يتحدَّثُ القرآن الكريم عن التاريخ وأهميَّة التدبر في إيامه وما تحتويه من أحداث ووقائع؛ فالسنَّة الكونيَّة قضتْ بأنَّ (وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ)، ولذلك تكرَّر في الكتاب العزيز مضمون البعث على التدبُّر في قصص الأولِّين، كقوله تعالى (قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ * هَذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ).
هناك مجموعة من البشر تعي مثل هذه الأمور جيِّدًا، وتُدرك بشكل كبير أهميَّة القراءة الموضوعية للتاريخ، لا لغرض الموعظة الساذجة، ولكن لاستنباط الأنماط التاريخية التي تسير عليها الأيام بما يقدِّم لموعظة الهدى.
ليس هذا لمجرَّد قراءة الواقع واستشراف المستقبل، ولكنَّ الغاية الأكبر هي العمل على صناعة واقع يحافظ على البقاء في ضمن الأطر التي تشكِّلها تلك الأنماط التاريخية بدقَّة متناهية.
لا اعتباطية في الأحداث، وليس التاريخ حركة عشوائية، وهذا أساسٌ علميٌّ قامتْ عليه مجموعة من الفلسفات التي تقود حركة الأحداث العالمية اليوم، وفي هذه السطور –وبحسب نظري- أستعرِضُ باختصار النظرية العلميَّة الحاضِرَة في الاتفاق النووي الأخير الذي قُرِّر إطاره العام بين مجموعة 5+1 من جهة والجمهورية الإسلامية في إيران من جهة أخرى (الخميس 12 جمادى الآخرة 1436 هجرية، الموافق 2 أبريل 2015 ميلادية).
تحرَّكتْ نظرياتُ فلسفة التاريخ في قنوات نقديَّة دقيقة، فظهر التقارب بينها في شدَّة تباعدها عن بعضها البعض، وبان التغاير بينها في قوة التماسك بين مبانيها، وما أريد قوله، هو أنَّ العملية النقدية أظهرت النظريات في فلسفة التاريخ وكأنَّها نظرية واحدة في ألوان تطوُّريَّة، حتى بين المثالية الهيجلية والماديَّة الماركسية نقف على تزاوجات أنتَّجت نظريات ساهمت في تطوُّر عمليَّة اتخاذ القرار في العالم.
اعتملتْ الحركةُ النقديَّةُ في عقول فلاسفة التاريخ، فقدَّم المؤرخ الإنجليزي أرنولد توينبي (1889-1975) نظريَّة (التحدِّي والاستجابة)، وفيها يرى أنَّ التشخيص الدقيق للتحدِّيات وأسبابها وظروفها، وقياس توجُّهات وظروف ودرجات الاستجابة، هو المفتاح لفهم وشرح التاريخ، ولتفسير قيام وسقوط الدول والحضارات.
يرى تونبي أنَّ فشل الدولة في تشخيص التحدِّيات ودراستها وفهمها، ثم انتخاب النمط الصحيح للاستجابة، يعني وبشكل حتمي سقوطها وانهيارها مهما قاومت أو تظاهرت بالمقاومة، مادمت ليست في الاتجاه الصحيح.
في نظري، إنَّ الحركة السياسية العالمية من بعد الحرب الثانية، كانت قد فرغتْ من التحوُّل الاستراتيجي من الاستجابات العسكرية إلى الاستجابات الثقافية والتثقيفيَّة، والسياسيَّة الدبلوماسيَّة، وقد ظهر هذا التحول في الكثير من المفاوضات والاتفاقيات السياسية الكبرى، وآخرها الاتفاق النووي بين 5+1 والجمهورية الإسلامية في إيران، وفي اعتقادي أنَّ القراءة من فرقاء التفاوض كانت غاية في الدقة والاستراتيجية، وببناء متطوُّر على نظرية أرنولد تونبي في فلسفة التاريخ.
تحتاج الدول العظمى، وعلى رأسها الولايات المتحدَّة الأمريكية لقوَّة توازنيَّة تحكم منطقة الشرق الأوسط من جهة، وتولِّد طاقات إبداعية عند نفس الدول العظمى من جهة أخرى، وليست الجهة الأولى إلَّا لتحقيق معادلة التحدِّي فالاستجابة في الجهة الثانية، وهذا التكنيك الفكري المتقدم يشكِّل استراتيجية تجديد البقاء الأمريكي بتحديث وترقية قواه.
وبحسب المقدمات والمعطيات، فإنَّ العقل الإيراني يُدرِكُ المعادلة إدراكًا أثار إعجاب العقل الأوربي الأمريكي، ففرض الإيراني نفسه رقمًا واقعيًا حقَّق التحدي العلمي بتمام مفرداته، وذلك بعد استجابته الفريدة لتحدِّيات العقوبات التي حاصرته لعقدين من الزمن، فهو هناك قد أحرز الدرجة الكاملة على مستوى الاستجابة، ثمَّ فرض نفسه تحدِّيًا واقعيًا على خارطة السيطرة السياسيَّة، وفي نفس الوقت دخل مرحلة استاجبات جديدة لتحدِّيات الاتفاق النووي، فحقَّ أن يقال بأنَّ الجمهورية الإسلامية اليوم قطبٌ عالميٌّ اتَّخذ موقعه الماكن في معادلة توازن القوى، وهو موقع ضروري ولا بد أن يُشغل بوجودٍ مُناسبٍ يستحقُّه.
لا تقتصر التحدِّيات الصانعة للحضارات على الخارجيَّة منها، فهناك أخرى داخلية، وبوجد النمطين تتشكَّل تحدِّيات جديدة تنشأ من عنوان التقريب والتوفيق بين نمطي التحدِّيات، وعليه، فإنَّ تحدِّي الطفرات الاقتصادية الذي تواجهه الجمهورية الإسلامية في إيران يستوجب التحكُّم في تحدِّيات المنطقة من اضطرابات وما شابه.
ومن هنا تبدأ القراءة السياسية من ما وراء السياسة، وينبغي أنْ نضع كلَّ استجابة موضعَ القياس على مفاوضات سياسيَّة دبلوماسيَّة استمرت لأكثر من عشر سنوات بين (الكبار).
السيد محمد علي العلوي
13 جمادى الآخرة 1436 هجرية
3 إبريل 2015 م