لا نحتاج للبرهنة على أنَّ وجود الإنسانِ في هذه الدنيا وجودٌ حقيقيٌّ واقعيٌّ، فهذا من الوضوح بما يُغني عن مجرد السؤال، ولكنَّ الفِكْرَ يذهب متأملًا موازين التعقلات الإنسانية ومبانيها من حيث طبيعة وعلاقة هذا الموجود بظرفه الدنيوي.
ذهب أهل الأديان السماوية على وجه الخصوص إلى أنَّ الإنسان يعيش في دنياه امتحانًا إلهيًا أكبر تظهر نتائجه في يوم حساب موعود، فيه إمَّا جنَّة ونعيم، وإلَّا فنار وعذاب، ولأنَّ الأمر على هذا المستوى من الخطورة، نجد نظرةَ المتدينِ مبنية في منطلقاتها ومنتهياتها على كتابه السماوي الخاص، فلا تخرج إبداعاته عن هذا الإطار وإلَّا كان على أقل التقديرات منحرفًا انحرافًا ممقوتًا، فقد قال الله تعالى (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاء مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ).
إنَّني أؤكد هنا بأنَّ بعض الأحكام الشرعية لو تطرح بين الناس اليوم لرفضوها رفضًا قاطعًا، لا لشيء غير تحكيمهم ثقافاتهم الدنيوية عليها، فالثقافة في السياسة -مثلًا- قائمة على نظريات أنتجها الغرب والشرق، وكذا في الاجتماع والاقتصاد وحقوق الإنسان وغيرها من المجالات، وأمَّا النظريات الإسلامية فقد حكمت عليها دنيوية الإنسان بعدم صلاحيتها لغير العصر الذي أُنتجت فيه، ولم يكن هذا معلولًا لدراسة ونظر، ولكنَّ الحاصل هو أنَّ أنظمة الحكم العالمية فرضت على الكرة الأرضية نمطًا ثقافيًا وفكريًا تدور في فلكه أنماطٌ لا تخرج عن مداراته الخاصة، وهو نمط قياس كل شيء على ما يحقق مكاسبَ معينة في هذه الدنيا، وأمَّا ما يُحقِّق مكسبًا أخرويًا فمكانه البيت ودار العبادة فقط، ولا ينفع في حياة التطور والتكنلوجيا وسيادة رأس المال!
لن أطرح مسألة فقهية من مسائل الجهاد ووجوب تحقيق الصَغَارَ لغير المسلم، كما ولن أتحدث عن نظر الإسلام للغزو العسكري لدول الكفر.. لا لا.. لن أتحدث عن مثل هذه المسائل الفقهية ذات المدارك الشرعية الصحيحة، فهي محل كفرٍ من مسلمين قبل غيرهم؛ لمخالفتها مواثيق حقوق الإنسان و.. (سيداو)!
لن أطرح شيئًا منها، ولكنَّني أُزينُ هذه السطور بحديث عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام) إذ قال: “يكون في آخر الزمان قومٌ ينبُغُ فيهم قوم مُراؤون…” إلى أن قال: “ولو أضرتْ الصلاةُ بسائر ما يعملون بأموالهم وأبدانهم لرفضوها كما رفضوا أسمى الفرائض وأشرفها، إنَّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فريضةٌ عظيمةٌ بها تقام الفرائض، هنالك يتم غضب الله عزَّ وجلَّ عليهم فيعمهم بعقابه فيهلك الأبرار في دار الأشرار والصغار في دار الكبار، إنَّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سبيل الأنبياء ومنهاج الصلحاء، فريضة عظيمة بها تقام الفرائض، وتأمن المذاهب وتحل المكاسب، وترد المظالم، وتعمر الأرض وينتصف من الأعداء ويستقيم الأمر”.
هل يقبل (المسلمون) اليوم بتفعيل فريضتي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تحقيقًا للولاية المجعولة من الله تعالى في قوله (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ)، أم أنَّ هذا مخالف لأبجديات الحريات و(حقوق الإنسان)؟
بل وأكثر من ذلك، فإنَّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بحسب الموازين الشرعية قد ينتهي بمن يفعله إلى السجن بتهم جنائية، ولن يسلم من اتهام المجتمع له بالتخلف والرجعية والسلفية الوهابية!
هذا أمر بمعروف ونهي عن منكر، فكيف لو تُطرح مسائل أخرى تضرب نظريات الحريات وحقوق الإنسان المنتجة بشريًا؟
إنَّها المشكلة الأعمق مع الحداثيين، فهم لا يتمكنون من التفكير خارج إطار الدنيا، ولا يقدرون على اعتماد غير الأثر الدنيوي مقيسًا، حتَّى وصلت بهم الجرأة إلى القول بأنَّ الدين ليس أكثر من حاجة بشرية قد يسدُّها غيره، وبالتالي فالدين طريق قد توجد غيره من الطرق، فكان عندهم (الإنسان) وحاجاته في الدنيا هو المرتكز مطلقًا، وعلى مقاس حاجاته المتغيرة يتغير الدين وتتبدل القوانين، والسبب في ذلك أنَّهم أثقل من أن يخرجوا في نظرهم عن أطر الحياة الدنيا.
يعمل الحداثيون بقوة وحيوية على تكرار ونشر نظرية الاجتهاد في قبال النص، والتي أبدعها رجلٌ عند رحيل رسول الله (صلَّى الله عليه وآله)، ويظهرون اجتهاداتهم في مظاهر التمدن والفكر والعقلانية والانفتاح وما شابه من عناوين منمقة وعبائر مزخرفة، ومن أبزر أساليبهم اقتحام المجتمعات من مداخل الثقافة والمعرفة، ولكنَّهم الضلال بعينه والتِيه بشخصه.
وأكرر.. كانت الشيوعية بارزة تصرح عن نفسها، فهي من هذا البعد أخف خطرًا من الحداثة ومفرداتها؛ حيث إنَّها تدخل المساجد والمعاهد الدينية والمدارس ومختلف الأماكن كل مكان بحسبه.. إنَّها شيطنة كبرى لم يشهد التاريخ مثيلًا لها.
السيد محمد علي العلوي
22 رجب 1437 هجريَّة
30 إبريل 2016 ميلادية