مقدِّمة مصداقية: حقيقية الاعتبار، المشاعر مثالًا

بواسطة Admin
0 تعليق

1234

 

طالما شُغِلَ بالي بمباحث الحقيقة والاعتبار على اتِّساع موارد تطبيقاتها، من العلاقة بين الألفاظ ومعانيها، إلى الانتزاعات (الذهنية) للمفاهيم والمعاني الحرفية من المواضيع الخارجية، مرورًا بالعلاقات الاجتماعية، والافتراضات وما نحو ذلك. ولم أكن لأطمئن إلى استسهال ما يُعبَّر عنه بالاعتبار والاستهانة بالوجود الذهني، والذي كنت على ميل إليه هو القول بالحقيقة مطلقًا، وقياسها على إمكان التحقق وليس الوقوع، فالقول بالعنقاء -مثلًا- يراد به المدلول الحقيقي الممكن، وهو موجود حقيقة وواقعًا في نشأة وجودية غير هذه التي نحن فيها، وهكذا الأمر في كلِّ موجود ذهني مطلقًا؛ فالذهن لا يتصور على نحو الامتناع التكويني غير ما له وجود تحليلي في بعض صفحاته، وأمَّا تركيب الصور المفردة في صورة واحدة خارجًا فهذا يحتاج إلى قوَّة ناقلة من نشأة سابقة إلى نشأة الأعيان المُتشخِصة.

وأمَّا بالنسبة للقضايا العدمية كاستحالة اجتماع وارتفاع النقيضين، أو استحالة شريك الباري، فهي بيانات ذات مدلول واحد مَعَ بيانات حتمية وجود أحد النقيضين، والغنى المطلق للباري جلَّ في علاه، وهاتان القضيتان هما هما العدميتان على نحو البدل.

إنَّني بصدد كتابة بحث استدلالي مُفصَّل في هذا الموضوع، وقد استحسنتُ أن أُقدِّم له بمقال أُنزله منزلة المقدِّمة المصداقية كتمهيد فكري للقارئ الكريم، ولن التزم هنا موازين البحث العلمي بمعناه الأكاديمي، حيثُ إنَّني أردتُ لهذه المقدِّمة أن تقترب قدر الإمكان من النَفَس المقالي.

  • تساؤلات على طريق النظر:

يتأثر أو يؤثر الجِسمُ المادِّي عند اصطدامه بآخر، فإن كان هو الأقوى أثَّر، وإلَّا تأثر؛ والسبب مُحرَّرٌ في علم الفيزياء، وكذا يتأثر الماء غليانًا بالنار إذا وصلت إليه وبقيت متَّصِلة به حتَّى يتصاعد التأثير ويتحقَّق الغليان، ومثل ذلك سائر الالتقاءات المادية التي نُدرِكها بحواسِّنا المعروفة.

  • السؤال: كيف تتأثر النفس البشرية؟

كلمة طيبة تُقال فينشرح لها الصدر، وفي لحظة ينقبض لكلمة أخرى. وقِس على ذلك عشرات المواقف التي تُؤثِّرُ مباشرةً في النفس فيتغير المِزاج وتنقلب الأحوال بأشدِّ ما يترك أثر الضرب وسائر التعديات الجسدية، فكيف يتحقق الأثر؟

صديق يترك صديقه لسبب أو لآخر، فتتأثر النفس.. زوجان يختلفان، فتهيج بهما الذكريات ويجتاح نفسيهما الحزن والكآبة!

شخص سيء يؤذي الناس، فتكرهه النفس!

  • السؤال: إذا كانت العلاقة اعتبارية فقد تزول في أي لحظة ومن دون أي مقدمات، فكيف نفهم التأثر؟ وإذا كانت العلاقة معدمة أصلًا مع الشخص السيء، فكيف نفهم كره النفس له؟
  • دعوى البحث:

أذهب إلى أنَّ العلاقة بين إنسانٍ وآخر تنشأ حقيقة وواقعًا بمجردِ التعاطي بأي شكل من أشكاله الثقافية أو الفكرية أو الاجتماعية المباشرة أو غير المباشرة، وهذه العلاقة وجود حقيقي تدركه حاسُّة سادسة في عَرَضِ الحواسِّ الخمس المعروفة، وهي الحاسَّة المسؤولة عن المدركات غير المُشخصة للحواس الخمس، فالحب والبغض ومطلق العلاقات، كلُّها وجودات حقيقية مثل الطاولة المُدرَكة بالباصرة والحرارة المُدركة باللمس والمرارة المدركة بالذائقة.

أذهب في بنائي إلى أنَّ ظرف الوجود الخارجي الواقع تحت الحسِّ البشري يشتمل على موجودات تُدْرَكُ بالحواس الخمس المعروفة، وموجودات يُدرِكُها الذهن عن طريق حاسة سادسة يناسب أن تُسمى: (حاسة التَعَقُّل)، فالصفة -مثلًا- بما هي صفة لها تحقُّق خارجي يدركه الذهن بواسطة التَعَقُّل كما يُدرِك سُمْكَ الخشبِ -مثلًا- عن طريق الباصرة.

وبالتالي فإنَّ نظري يرفض الاعتبار إذا كان بمعنى ما يفترضه الذهن بمقتضى الاجتماع أو النفس أو ما شابه، ويرفض الاستقلال بالوجود الذهني بحجة الاعتبار، ويرى أنَّ العلاقات تكونها روابط حقيقية خارجية تُدرِكها حاسَّة التعقل، ولأنَّها كذلك يعيش الإنسان الفرح والحزن واللذة والألم بسبب بناء علاقة أو انهدام أخرى، وبسبب كلمة أو ابتسامة أو ما شابه، وكما أشرتُ فإنَّ الشعور بالبغض أو الكره ممتنع ما لم نقل بوجود رابط حقيقي بين الطرفين، وإلَّا فمع عدمه لا تحقُّق، بل لا موضوعية لأيِّ نوع من المشاعر.

يتعامل البعض مع العلاقات الاجتماعية وكأنَّها قطعة أثاث يحرِّكها أينما وكيفما شاء، فيوم تكون العلاقة بعنوان، وفي يوم آخر يُتَّخذ قرار بتغييره بما لا يناسب طبيعة التحول والتغيير، كتراجع الصداقة إلى زمالة، أو الزواج إلى صداقة، أو ما نحو ذلك من التراجعات التي تضرب مباشرة في الرابط الحقيقي والواقعي، كما يُضرب بالعصا على الظهر، وهذا أمر يحتاج لتأمل دقيق جدًّا.

يتحدَّث لسانُ العصمة عن حرمة المؤمن وقلبه ومشاعره وعواطفه، ويُثبِتُ لها ما يثبته لجوارحه، بل ويجعل أذية المؤمن تعديًا على الله تبارك ذكره. قال أبو عبد الله (عليه السلام): “قال الله عز وجل: ليأذن بحربٍ مِنِّي من أذى عبدي المؤمن، وليأمن غضبي من أكرم عبدي المؤمن”.

إنَّ لهذه النصوص الشريفة دلالة على وجود واقع خارجي لما يؤثر في مشاعر الإنسان، يُدرَكُ عن طريق حاسة في عرض الحواس الخمس المعروفة، قد أسميتها حاسة التعقل، ويأتي بيانُ وجه التسمية في البحث إن شاء الله تعالى.

  من هنا أقول: ينبغي علينا الانتباه جيدًا لعلاقاتنا الاجتماعية من مختلف زواياها العاطفية مطلقًا، بأكثر من الانتباه لحقوق الأبدان، وإن كان لمنظمات حقوق الإنسان ضرورة سياسية، فلِتَحَمُّلِ مسؤولية حقوق المشاعر ضرورة إنسانية عبادية، ولنكن واعين تمامًا إلى أنَّ جراح التعذيب في أعتى السجون تطيب بشيء من الدواء والعناية، ولكنَّ جراح القلوب والعواطف تتجدَّد دون توقف، وتعود للنزيف دون مقدمات.. فلنفهم، لعلنا نرتقي بآدميتنا إلى مستوى.. الإنسان.

 

السيد محمَّد علي العلوي

18 رجب 1438 هجرية   

 

 

 

مقالات مشابهة

اترك تعليق


The reCAPTCHA verification period has expired. Please reload the page.