أصالة الصراع:
عدم الصراع والمغالبة يعني إطباق السكون، بل هو الفناء المطلق، إذ أن الآن الزماني لا يكون إلا بطرد سابقه، وهذا التطارد هو الأُس في معادلة الصراع العريضة التي تقوم عليها مادية الوجود الممكن بحاكمية قاعدة أحدية فاردة هي: الموت والحياة.
يختلف الأمر في القضايا المعنوية التي خص الله بها الإنسان، فهي وإن اشتركت مع المادة في أصالة الصراع والتطارد إلا أنها تتميز بحاكمية القرار والموقف وتشعباتهما الكثيرة جدًا، وهذا ما يعطيها المرونة التامة وعلى مختلف المستويات، وبهذا يتضح أن الإنسان في بعده المادي محكوم بمعادلة الموت والحياة الصارمة، ولكنه في بعده المعنوي حاكم بنفس المعادة، وهذا من معاني قوله تعالى (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا)[1]، وقوله (وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ)[2]، وأيضًا قوله (إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا)[3].
نخلص إلى أن إرادة الإنسان إنما هي في البعد الثاني من الصراع، أما الأول فالإرادة تكوينية.
- طبيعة الصراع في البعد الثاني:
لا شك في أن الأصل الأول في الخلق الإنساني هو أصل الإنقياد التام إلى الله تبارك ذكره، وفيه يشترك الإنسان مع الملائكة، إلا أن الحكمة الإلهية اقتضت وجود مساحة فارغة في النفس البشرية ولكن فراغها في لحظتها الأولى فقط، أما تاليًا فهي مملوءة حتمًا ودائمًا بأحد ثلاث:
1) الخير مطلقًا بما يعزز ويقوي فطرة الإنقياد إلى الله تعالى: (يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي)[4]
2) الشر مطلقًا بما يسحق فطرة الإنقياد إلى الله تعالى: (لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لايَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ)[5].
3) خلطٌ بين هذا وذاك وترددٌ غالب بين الشدة والضعف: (وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)[6].
في هذا الصراع تتراوح خيارات الإنسان بين منشأين:
الأول: منشأ النور وأصله الله جلَّ في علاه.
الثاني: منشأ النار وأصله إبليس الرجيم.
وبينهما تطارد واضح بما يغني عن البيان، ولكن الحاجة الملحة دائمًا إنما هي في معرفة جنود إبليس من الشياطين وتشخيصهم تشخيصًا دقيقًا على طريق تحقيق المقدمة العلمية لامتثال قوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَن يَشَاء وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)[7].
- إبليس تنظيم وامتدادات:
في البداية انفرد إبليس بالمعصية في الوقت الذي احتج فيه الله تعالى على الملائكة بعرفانية آدم (عليه السلام)، وهنا نكتة مهمة أتوقف عندها قليلًا..
لم يتعرض آدم (عليه السلام) لكدورات الدنيا ولم ينل من شهواتها، بل وأكثر من ذلك أنه تعلم وتأدب على الله تعالى قربًا قربًا (وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ)[8]، وبالرغم من هذا الشأن العظيم والشرف الفريد والمقام العالي إلا أنه (وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى)[9]، وبهذه الحادثة تنتفي كل مسوغات التقديس لخلق غير الأنوار الأربعة عشر (عليهم السلام) لما أفادته صحيح الروايات بأنهم خلقوا من نور الله تبارك ذكره.
وعلى كلٍ فإن استكبار إبليس قد جره إلى سلسلة من العناد انتهت به إلى إعلان التحدي الأكبر وإطلاق حركة الصراع المعنوي (قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَائِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ)[10]وبدأها بالفعل مع آدم (عليه السلام) بمكر عجيب (وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنْ النَّاصِحِينَ)[11].
في الصراع الأول تعرض الإنسان إلى هزيمة تاريخية اقتضت إهباط آدم وحواء إلى الأرض، وإن كانت وسوسة الشيطان في نفسيهما ظاهرة حينها لهما، فإنها اليوم خافية على الإنسان لما تتصف به من تعدد هائل في الأشكال والألوان.
- اللون الشيطاني الأخطر:
هناك مجموعة من الواضحات التي يعرف موقع الشيطان الرجيم منها، وفيها ليس من الصعب على الإنسان تحديد خياراته والحكم بمقياس الواضح مما يقرب ويبعد من الله تعالى، ولكن الكلام في مهارة التلوين والتشبيه والتلبيس التي يتقنها الشيطان الرجيم أيمَّا إتقان وخصوصًا إذا أوكل أمرها لشياطين (الإنس)، وهذا في الواقع ما دعى لكتابة هذه السطور..
يقول الله تعالى (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ)[12]، وهو تصريح من الله تعالى ونص في أن من الشياطين من تمظهروا إنسًا يننا، ومن عظيم العترة الطاهرة قول الإمام الصادق (عليه السلام): “ولا يفرقن أحد منكم ألزم الله قلبه طاعته وخشيته من أحد من الناس ممن أخرجه الله من صفة الحق ولم يجعله من أهلها، فإن من لم يجعل الله من أهل صفة الحق فأولئك هم شياطين الإنس والجن، وإن لشياطين الانس حيلةً ومكرًا وخدائعَ ووسوسةً بعضهم إلى بعض يريدون إن استطاعوا أن يردوا أهل الحق عما أكرمهم الله به من النظر في دين الله الذي لم يجعل الله شياطين الانس من أهله إرادة أن يستوي أعداء الله وأهل الحق في الشك والانكار والتكذيب فيكونون سواءًا كما وصف الله تعالى في كتابه من قوله: ” وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَاء”، ثم نهى الله أهل النصر بالحق أن يتخذوا من أعداء الله وليًا ولا نصيرًا، فلا يهولنكم ولا يردنكم عن النصر بالحق الذي خصكم الله به من حيلة شياطين الانس ومكرهم من أموركم تدفعون أنتم السيئة بالتي هي أحسن فيما بينكم وبينهم، تلتمسون بذلك وجه ربكم بطاعته وهم لا خير عندهم، لا يحل لكم أن تظهروهم على أصول دين الله فإنهم إن سمعوا منكم فيه شيئًا عادوكم عليه ورفعوه عليكم وجهدوا على هلاككم واستقبلوكم بما تكرهون ولم يكن لكم النصفة منهم في دول الفجار، فاعرفوا منزلتكم فيما بينكم وبين أهل الباطل فإنه لا ينبغي لأهل الحق أن ينزلوا أنفسهم منزلة أهل الباطل لأن الله لم يجعل أهل الحق عنده بمنزلة أهل الباطل، ألم يعرفوا وجه قول الله في كتابه إذ يقول: ” أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ”؟
أكرموا أنفكسم عن أهل الباطل ولا تجعلوا الله تبارك وتعالى – وله المثل الاعلى – وإمامكم ودينكم الذي تدينون به عرضة لأهل الباطل فتغضبوا الله عليكم فتهلكوا، فمهلًا مهلًا يا أهل الصلاح، لا تتركوا أمر الله وأمر من أمركم بطاعته فيغير الله ما بكم من نعمة”[13]
للشيطان إذًا إمتداد تنظيمي في بني الإنسان مما يُصَعِّبُ المشكلة بتعقيد القدرة على التشخيص، وأيضًا بمشكل الموقف من المُشَّخَصِ شيطانًا، فإثبات الشيطانية بالبينة العلمية متعذر جدًا، ولن يرقى لأكثر من كونه إدعاءًا يُلزِمُ القاطعَ بموضوعه وغيرَه ممن يقطع بقطعه، وتزداد شدة التعقيد شدة عندما تقرأ في التأريخ مجالسة أهل بيت العصمة (عليهم السلام) لطواغيت تلك العصور، فهل في ذلك مسوغ لغيرهم أم أنه مقصور عليهم لامتناع وقوعهم في المحذور؟
يظهر بأن مجالسة الشيطان من الأنس مقصور على المعصومين (عليهم السلام) لمحل الاستيعاب والشمول في قوله تعالى (لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ) فتكون مجالسة المعصومين (عليهم السلام) لهم مُخَصِّصَةً، وبالتالي فالأصل هو المنع إلا برخصة من المعصوم (عليه السلام) أو من يجيزه.
هذا إذا كان شخص الإنس شيطانًا عن بينة علمية، وأما إذا كان الحكم ظنيًا، أي عن غير دليل قطعي فمحاكمته مشكل حقيقي.
وعلى أية حال فلا طريق للإنسان والآخر غير الحجة عن دليل وبرهان، كيف لا وهي التي جعلها الله تعالى حجة له على الإنسان، وأعطاها إياه لتكون له حجة مُعَذِّرَة.
بلى، قد تطرأ عناوين عدة يُحتَجُ بها لمقاطعة جهة من الجهات كأن تكون يَدَ إجرام صريح –مثلًا-، ولكن هذه الصفة إما أن تكون في جهةٍ أو مستوعبةً لجميع الجهات، وفي مثل هذه الحالات تشتد وتيرة النزاع بين المُشَخِّصِين لاختلاف الجهات التي ينظُرُ كُلُّ واحد منهم لموضوع الحكم.
ليست القضية بتلك السهولة التي قد يتصورها البعض، فالشيطان وبسبب مهارته ودقته في التنظيم سوف يتمكن من بسط يد الظلم والجور في الأرض قبل ظهور القائم من آل محمد (أرواحنا فداه) ليملأها قسطًا وعدلًا، وحتى أبين خطورة الأمر أشير إلى أني على الرؤية التشخيصية للسيد الإمام روح الله الموسوي الخميني (قدس سره) عندما حكم على أمريكا بأنها الشيطان الأكبر، ولكن الحديث إذا كان على المستوى العام فليُعلم أن الأمم المتحدة هي أمريكا، وأمريكا هي منظمات حقوق الإنسان، وهي محكمة العدل الدولية، وهي الإعلام، وهي الرأي العام، وهي الإقتصاد والمال..!!
إنهاليست الشيطان الأكبر فحسب، بل هي شيطان أخطبوطي أكبر، ومقاطعته تحتاج إلى عزيمة حقيقية واستعداد هائل للتراجع إلى الخلف والإنطلاق مجددًا بالاعتماد التام على التأييد الإلهي، ولا كلام في ذلك إذ أن المقابل للشيطان هو الله، وأي خلل في العلاقة مع الله فهو يعني وبالضرورة الوقوع في حبائل الشيطان.
ولذلك فإن القضية ليس مسألة عبائر تتناقلها الألسن، خصوصًا إذا وقفنا على ما نُقل عن ابن عباس: “أنه تعالى جعله (الشيطان) بحيث يجري من بني آدم مجرى الدم، وصدور بنى آدم مسكن له كما قال (مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ * الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ * مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ) والجِنَّة الشياطين، وكما قال النبي (صلى الله عليه وآله): « إن الشيطان ليجثم على قلب بني آدم له خرطوم كخرطوم الكلب إذا ذكر العبد الله عز وجل خنس أي رجع على عقبيه، وإذا غفل عن ذكر الله وسوس» فاشتق له إسمان من فعليه: الوسواس من وسوسته عند غفلة العبد، والخناس من خنوسه عند ذكر العبد”[14].
فحري بالإنسان أن يحذر كل الحذر من أن يكون العوبة بيد الشيطان من حيث لا يعلم، بل وأكثر من ذلك أن يحذر من الشيطان بما يروج له، وهنا مصيبة التلون والتشكل التي تمتاز بها أخطوبية الشيطان الرجيم.
وختامًا فإنه لا خيار ثالث، فإما مع الله حقًّا حقًّا نظرًا وعملًا، وإلا فليس غير أحضان الشيطان والعياذ بالله.
السيد محمد علي العلوي
27 جمادى الآخرة 1434 هجرية
8 مايو 2013 ميلادية
[1] – سورة الشمس 7 – 10
[2] – سورة البلد 10
[3] – سورة الإنسان 3
[4] – سورة الفجر 27 – 30
[5] – سورة الأعراف 179
[6] – سورة التوبة 102
[7] – سورة النور 21
[8] – سورة البقرة 31
[9] – سورة طه 121
[10] – سورة الأعراف 16 – 17
[11] – سورة الأعراف 21
[12] – سورة الأنعام 112
[13] – الكافي – الشيخ الكليني – ج 8 – ص 11 – 12
[14] – شرح أصول الكافي – مولي محمد صالح المازندراني – ج 9 – ص 238