جانِبٌ من ملحمة عقائدية ضخمة، امتدَّت منذ الخلق الأول، وتستمِرُّ في الخلود دون سرمديَّة الخالق جلَّ شأنه، يظهرُ في محاورة مركَّزة دارت بين السيِّدَة الزهراء وعليٍّ أمير المؤمنين (عليهما السلام)، فعن جعفر بن محمد، عن آبائه (عليهم السلام)، قال: “لمَّا حضرت فاطِمةَ الوفاةُ، بكت، فقال لها أمير المؤمنين: يا سيِّدتي، ما يبكيكِ؟
قالت: أبكي لِمَا تلقى بعدي.
فقال لها: لا تبكي، فوالله إنَّ ذلك لصغِيرٌ عِنْدِّي في ذات الله”.
ثُمَّ قال الإمام الصادق (عليه السلام): “وأوصتْهُ أن لا يُؤذِن بها الشيخين، ففعل” (بحار الأنوار للمجلسي، ج43 ص164).
محاطَّات مُهِمَّة نتوقف عندها:
المحطَّة الأولى: بكاء السيدة الزهراء (عليها السلام):
الخطأ الصادر فِعْلًا مِنَ الإنسان المُختار، هو في واقعه تَجَسُّدٌ لمركب من العِلَلِ اجتمعت فأخرجته إثباتًا لوجودٍ ما، أدَّى إليه على مستوى الفِكر والنظر، وقد تكون الإرادة في فعل الخطأ، ولكنَّ جُزْءَ عِلَّةٍ يتخلَّفُفي مرحلةٍ مِنْ المراحل فلا يتحقَّق التَّجَسُّدُ خارجًا، وقد يكون هذا التخلُّف باختيار الإنسان، كما هو عند المتَّقين الحكماء، وقد يكون بغير اختيار من نفس الإنسان، كأن ترِدُ عليه عِلَّة مضادَّة بشكل من الأشكال، وفي الحالتين، فإنَّه قد عصى، أو فلنقل أخطأ في مرحلةٍ من مراحل الفعل، وإن كانت في الجانب النظري، ولكِنَّه عُصِم في مرحلة الإظهار والعمل، وهذه عِصمَةٌ مقدورةٌ لِكُلِّ مُختَارٍ بِحسبه.
أمَّا الرسولُ الأكرمُ وأهلُ بيته الأطهار (عليهم السلام) فعِصمتُهم مُمتَّدَة مِنْ أوَّل نُقطَةٍ على خط الفكر والنظر، وإلى آخر نقطة على خط الفعل والعمل، وهذا مقتضى التنزيه في قوله تعالى (ليُذهِبَ عنكم)، وليس “مِنْكم”، وقوله عز وجل (إلَّا المُطَهَّرون)، ولم يقل “إلَّا المتطهرون”.
ولذلك، فإنَّ أيَّ فعل نظري أو عملي يكون من المعصوم (عليه السلام)، فهو عينُ الحِكْمَةِ وجوهرُها ومعدِنُها، والاستدلالات العلميَّة البرهانيَّة كثيرة على المُدَّعى، غير إنَّ مقام المقال لا يحتملها.
(لمَّا حضرتْ فاطِمةَ الوفاةُ بكت)، وعندما (بكت)، سألها أمير المؤمنين (عليه السلام) عن سبب بكائها، هذا والحال إنَّها في أحوال الوفاة ومعاناة آلام كسر الضلع وتسقيط الجنين، إلَّا إنَّ كُلَّ ذلك لم يكن مُبَرِّرًا –كما يبدو- لبكائها (عليها السلام)، ولذلك سألها أمير المؤمنين (عليه السلام) عن سببه.
يظهر إنَّ بكاء السيدة الزهراء (عليها السلام) لُغَةٌ عقلية خاصة بموارد التألق العاطفي في الإنسان؛ فالعاطفة بلا عقل انحرافٌ، وكذلك العقل بلا عاطفة، ولذلك كان الأظهار الحِكَمِي من السيدة الزهراء (عليها السلام) إظهارًا عاطفيًا هو في واقعه العنوان، وأمَّا المضمون فيقعجوَابًا على سؤال أمير المؤمنين (عليه السلام): “ما يُبكِكِ؟”.
بَكَتْ الزهراء (عليها السلام) أمام أمير المؤمنين (عليه السلام) بكاءًانتهى به للسؤال عن سببه، ويبدو إنَّه كان بما يتجاوز ما يستدعيه الألم، وكيف كان، فإنَّ الجواب جاء فاصلًا: “أبكي لِمَا تلقى بعدي”.
هنا أمران، أولهما ما نحن عليه في عمقنا العقائدي من كون علم الغيب حاضرًا عند أهل البيت (عليهم السلام)، وقد قال أبو جعفر الباقر (عليه السلام): “أمَّا عِلمُ ما كان، وما سيكون، فليس يموت نبيٌّ ولا وصيٌّ، إلا والوصيِّ الذي بعده يعلمه” (الكافي ج1 ص252)، وقال أبو عبد الله الصادق (عليه السلام): “وربِّ الكعبة وربِّ البنية –ثلاث مرات-، لو كنتُ بين موسى والخضر لأخبرتُهما أنِّي أعلم منهما، ولأنبئتُهما بما ليس في أيديهما، لأنَّ موسى والخضر عليهما السلام أعطيا علم ما كان، ولم يعطيا علم ما يكون وما هو كائن حتى قيام الساعة، وقد ورثناه من رسول الله صلى الله عليه وآله وراثةً” (الكافي ج1 ص260).
هذا، ويشهد نفس هذا الحديث، ناهيك عن حديث الكساء والعشرات من التصريحات عن أهل البيت (عليهم السلام) بأنَّ السيدة الزهراء (عليها السلام) عالمة بالغيب حضورًا حضورًا، ومن هنا نذهب إلى قول أمير المؤمنين لها (عليهما السلام): “سيدتي”، وهو زيادة على التقدير والتعظيم لبضعة رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فإنَّه يكشف عن جوانب من معاني (أمِّ أبيها)، ومن تقديمها في بيان القدس الأعلى “هُمْ فاطِمَةُ وأبوها وبعلُها وبَنْوها”.
وزِدْ على ذلك روايتها المباشرة لما دار في الجهة العليا من حوار بين الله سبحانه وتعالى وبين جبرائيل، كما هو الواضح في حديث الكساء.
زيادةُ بيانٍ في الحلقة الثانية إن شاء الله تعالى.
السيد محمد علي العلوي
4 مارس 2015
ليلة ذكرى استشهاد الصدِّيقة الطاهرة مولاتنا الزهراء (عليها السلام)
12 جمادى الأولى 1436 هجرية