((أبعادٌ عِلميَّةٌ في أحوال الشهادة الفاطمية))/ ٢-٢

بواسطة Admin
0 تعليق

فاطمة-الزهراء-2عن جعفر بن محمد، عن آبائه (عليهم السلام)، قال: “لمَّا حضرت فاطِمةَ الوفاةُ، بكت، فقال لها أمير المؤمنين: يا سيِّدتي، ما يُبْكِيكِ؟

قالت: أبكي لِمَا تلقى بعدي.

فقال لها: لا تبكِ، فوالله إنَّ ذلك لصغِيرٌ عِنْدِّي في ذات الله”.

ثُمَّ قال الإمام الصادق (عليه السلام): “وأوصتْهُ أن لا يُؤذِن بها الشيخين، ففعل” (بحار الأنوار للمجلسي، ج43 ص164).

مرَّ الكلامُ في المقال السابق عن المقام الشامخ لسيدتنا الزهراء (عليها السلام)، وعن كون بكائها موالفةً إنسانية بين البُعد التعقُّلي والآخرالعاطفي في الشخصية المُتَّزِنة، وهذا بَعْد الإشارة إلى إنَّ علمها بالغيب من الأمور المفروغ منها بشهادة نفس الرواية المتقدِّمة، وغيرها.

وأمَّا الأمر الثاني، فإنَّ إخبار السيدة الزهراء (عليها السلام) عن العنوان العام لما يجري على الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام)، والمُنْكَشِف ببكائها المستدعي للسؤال منه (عليه السلام)، وبمعزل عن عقيدتنا الراسخة في كونهم (عليهم السلام) عالمين بالغيب، دالٌّ على التأصيل العلمي للمسألة الأمِّ من مسائل فلسفة التاريخ، وهي مسألة (الأنماط التاريخية)، ومن خلفها تنكشف دراية متقدِّمة بمسائل الاجتماع والسياسة وعلم النفس.

أفادت السيدة الزهراء (عليها السلام) بقولها “أبكي لِمَا تلقى بعدي” خلاصةَ ما تكون عليه المجتمعات التي لا تتمكن من استيعاب المشروع السياسي في ثقافتها الفِكرية، وخصوصًا إذا ما قامت الأمارات دالةً.

إنَّه وفي عُقَيْبِ وفاة الرسول (صلى الله عليه وآله) اشتغل الإخفاء والوضع والتحوير للحديث، فانتُهِكَ مقام الخِلافةِ وغُصِبَتْ الزهراء (عليها السلام) فَدَكًا، وأُعِلن وضع الأحاديث على رؤوس الأشهاد، وشُنَّتْ الهجمات والاقتحامات على دارٍ كان جبرائيل (عليه السلام) لا يدخلها إلا متستأذنًا..

ضُرِبَتْ بِضعةُ رسول الله (صلى الله عليه وآله) وسُقِّطَ جنينُها، ومُنِعَتْ من البكاء على أبيها..

كُلُّ ذلك يعني صناعة واقع جديد على نمط تاريخي كان واضحًا للسيِّدة الزهراء (عليها السلام).

في نظري، إنَّه حريٌّ بنا ونحن نمتلك بين أيادينا هذا الإرث العلمي العميق (القرآن والعترة)، أنْ نكون سبَّاقين في ميادين الإبداع العلمي، ومعه، ليس من الصحيح أن يسبقنا أحدٌ في علم من العلوم على الإطلاق، وهذا ناهيك عن كونها بوابات واسعة للدعوة والتبليغ؛ فنحن عندما نُقَدِّم السيِّدةَ الزهراء (عليها السلام) عالمة في الاجتماع والسياسة والنفس والاقتصاد (فدك والخطبة)، فإنَّ العلماء من الشرق والغرب يتسائلون بموضوعية علميَّة عن الخلفية التحصيلية لمثل هذه المرأة الضاربة بتاريخيها في عمق شبه الجزيرة العربية، ومن هنا يبدأ التبليغ في منظومة علميَّة صحيحة.

المحطَّة الثانية: التأسيس الواقعي:

لا أُعِيدُ ذِكرَ الجرائم التي ارتُكِبت في حقِّ أهل بيت النبوة (عليهم السلام)، ولكِنَّني أُشيرُ إلى إنَّها وبميزان اليوم تُعَدُّ عند طائِفةٍ انتهاكات تستوجب الردَّ بالمثل، وعند طائفة أخرى يرونها داعية للانسحاب والانكفاء، وعند ثالثة يرونها مقدمة لماحكمات دولية..

وهكذا تتعدَّد الرؤى، وكُلُّها تشترك في جامع الحلِّ الدنيوي الذي يسمى (واقعيَّة)..

أجاب أمير المؤمنين (عليه السلام): “لا تبكِ، فوالله إنَّ ذلك لصغِيرٌ عِنْدِّي في ذات الله”.

لو كان الأمر متعلِّقًا بهذه الدنيا، لكان البكاء سائغًا، ولكن “لا تَبْكِ”، فوجود أمير المؤمنين (عليه السلام) وجودٌ رساليٌّ خالص، ولا مكان في حساباته لغير الله تعالى ومرضاته، وهذا ما تشرَّبته السيدة زينب (عليها السلام) فقالتها عن يقين تامٍّ “إلهي.. إن كان هذا يرضيك، فخذ حتى ترضى”، وقالت “اللهم تقبَّل منَّا هذا القربان”، وقالت “ما رأيتُ إلا جميلًا”.

وهذا هو جوهر ما قاله أمير المؤمنين (عليه السلام) “فوالله إنَّ ذلك لصغِيرٌ عِنْدِّي في ذات الله”، وفي مقام آخر، قرَّر (عليه السلام) قاعدة رساليَّة أصيله، عندما تحدث عن الإمرة؛ فعن عبد الله بن عباس، قال:

“دخلتُ على أمير المؤمنين (عليه السلام) بذي قار، وهو يَخْصِفُنعلَه، فقال لي: ما قيمةُ هذا النعل.

فقلتُ: لا قِيمَةَ له.

فقال (عليه السلام): “والله، لهي أحبُّ إليَّ من إمْرَتِكُم، إلَّا أنْ أُقِيَم حقًّا، أو أدْفَعَ باطِلًا” (نهج البلاغة ج1 ص80).

 

إنَّ لهذه النظرة توجُّهات رفضٍ قويَّة في واقعنا المعاش؛ فهي تراها نظرةً مِثَاليَّةً لا تناسب الواقع السياسي، غير إنَّ أمير المؤمنين (عليه السلام) يُصِرُّ على إنَّها حقيقة النظر الواقعي ما دام الله فيه وقبله وبعده وعن يمينه وعن شماله ومن فوقه ومن تحته.

إنَّها الحياة تمضي، والأنفاس تخمُد، ولا يفلح إلَّا من أتى الله تعالى بقلب سليم (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ).

المحطَّة الثالثة: التناغم الثقافي والفكري بين الزوجين:

مع تجاوز كونهما معصومَين (عليهما السلام)، فإنَّ للتناغم والتقارب بين الزوجين على مستويات الثقافة والفكر والوعي أهمِّيَّة طالما غفلنا عنها، ومن نتائج غفلتنا، تنامي معدلات الطلاق والخلافات المزعجة بين الأزواج، ولو أنَّنا نقدِّمُ أهلَّ البيت (عليهم السلام) في نظريات عِلميَّة تربويَّة، لتمكنَّا بلا أدنى شكٍّ من فلسفة الكثير من العلاقات الاجتماعية فلسفةً تتقدم بنا ثابتين في سوح المناظرات العلمية التي يُمسِكُ غيرُنا بناصيتها، ولسنا فيها إلَّا مقلِّدين تابعين (منبهرين).

الزوجة تبكي، فيسألها زوجُها عن سبب بُكائِها، فتجيبه، فيتَّضح أنَّ الأمر متعلِّق بمشتركات ثقافية فكرية تحمل قضية عالمية يسير بها الزوجان معًا.

في الغالب، تنتهي مثل هذه العلاقات الزوجية إلى نتاج إنساني متقدِّمٍ في رُقيِّه، ولذلك –مع قطع النظر عن بُعدِ العصمة- كان الحسنان وزينب (عليهم السلام).

المحطة الرابعة: مبدأ المواجهة:

في عبارة واحدة، أقول:

كلمة واحِدةٌ فقط، قد تكون دستورًا ترفعه الملائكة لسدرة المنتهى، وقد قال أبو عبد الله الصادق (عليه السلام): “إذا كان يوم القيامة، جَمَعَ اللهُ عزَّ وجلَّ الناسَ في صعيد واحد، ووضِعتْ الموازين، فتوزن دماء الشهداء مع مداد العلماء، فيرجح مداد العلماء على دماء الشهداء” (الأمالي للشيخ الصدوق ص233).

المحطة الخامسة: الاجتهاد العلمي:

أبدع الشيعة إبداعات منقطعة النظير في الفقه وأصوله، ونحن اليوم في حاجة ماسَّة لمجتهدين على نفس النمط، ولكن في السياسة والاجتماع والنفس والتربية والاقتصاد وما نحو ذلك من علوم تُستَنْبَطُ مسائلها من الكتاب والعترة، وهذه محاورة مركزة دارت بين قطبين من أقطاب البيت النبوي المقدَّس، وجدنا فيها كنوزًا معرفية وبِنظرٍ قاصِرٍجِدًّا، فكيف الأمر لو تحوَّل الثقلان بين أيدينا لمصادر استنباط علميَّة تكون العلوم إليها قاصدة، ومنها منطلقة؟   

السيد محمد علي العلوي

يوم ذكرى استشهاد الصدِّيقة الطاهرة مولاتنا الزهراء (عليها السلام)

13 جمادى الأولى 1436 هجرية

5 مارس 2015 ميلادية

مقالات مشابهة

اترك تعليق


The reCAPTCHA verification period has expired. Please reload the page.