الثابتة والحداثة والعلم -6-/ المبدأ العلمي الأوَّل

بواسطة Admin
0 تعليق

أشرتُ منذ الحلقة الأولى من هذه السلسلة إلى أنَّ هذا الوجود الواسع يقوم على مجموعة هائلة من القوانين والمعادلات الثابتة، وهذا داخل في مقام الاستدلال تحت عموم (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ)، ويبدو لي واضحًا أنَّ التناغم والانسجام بين الإنسان ثقافةً وفكرًا يُحقِّق سلامة النفس بحسبه، فكلما ارتفع الانسجام كلما استقامت النفس، والعكس بالعكس صحيح.

ثُمَّ أنَّنا نعلم كمؤمنين بموقف إبليس من المشروع الإلهي، فهو موقف الضد الهادم (لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ)، والغاية هي الإضلال في مقابل الهدى، والجحود في مقابل الشكر، والتكبر في مقابل الخضوع، وهكذا هو المشروع الإبليسي في جوهره وأصل قيامه، وبما أنَّ كل شيء خلقه الله تعالى كان بقدر، وأنَّ ملزوم سلامة النفس الإنسانية الانسجام مع المعادلات التكوينية، فمن الطبيعي أن يعمل الشيطان على حرف الإنسان عنها ثقافة وفكرًا، وبالتالي تحَصَّلَ أنَّ البناء الحداثي يقع مقابلًا للبناء السماوي مقابلة تامة، ولو سلَّمنا جدلًا بعدم تدخل الإنسان في تكوين وصياغة مشروع (المؤامرة) فإنَّنا لا نُسلِّم بتجنيدها إياه في مقامات تنفيذية مختلفة، منها ما أطرحه في هذا المقال.

ترجع كُلُّ الأصول الفكرية البرهانية إلى مبدأ علمي واحد تنطلق منه المعارف الصحيحة، وهو مبدأ استحالة اجتماع وارتفاع النقيضين، ولو لم تكن هذه الاستحالة تكوينية ثابتة لما استقر علمٌ ولا صدقت معرفة على الإطلاق، ولكنَّ مجموعة من الفلاسفة تحركوا بقوة لإثبات بطلان هذا المبدأ، غير أنَّ واحدة من محاولاتهم لم تصمد أمام قوة التحليل المنطقي الرصين، حتَّى جاء الفكر الحداثي متجنبًا العلماء، متوجهًا للشباب وعموم المندفعين في القراءة والبحث دون موازين علمية رصينة، وتمكنوا من الكثيرين منهم ببعض الأمثلة التي جعلوها في مقام الاستدلال على جواز اجتماع وارتفاع النقيضين، منها:

يجتمع الماء الحار مع (نقيضه) الماء البارد فيرتفعان ويحل محلهما الدافىء!

ومنها المغرب بعد ارتفاع النهار و(نقيضه) الليل!

ويقولون أيضًا باجتماع المعلول والعلة قبل انفصاله عنها!

وهكذا تمكنت الحداثة من مفاصل مجتمعية مهمة وعلى مستوى من الأهمية والخطورة، فطالت بعض زوايا طلبة العلوم الدينية فضلاً عن  بعض نوعيات المثقفين، ومنها ظهرت نظريات زاهية المنظر هشَّة المبنى والبناء، مثل توسعة دائرة المتغير في الفقه والمتحول في الأخلاق ونسبية القيم الفاضلة، وما نحو ذلك.. وهنا أنبِّه على أنَّ ردَّ مثل هذه الدعاوى أيسر من ردِّ دعوى برودة الصيف، ولكنَّ المشكلة المُعطلة تكمن في المقدمات العلمية التي ينبغي توفر الناس عليها لينتهوا إلى بداهة وضرورة وتكوينية استحالة اجتماع وارتفاع النقيضين، ومن هنا تتضح استراتيجية الحداثة في استغلال جهل الناس بمبادئ الفكر وقوانين النظر، ولضمان إبقائهم على جهلهم فإنَّهم يركزون دائمًا على ضرب المنطق وتصويره قيودًا تغل الفكر وتشل الثقافة، وهنا موضع الإعمال فعلًا.

في هذه السطور أريد فقط الكشف عن مدى هشاشة الفكرة الحداثية في خصوص المبدأ العلمي الأوَّل وهو استحالة اجتماع وارتفاع النقيضين، فأقول باختصار:

إنَّ مدار المبدأ هو الوجود واللاوجود، فالشيء إمَّا أن يكون موجودًا وإلَّا فهو لا موجود، ولا حال بين الأمرين، ولا يُتصور ذلك دون تصور عينية الموجود المقصود بتحديد تام، فهذا الجزء من الماء الحار –مثلًا- لا يمكن إلَّا أن يكون موجودًا عينًا، وإلَّا فهو لا موجود، ولا يمكن أن يكون موجودًا ولا موجودًا في آن واحد وزمان واحد ومن جهة واحدة، وكذا الاستحالة في لا وجوده و(لا) لا وجوده.

نلاحظ في الأمثلة المسوقة وجود كلا الطرفين المندمجين، فالماء الحار موجود والماء البارد موجود، يظهران في وجود ثالث تنتجه معادلات الحرارة والبرودة في مقام عروضها على الأجسام بمختلف كيفياتها، ولا علاقة للأمر ببحث النقيضين، بل أنَّ الاستدلال النظري على حقيقة الدافىء راجع برهانيًا إلى المبدأ العلمي الأوَّل على استحالة الاجتماع والارتفاع.

يقولون: إذا كُنتُم تذهبون إلى استحالة اجتماع وارتفاع النقيضين، فحكمكم هذا دليل الإمكان، وإلَّا فكيف تصورتم الأمر فحكمتم؟

الجواب نقضيٌّ مباشر:

كيف تتصورون الاستحالة لتحكموا بها على استحالات أن يحمل إنسانٌ جبلًا، أو على استحالة أن تبيض السيارة أو غير ذلك؟ كيف تتصورون الاستحالة وهي أمر عدمي؟

لن تجيبوا على هذا السؤال.. أتدرون لماذا؟

لأنَّ لا جواب له إلَّا استحالة اجتماع وارتفاع النقيضين، وبالتالي فإذا حضر النقيض ارتفع نقيضه ضرورة، ولو أذعنتم للحق لانهدم بنيانكم.

 

السيد محمد علي العلوي

10 رجب 1437 هجريَّة

23 إبريل 2016 ميلادية

مقالات مشابهة

اترك تعليق


The reCAPTCHA verification period has expired. Please reload the page.