضُوعٍ، ما هو إلَّا تصورنا لِمَا قَد ينتج عن هذا الموضوعِ مِنْ آثَار عَمَلِيَّةٍ لا أكثر”.
اشتَغَلَ الغَرْبُ كَثِيرًا بالفِكر من حيث مادَّة الثقافات وكيفية تَشَكلها، وتحديد جهة أو جهات الاستقبال والإرسال المعرفي في الإنسان، ويبدو لي أنَّ هذه الاندفاعات العلمية الهائلة التي تحرَّكت بقوة بين ألمانيا وفرنسا وبريطانيا وأمريكا بشكل خاص جاءت نتيجةً لإرادة قيادية قوية استوعبت مجاميع النخب الفكرية التي يقوم عليها البناء السياسي الشامل، وكانت الغاية -في تصوري وبحسب فهمي- هي قيادة العالم.
أعتقد بأنَّ البناء السياسي في الغرب قام مؤخرًا على نظريتين فلسفيتين، هما:
الأولى: التحدِّي والاستجابة:
هي نظرية للبريطاني أرنولد توينبي (1889-1975م). تقوم فكرتها على نوع الاستجابة لمواجهة التحديات التي يواجهها الإنسان فردًا ومجتمعًا، أمَّا الفرد فيكون انطوائيًا إذا كانت استجابته بالنكوص للماضي تعويضًا عن مواجهة الواقع الصعب، وعلى العكس من ذلك يكون انبساطيًا إذا اعترف بالمشكلة واشتغل بمواجهتها للتغلب عليها.
ويقيس توينبي المجتمع على الفرد بعد ملاحظته ودراسته لحضارات مثل حضارة الرافدين ووادي النيل، فانتهى إلى أنَّ هروب الجماعات البشرية من مواجهة التحديات الطبيعية والبيئية وما نحوها جعلها تراوح في نفس دائرتها الثقافية دون إبداع حقيقي يحولها إلى خطوط الترقي والحضارة، وهي التي يصيبها المشتغلون بدراسة التحديات ومواجهتها للتغلب عليها بشتَّى الطرق الممكنة.
عندما نتأمَّلُ هذه الفلسفة، تَنْكَشِفُ لنا جَوانِبُ من الأسباب التي تقف وراءَ إصرار الدول العظمى على خلق أعداء لها من جماعات ودول تحافظ عليها، وتقويتها عسكريًا واقتصاديًا؛ فبحسب النظرية يكون مثل هؤلاء الأعداء شريان تغذية رئيسي لتلك الدول العظمى.
الثانية: البراغماتية:
وتُسَمَّى أيضًا الذرائعية والعَمَلانِيَّة، ويُنسَبُ إبداعها للسيميائياتي والفيلسوف الأمريكي شارل ساندرز بيرس (1839-1914م). وفيها أنَّ نتيجة العمل هي المعيار الوحيد للحقيقة، وهذا معنى قوله في العبارة التي صدَّرتُ بها المقال: “إنَّ تصورَنَا لِمَوضُوعٍ، ما هو إلَّا تصورنا لِمَا قَد ينتج عن هذا الموضوعِ مِنْ آثَار عَمَلِيَّةٍ لا أكثر”!
أعتقد تمامًا بصحة هاتين النظريتين إذا كانت الغاية من الفِكر والعمل هي تحقيق المكاسب الدنيوية بِشَتَّى أنواعها، وأدَلُّ ما يدلُّ على صِحتهما هذه السيطرة الأحادية التي ترضخ لها مجتمعات العالم، حتَّى أنَّ الموافق لهما والمخالف يُفَكِّر ويتحرك بحسبهما ووفقًا لأسسهما، تارة عن علم، وأخرى دون انتباه أصلًا، فالثقافة المجتمعية العالمية التي يعيشها إنسان اليوم قائمة على مجموعة قوانين منها قانوني توينبي (التحدي والاستجابة) وشارل ساندرز بيرس (البرغماتية)، بل وأكثر من ذلك حضورهما في رؤى يطرحها بعض علماء الإسلام!
يختلف الأمر إذا كانت نتائج المساعي مُردَّدة بين الدنيا والآخرة (وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى * ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاء الأَوْفَى * وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنتَهَى).
عندما نتتبع نصوص الثقلين المُقدَّسين، ونتأمَّل سٍيَرِ المعصومين (عليهم السلام) فإنَّنا نقف على أمر في غاية الأهمية، وهو التقنين الإسلام ثقافة وفِكرًا بالقياس على قانون (الحِكمة)، وهو قانونُ وضعِ الشيء في موضعه الصحيح، وهذا يتغير بحسب الظروف الموضوعية الدقيقة، كما في المواقف العملية للمعصومين (عليهم السلام) وخصوصًا في الميدان السياسي، ومن الأخطاء العظمى محاولة قراءة تلك المواقف من خلال زاوية ثقافية واحدة، كزاوية المواجهة أو زاوية الانسحاب؛ إذ أنَّ الإمام المعصوم (عليه السلام) يسالم، ويواجه، ويقارع، ويُناظر، وينسحب، وينغلق، وينفتح، بحسب الظروف الموضوعية، وهي مقدِّمة أساس للحِكمة.
يقِفُ التطلعُ للحِكمة في مواجهة مشكلة دقيقة جدًّا، وهي مشكلة نفس الحِكمة إذا اشتبه أمرها.
فلنُدَقِّق قليلًا..
يقول الله تبارك ذكره: (يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاء وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا).
تتحرك الحِكمَةُ في إطارٍ مُحدَّدٍ بنصوصٍ قُرآنية، وهو الإطار الجامع للمُعلِّم والمُتَعلِّم، ويكون الأول في الأصل خالقَ الخلقِ سبحانه وتعالى، والثاني المبعوث من قِبَلًه، ومن الأمثلة قوله تعالى (وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ).
ثُمَّ يأخذ الثاني دور الأول، والناس دور الثاني، ومن هذا المقام قوله جلَّ في علاه (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ).
تأتي المشكلة إذا أخطأ الإنسانُ من غير المعصومين (عليهم السلام) التقديرَ، فشخَّص وحَكَمَ، وكان في نظره خاطئًا، والحال أنَّ مصير غيره مرتبط به، فينقلب الخير الكثير إلى شرٍّ عظيم، والسبب هو عدم إصابة الإنسان للحكمة، فيضيع ويُضيِّع. وهذا ما يقعُ حتمًا عند القول بقانونية النظريتين؛ حيث إنَّ النتيجة قد تكون كاشفة عن العمل من حيث الصحة والخطأ، وقد لا تكشف عن ذلك. كما وأنَّ مواجهة التحديات مطلوبة تارة، وهو قول أمير المؤمنين (عليه السلام): “إذا هبت أمرًا فقع فيه، فإنَّ شدَّة توقيه أعظم مما تخاف منه”، وقد تكون الحكمة في التراجع والانسحاب، وهو ما يُفهم من مجموعة أحاديث، منها رسالة الإمام الصادق (عليه السلام) إلى أصحابه، وفيها: “وعليكم بمجاملة أهل الباطل. تَحَمَّلُوا الضيم منهم، وإيَّاكم ومماظتهم. دِينُوا فيما بينكم وبينهم إذا أنتم جالستموهم وخالطتموهم ونازعتموهم الكلام، فإنَّه لا بُدَّ لكم من مجالستهم ومخالطتهم ومنازعتهم الكلام بالتقية التي أمركم الله أن تأخذوا بها فيما بينكم وبينهم، فإذا ابتُليتُم بذلك منهم فإنَّهم سيؤذونكم وتعرفون في وجوههم المنكر، ولولا أنَّ الله تعالى يدفعهم عنكم لسطوا بكم. وما في صدورهم من العداوة والبغضاء أكثر مما يبدون لكم. مجالسكم ومجالسهم واحدة، وأرواحكم وأرواحهم مختلفة لا تأتلف. لا تُحبُّونهم أبدًا ولا يحبونكم، غير أنَّ الله تعالى أكرمكم بالحق وبَصَّرَكُمُوه، ولم يجعلهم من أهله، فتجاملونهم وتصبرون عليهم وهم لا مجاملة لهم ولا صبر لهم على شيءٍ…”.
إنَّ للظروف الموضوعية بالغ الأهمية في تحديد المواقف واتِّخاذ القرارات، وقد ضَعُفَتِ الأمَّة عن القراءة الوافية لها؛ وذلك لضيق الصدور ووهن البال، فصارت إلى التغير التابع دون شعور أصلًا بمسؤولية السعي نحو الاستقلال!
أوجِّه رسالة خاصة لطلبة العلوم الإنسانية تحديدًا..
تدرسون في الغالب نظريات علماء الغرب، وإن أرجعوكم في بعض المباحث لابن خلدون وابن سينا وابن رشد والفارابي، إلَّا أنَّ ذلك لا يكفي في تقويم فكركم المعرفي والعلمي، ولا مخرج إلَّا بجعل كتبنا الحديثية، وعلى رأسها كتاب الكافي لشيخنا الكليني (طاب رمسه)، مرجعًا معياريًّا أوَّلًا وأخيرًا لكلِّ مطلبٍ أو مبحثٍ أو مسألة تدرسونها، وثِقوا أنَّكم بعد حين سوف تتمكنون من صياغة علوم إنسانية على رؤى إسلامية متينة، فتكون طريقًا للإيمان وترسيخ العقيدة، بدل ما أنَّ بعضها اليوم طريق للزندقة والإلحاد.
كما وكونوا على ثقة بأنَّكم أقرب إلى طريق التِيه والضلال كلَّما واصلتم الدراسة ولم تكونوا في حال امتزاج صحيح بمياه معين المعرفة الصادقة، وما كانت، ولن تكون إلَّا عند الأنوار الطاهرة (صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين).. وفقط.
السيد محمَّد علي العلوي
22 رجب 1438 هجرية