تسيطر البرامج الحوارية على شبكة (الإنترنت) بشكل كبير جدًا حتى أنها دخلت في عمق المواقع الأخبارية عن طريق التعليقات على الأخبار المنقولة والمقالات المكتوبة وما إلى ذلك وكأن الحوار يريد أن يصرخ في وجه العالم بأنه طبيعة إنسانية لا تقبل الكبت أبدًا، وبالفعل فهذه حقيقة ينبغي لنا استيعابها جيدًا ولكن في ضمن قواعدها المقومة لطريق الوصول إلى أهدافها.
أذكر قبل عشر سنوات أو أكثر أنني كنت وآخرين من المداومين على المشاركة في غرف البرنامج الشهير (paltalk) وهو برنامج تفتح فيه أبواب الحوار الحر بشكل ربما لا مثيل له لا على مستوى العالم الواقعي ولا على مستوى العالم الاعتباري، فقد كانت الجبهة الشيعية وفي مقابلها جبهة أتباع المذاهب الإسلامية الأخرى تمثلان واقعًا يكاد أن يكون مستقلًا عن العالم إلى درجة أنك قد تجد مجموعة من المشاركين لا يكادون يغادرون الغرفة إلا لصلاة أو غفوة، أما الطعام فلا يستدعي المغادرة، وأكثر من ذلك أن الحضور أصبح على مستوى الأسرة والعائلة أيضًا..
شاهِدُنا، أنني وبعد قضاء بعض السنوات في (الجهاد البالتوكي) رأيتني أستهلك الكثير من أعصابي ووقتي والحال أن الثمار أقل بكثير من الجهد المبذول –هذا حسب رؤيتي- فقررت مغادرة (البالتوك) والتفرغ لبعض الأنشطة الأخرى..
بعد فترة من الزمن تهيئت الظروف للدخول الجدي في عالم المنتديات الحوارية (الكتابية) وكان معها الانتقال من الحوارات المذهبية التي اتسمت بها مرحلة البالتوك إلى الحوارات الخلافية في داخل المذهب، وبالفعل كان الحضور جيدًا مع مجموعة جيدة تمتلك فكرًا حرًا في حدود مقتضيات الإيمان وأخلاقياته، ولكن الذي تكرر هناك وهنا عدم التكافؤ بين الجهد المبذول والنتائج، بل والذي زاد في الحوارات الداخلية هو تعمد الشخصنة والضرب العنيف جدًا من تحت الأحزمة وفوقها، والحق أننا لم نجد مثل هذه السلوكيات حتى من الوهابيين الذين يرون فينا الكافر المتلبس بلباس الإسلام!!
ولذلك وبعد أن تحول العمل من أجل المساهمة مع الآخرين في بث روح التوعية الناهضة إلى فتن سرعان ما تنبت وتتطاول أياديها الأخطبوطية الخبيثة قررت الانسحاب من هذا الميدان والتحول إلى ميادين اخرى قد تكون أكثر جداوئية..
ما المشكلة في حواراتنا؟ ولماذا لا تكون الثمار بقدر الجهد المبذول؟
هناك مقولة مفادها أن الثمار موجودة يشكلها الجهد بحسبه، وحتى ندرك هذه الحقيقة ينبغي لنا التحول بنظرنا إلى المتابعين للحوارات وليس إلى نفس المتحاورين.. توقفت عند هذه المقولة مليًا فوجدت أن المتحاورين في البالتوك أو المنتديات لا يتغيرون –غالبًا- إلا في اتجاه التأزم النفسي وتمكن العزة منهم حتى تأخذهم بالإثم عند كل فرصة، ولكن المتابعين للحوارات يتغيرون بشكل من الأشكال، وهذا أمر طبيعي لمن يتجرد عن بواعث التحدي والانتصار الحربي وما نحو ذلك، فنعم كان البالتوك مفيدًا بدرجة معينة وكذلك المنتديات إلا أن هذه الفائدة ولدت مشوهة بسبب عدم عناية المثقفين بنشر وعي الحوار وضوابط استخلاص المعارف منه فكانت النتيجة استنساخ الأولين في اللاحقين وبالتالي سريان التأزم النفسي في الأجيال لتكون الثمار مضروبة بدود يأكل في عافيتها دون رحمة.
في هذه السطور أريد التركيز على جانب من هذه الضوابط التي تكفل تحسين الإثمار والثمار، وأطلب من الأخوة والأخوات خصوصًا الشباب منهم التركيز فيما هو آت وتدبره بعمق حتى يتبينوا صحته من عدمها..
الحوار عبارة عن طرح موضوع ما للتداول بين مجموعة من الناس، وليكن عنوان هذا الموضوع (الزواج المبكر) –مثلًا-.. لنرى الآن:
أنا من المؤيدين للزواج المبكر بشرط إعادة الصياغة للمناهج التربوية في داخل الأسرة وعلى مستوى الدولة، وأرى بأن في تحقيق هذا المطلب رعاية للأخلاقيات والسلوكيات المبتذلة والتي تجد متنفسها في تأخير الزواج.. في مثل هذا الحوار أبدأ بطرح أدلتي وما أراه من براهين على صحة ما أذهب إليه ثم أتوقف لأرى ما يطرح مع أو ضد ما طرحتُ، وهنا أرجو ملاحظ الركيزة المفهومية الأولى في التعاطي الصحيح مع موضوع الحوار، وهي أن الطارح مباين للفكرة المطروحة بشكل تام، فهي طرح موجود سواء وجد الطارح لها أم لا، وسواء كانت مغيبة أو مشهرة، فهي في الواقع موجودة بشكل من الأشكال وعلى مستوى من المستويات، فمن تمام العقل أن تناقش بتجرد عن طارحها، وهذا هو قول أمير المؤمنين (عليه السلام): “انظر لما قيل ولا تنظر لمن قال” الذي يأخذ به الأريحي في نفسيته وعقليته، أما المتأزم فيبدأ أولًا بوضع حواجز نفسية أمام عقله أولًا والمتابعين ثانيًا، فيبدأ بالتالي:
“لا أدري كيف لشخصية لها وجودها في المجتمع أن تطرح مثل هذا الرأي المتهالك، ولا أدري كيف يقبل المثقفين لمثل هذه الأطروحات أن تأخذ مكانًا بين الناس، والظاهر أن طارح الفكرة قد تأخر زواجه وذلك هو يطالب اليوم بالزواج المبكر…”
لاحظوا بأن هذا المحاور قد استهلك قوى التركيز عنده وعند المتابع في تحليل شخصية صاحب الطرح وضربها يمينًا وشمالًا، وبالتالي فهو ومن حيث يعلم أو لا يعلم ضرب حواجز من نار بين القارئ والمقروء، وهذا ما يؤدي فعلًا إلى تضييع الفائدة من النقاش وبالتالي الوصول إلى مستوى التكامل الحواري.
إن من أأصل أخلاقيات الحوار المثمر البناء أن يركز المتحاورون على مناقشة الموضوع بمعزل تام عن الفكر الحواجزي أيًا كان مسكله أو لونه، فالحوار ليس ساحة انتصار للرأي وحسب، ولكنه من المفترض أن يكون مزرعة للتكامل الفكري، وهذا ممنوع إذا لم يتجرد المتحاورون عن الجمود على موروثاتهم؛ فهذا يولد حالة من الذهول عن الموضوعية سواء بقصد أو عن غير قصد.
ثم أن من موانع الإثمار أيضًا تحميل الطرح ما لا يناسب روحه ولا يتوافق مع نسقه مثل أن يهم أحد المتحاورين بتوجيه أطروحة الزواج المبكر –مثلًا- على أنها دعوة تحريضية للشباب بأن يتمردوا على أبائهم ومدارسهم وما شابه!!
إننا اليوم في أمس الحاجة إلى عقليات حَلِّيةٍ أكثر من كونها نقضية، كما وأن الحاجة شديدة جدًا إلى حواريات هادئة ناضجة جريئة تُحْتَرَمُ فيها الكلمة احترامًا يدعمه تقديرٌ لعقول الناس وفهمُ شائنة أي محاولة للسيطرة عليها باستبداد الفكر الحواجزي غير السوي، وليُعلم جيدًا بأن الشخصنة في الحوار دليل صارخ على الإسقاط النفسي المُظهر لعمق النقص الذي يعانيه صاحبه، فلنحذر هذه المهاوي الفاضحة
السيد محمد علي العلوي
23 صفر 1432 هجرية
28 يناير 2011 م