الوعي ومشكلة العولمة

بواسطة Admin
0 تعليق

 

original

من طبيعة الإنسان أنه يسعى، بل هي طبيعة في الحي الأعم كل بحسبه، ففي النبات نوع سعيٍ نحو كماله وإن كان قهريًا، وغير العاقلات من الحيوانات تسعى من أجل بقائِها غريزيًا، أما الإنسان فسعيه متعدد الأبعاد، فهو يسعى سعي النبات ويسعى سعي الحيوان ثم أنه يتميز بسعي آخر مجموع في عنوان السيطرة الثقافية وهي ما عولجت لفظًا فسميت حديثًا بالعولمة.

العولمة جعل الشيء عالميًا، أي أن يكون كليًا في مختلف بقاع الأرض ولو على النحو الكلي المشكك، ومن الأمثلة طبيعة اللباس في المجتمعات الإسلامية وتحولها إلى ما كانت صفته عند أهلها التعري والميوعة، وهي في واقعها ليست إلا صورة أقل شدة في تعريها من تلك التي عليها القوم المعولِمُ لها.

فلسفة العولمة:

العولمة ثقافة سلوكية إنسانية تُظهِرُ حَقَّ الإنسان في إبراز إفكاره والدفاع عنها ونشرها بين الناس بما يؤسس لمساحة فكرية تلتقي فيها مختلف الأفكار المُعَولَمة أو بتعبير أدق: التي تراد عولمتها، وفي هذا الإلتقاء تولد فرص الابداع الفكري بالملاقحة بين الملتقيات وبالنقد والتصحيح والرد والتقويم مقدمة للنمو الثقافي والتكامل الفكري لما فيه مصلحة النوع البشري.

ظاهر أن هذه الحالة وفي جميع مراحلها مشروطة بتوفر الناس على الحرية النفسية وسلوكية الإنفتاح الثقافي للتمكن من التعامل مع الأطروحات والأفكار بالشكل الذي يكون مقدمة أو طريقًا للإبداع والنمو والتكامل.

  • ضابطة على الطريق:

النمو الثقافي والتكامل الفكري حالة واحدة في مرحلتين يكون الاعتماد فيهما على أمرين:

الأول: التراكم

الثاني: التصحيح والتنقيح

والموضوع في كل العملية هو ما يكون محلًّا للنظر مطلقًا، ومن هنا كان التأكيد العقلاني على ضرورة التأصيل الفكري وهو ما نسميه بالثوابت الثقافية، وإلا فإطلاق قابلية التغير يُفقِدُ العملية الفكرية موازينها لما فيه من ضغف الإطمئنان في التعاطيات الفكرية مع الذات ومع اللآخر، ولذلك فإننا حينما نتحدث عن شرط الحرية فلا يتوهمن أحد ٌ أن القصد هو الحرية غير المنضبطة بموازين التأصيل الثقافي، بل حتى في أوليات البحث والنظر لا مغادرة عن الأصول والقيم الإنسانية، وعلى هذه الأخيرة تقوم التعددية الثقافية مطلقًا، وتضيق إيجابيًا مع كل ما يُقَرَّرُ ثابتة ثقافية، فيكون البناء رأسيًا إلى الأعلى من بعد تحقيق الجذر التأصيلي.

موقع المجتمع البشري من العلمانية:

“تقوم فلسفة العولمة من حيث هي آيدولوجية فكرية على تجسيد الفكر الأحادي الذي ظهر بعد سقوط جدار برلين وانتصار الليبرالية في أواخر القرن العشرين على الآيدولوجية الشيوعية القائلة بالتخطيط المركزي للاقتصاد، وهذا الانتصار جعلها تسعى إلى إقامة سوق عالمية كبيرة مفتوحة ومتحررة من قيود التسيير المركزي والاتجاه نحو لامركزية التسيير بعيداً عن سلطة حكومات الدول وسياساتها الداخلية.

كما تسعى العولمة الليبرالية إلى تجسيد مشروع المجتمع المتجانس الموحد عالمياً والذي تذوب فيه الفروق الجغرافية والثقافية والدينية واللغوية ولكن وفق النموذج الغربي والأمريكي تحديداً، وهذا ما صرح به الرئيس الأمريكي السابق كلينتون” إن أمريكا تؤمن بأن قيمتها صالحة لكل الجنس البشري. وأننا نستشعر أن علينا التزاماً مقدساً لتحويل العالم إلى صورتنا”[1]

يظهر أن العولمة لم تعد مجرد الحق الإنساني في طرح الفكر وإبراز الرؤى، فهي اليوم حالة من الصراع الحقيقي من أجل السيطرة الثقافية وفرض الفكر والاستبداد الثقافي.

تحرير المشكلة:

احترام المحترم قيمة لا تقبل التجزئة، كما وأنه بدرجة من الشفافية الفاضحة لأدنى خدش من غش أو مخادعة أو تدليس، ومن صوره المتألقة احترام بل وتقديس حق الإختيار للإنسان الراشد المستعد لتحمل مسؤولية خياراته، وهذه الحرية بالذات طاهرة حدّ رفضها لأي درجة من درجات التوجيه أو التسيير لغير الدليل والبرهان والحجة العلمية، وهذا المستوى الراقي من الطهر يصطدم شديدًا بطاغوتية الحيوان في الإنسان (كَلاَّ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى)[2] لأنها وبمقتضى الطبيعة التي جبلت عليها ترفض السيطرة لغيرها، بل هي ترفض حتى المزاحم، ومن هنا تكونت مناشئ لفلسفات مضادة لفلسفة العولمة التي أشرنا إليها قبل قليل، وفي مقدمتها مطلقًا تأتي سياسة السيطرة على العقول وتفريغ أو تجفيف منابع الوعي كمقدمة للحكومة العالمية الواحد التي تدين لها الأرض بالولاء والطاعة، ولا شك في أن هذا الطريق غير مقدور لغير المتمكن من صناعة أدوات الفرض والسيطرة وإعمالها في مفاصل الفكر البشري.

من هنا تتبين طبيعة الصراع، فنقطع بكونها ثقافية وأداتها صياغة الوعي بما يوافق الأقوى مع ضمان عدم المعارضة.

سياسة الإنهاك الذهني:

أقدم بمثال قريب:

في أجواء القضية السورية قام الطيران الإسرائيلي بشن غارات جوية استهدفت بعض مخازن السلاح السورية، وذلك في 24 جمادى الآخرة 1434 هجرية، مما استدعى إعلان المتحالفين مع النظام السوري عن جاهزيتهم للتدخل العسكري الجاد.

مع هذا الحدث وبتداعي الأخبار والتحليلات السياسية، طغت على الساحة الشعبية في المنطقة مظاهر الترقب والاستعداد لحرب قادمة يقال أنها حتمية الوقوع.

في خصوص الحدث السياسي نحن نقف أمام رسائل متعددة يوجهها نفس الحدث، منها رسائل لأنظمة حكم معينة تقرأ من زوايا عدة، ومنها رسائل للقوى العسكرية، وأخرى للقوى السياسية دون أنظمة الحكم، ومن ضمنها رسائل مهمة جدًا توجه إلى الشعوب، فالحدث السياسي الواحد ينبغي أن يُقرأ بواقعية صوره المتعددة وزواياه المتكثرة، أما الخلط في بالضبط التعرض لحالة الإنهاك الذهني المطلوبة للشعوب خصوصًا.

عندما تقوم القوات الجوية الإسرائيلية بهجوم على سوريا، فإننا نقف أمام احتمالات كثيرة تتفرع منها احتمالات أخرى أكثر منها، فالقضية ليست مما يقطع به هكذا بمجرد الأخذ بالصورة.

أما بالنسبة لتدخل قوى التحالف الصريحة وغير الصريحة، ففي المعادلة:

(الجمهورية الإسلامية في إيران، حزب الله، روسيا، الصين)، فهي إما أن تتدخل أو لا تتدخل، فإن تتدخلت فالقضية تترتب عليها خسائر كبيرة جدًا خصوصًا لقوة مثل القوة الإيرانية التي بنيت ذاتيًا على مدى عقدين وبإصرار كبيرة وعزيمة فاردة، وليس من السهل أن تدخل في مواجهة عسكرية مباشرة مع أمريكا وإن كان عن طريق إسرائيل، أما روسيا فهي على موعد مع قمة رئاسية تاريخية الشهر المقبل وفيها من المتوقع إعادة تقسيم المنطقة في ضمن سياسات جديدة يراد فيها تحقيق أعلى مستويات التوافق بين القوتين، في حين أن حزب الله ينبغي أن يبقى قوة تهديد حقيقية للعدو الإسرائيلي في المنطقة، ودخوله في حرب كهذه كفيل بإضعافه خلافًا لما تريده قوى التحالف.

وفي نفس القوت فإن السكوت عن الهجوم الإسرائيلي يعني أن كل التصريحات المضاده لإسرائيل من قوى التحالف لا تعدو كونها أصوات عالية ليس أكثر.

من الواضح أن خيار الحرب ليس بالأمر السهل مع القطع بإمكان وقوعه، ولذلك فإن الحذر في فهم الحدث مهم بالنسبة للشعوب أكثر مما هو مهم للقوى السياسية وأنظمة الحكم التي عادة ما تكون الصورة أكثر وضوحًا لها.

سواء قامت الحرب أم لا، فالشعوب لا حيلة لها أصلًا، ولن يصيبها غير القلق والتوتر ثم التعب والإنهاك على المستوى النفسي خصوصًا بما يحقق الإستعداد الذهني لتمرير الثقافات المعولمة وهي محور المعادلة –في نظر الكاتب-.

بلى، لابد من متابعة الحدث والتحليلات، ولكن الأهم من كل ذلك الإهتمام بملفات الوعي بما يؤهلنا كشعوب من فرض واقع الإستقرار المشترك والتخلص من واقع (المفعول به) القائم، وهنا نحتاج إلى التأكيد على أن كل أنظمة العالم إنما هي أنظمة بشرية شكلتها الشعوب بشكل من الأشكال، وبالتالي فإن الذي شكلها قادر على تشكيل غيرها، وهذه القدرة على المقصودة للقتل من المتربعين على كرسي القرار.[3]

إن لسياسة الإنهاك الذهني صور وأدوات كثيرة جدًا نتمكن من حصرها في عنوان واحد هو: (كل ما يُشْغِلُ عن المضي في مشروع نهضوي يحترم قيم الإنسان ويحقق له الرفاه المادي والمعنوي دون تغليب لجانب على آخر).

السلامة من الإنهاك الذهني:

تتردد شعوب العالم بين تصنيفين، فهي إما مستسلمة لأنظمتها، أو متمردة ثائرة غير منضبطة، وقلما نجد شعبًا أو كيانًا سياسيًا شعبيًا يحمل مشروعًا يقوم على أسس علمية واضحة وفي ضمن خطة تعتمد النظر والعمل الإستراتيجين، وذلك لأنها (الشعوب) قبلت بأن تكون مكونًا إلى جانب أنظمة الحكم، ولذلك فهي إما مستسلمة أو متمردة لا ترى لنفسها وجودًا إلا مع عدم نظام الحكم القائم، وهذا ما يجعل الثورات متكررة في نفس الموطن وكأنها دول.

 

  • النموذج الأوحد للاستقلال والتخلص من سطوة الإنهاك الذهني:

على طول التاريخ البشري لم تسجل حالة بقاء ثقافي ثابتة ولو في عناوينها العامة لغير حالة المدرسة التي أساسها الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) وبابها أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) وهي مدرسة التشيع لأهل البيت (عليهم السلام)، وهذه دعوى مستغنية عن الدليل بعد شهود الذات.

يعتقد الشيعة الإمامية بأن الخلافة الإلهية من بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) إنما هي ماضية في علي وابنيه ومن بعدهم في المعصومين من ذرية الحسين (صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين)، وهذه الحقيقة قائمة سواء تهيئت الظروف لأبي بكر بن أبي قحافة أو لغيره كمعاوية أو يزيد أو المتوكل أو غيرهم، وهذا ما قامت عليه ثقافة التشيع في عمقها الإستراتيجي التي تجسد مشروعًا واضحًا استمر في أمير المؤمنين (عليه السلام) ولم ينقطع حتى اليوم حتى مع غيبة الإمام المهدي المنتظر (أرواحنا فداه)، ولذلك نرى القوة الشيعية في الاستقلالية التامة للمرجعية الدينية الصحيحة (الفقهاء المراجع العدول من رواة حديث أهل بيت العصمة عليهم السلام)، وهذا هو ما تدور عليه المعادلة الثقافية التي أفادها الإمام العسكري (عليه السلام) في قوله: “بين عوامنا وعوام اليهود فرق من جهة وتسوية من جهة، أما من حيث الإستواء فان الله ذم عوامنا بتقليدهم علماءهم كما ذم عوامهم، وأما من حيث افترقوا فإن عوام اليهود كانوا قد عرفوا علماءهم بالكذب الصراح وأكل الحرام والرشاء وتغيير الأحكام واضطروا بقلوبهم إلى أن من فعل ذلك فهو فاسق لا يجوز أن يصدق على الله ولا على الوسائط بين الخلق وبين الله فلذلك ذمهم، وكذلك عوامنا إذا عرفوا من علمائهم الفسق الظاهر والعصبية الشديدة والتكالب على الدنيا وحرامها، فمن قلد مثل هؤلاء فهو مثل اليهود الذين ذمهم الله بالتقليد لفسقة علمائهم، فأما من كان من الفقهاء صائنًا لنفسه، حافظًا لدينه مخالفًا على هواه، مطيعًا لأمر مولاه، فللعوام أن يقلدوه، وذلك لا يكون إلا بعض فقهاء الشيعة لا كلهم، فإن من ركب من القبايح والفواحش مراكب علماء العامة فلا تقبلوا منهم عنا شيئًا ولا كرامة، وإنما كثر التخليط فيما يتحمل عنا أهل البيت لذلك، لأن الفسقة يتحملون عنا فيحرفونه بأسره لجهلهم ويضعون الأشياء على غير وجهها لقلة معرفتهم، وآخرون يتعمدون الكذب علينا”[4]

بالرغم من متابعة الأئمة (عليهم السلام) للشأن السياسي، وبالرغم من مقارعتهم الدقيقة للظالم إلا أن الأهم عندهم كان مشروع المحافظة على المجتمع المؤمن بعيدًا عن نجاسات المفسدين، ولذلك كان الشيعة على مر التاريخ دولًا مستقلة في داخل الدول الرسمية، فلم تؤثر فيهم حراكات العولمة إلا بما يثري وحيقق الفائدة، وإلا فهم من عولم فكرهم ولكن في ضمن الموازين الإنسانية التي يؤكد عليها القرآن الكريم، ولو أنهم سلموا أنفسهم للانفعال غير المنضبط بمفتعلات الحوادث والوقائع لانتهى أمر التشيع.

  • الإشغال والإنشغال بالآخر:

ربما تتصادم المشاريع حد الوجود والعدم، وحينها فإن البقاء الحقيقي لا يكون إلا لمن يملك مشروعًا يقوم على رؤية واضحة وأسس علمية سواء كان مشروع صلاح أم فساد، فقد قال الله تعالى (كُلاًّ نُّمِدُّ هَؤُلاء وَهَؤُلاء مِنْ عَطَاء رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاء رَبِّكَ مَحْظُورًا)[5]، ومن وجهة النظر العلمية فإن إزاحة العامل الذي يعتمد في عمله التنظير العلمي أمر غير معقول بل هو خلاف السنة، ولذلك فإن من أدوات الإستهلاك الذهني وإنهاك القوى إشغال الناس ببعضها البعض، وكلما كان مؤشر الإستجابة عاليًا كلما دل ذلك على سلامة مخطط العولمة الإستبدادية من جهة، ومن جهة أخرى ضعف الوعي عند المنشغلين المذهولين عن التأسيس العلمي لمشاريعهم، فهم في الواقع لا يحملون غير كومة من الأحلام!

أدوات الإنهاك الذهني التي يستعملها المستبدون من المعولمين كثيرة جدًا، وهي في الواقع لا تجد مقاومة صحيحة من جماهير الشعوب التي ما إن تفلت من كماشة حتى توقع نفسها في أخرى، وليس هذا إلا لأن القوى المسيطرة تخضع كل شيء لدراسات دقيقة جدًا مع اعتبار كل الاحتمالات مهما سخفت.

العودة إلى الوعي الحقيقي:

في ختام الخطبة الشريفة يقدم الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) الحل الإلهي لتحقيق الوعي والسلامة من إشغالات المفدسين، وذلك بعد أن يبين ما يحققونه من إنجازات مؤسفة في عمقنا الإجتماعي، وهذه الخطبة رويت بسند صحيح، ونحن في حاجة متعاظمة لدراستها وفهمها واستيعاب مضامينه.

“أبو محمد الفضل بن شاذان في كتاب الغيبة: حدثنا عبد الرحمن بن أبي نجران (رضي الله عنه)، قال: حدثنا عاصم بن حميد قال: حدثنا أبو حمزة الثمالي، عن سعيد بن جبير، عن عبد الله بن العباس قال: حججنا مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) حجة الوداع، فأخذ بحلقه باب الكعبة وأقبل بوجهه علينا، فقال: “معاشر الناس، ألا أخبركم بأشراط الساعة؟ قالوا: بلى، يا رسول الله.

قال: من أشراط الساعة: إضاعة الصلوات، واتباع الشهوات، والميل مع الأهواء، وتعظيم المال، وبيع الدين بالدنيا، فعندها يذوب قلب المؤمن في جوفه كما يذوب الملح في الماء، مما يرى من المنكر، فلا يستطيع أن يغيره، فعندها يليهم أمراء جورة، ووزراء فسقة، وعرفاء ظلمة، وأمناء خونة، فيكون عندهم المنكر معروفًا، والمعروف منكرًا، ويؤتمن الخائن في ذلك الزمان، ويصدق الكاذب، ويُكَّذب الصادق، وتتأمر النساء، وتُشاور الإماء، ويعلو الصبيان على المنابر، ويكون الكذب عندهم ظرافة، فلعنة الله على الكاذب وإن كان مازحًا، وأداء الزكاة أشد التعب عليهم خسرانًا ومغرمًا عظيمًا، ويحقر الرجل والديه ويسبهما، ويبرأ [من] صديقه، ويجالس عدوه، وتشارك المرأة زوجها في التجارة، ويكتفي الرجال بالرجال والنساء بالنساء، ويُغار على الغلمان كما يُغار على الجارية في بيت أهلها، وتشبه الرجال بالنساء والنساء بالرجال، وتركبن ذوات الفروج على السروج، وتزخرف المساجد كما تزخرف البيع والكنائس، وتُحلى المصاحف، وتطول المنارات، وتكثر الصفوف، ويقل الإخلاص، ويؤمهم قوم يميلون إلى الدنيا، ويحبون الرئاسة الباطلة، فعندها قلوب المؤمنين متباغضة، وألسنتهم مختلفة، وتحلى ذكور أمتي بالذهب، ويلبسون الحرير والديباج وجلود السمور[6]، ويتعاملون بالرشوة والربا، ويضعون الدين ويرفعون الدنيا، ويكثر الطلاق والفراق، والشك والنفاق، ولن يضروا الله شيئًا، وتظهر الكوبة والقينات والمعازف، والميل إلى أصحاب الطنابير والدفوف والمزامير، وسائر آلات اللهو، ألا ومن أعان أحدًا منهم بشئ من الدينار والدرهم والألبسة والأطعمة وغيرها، فكأنما زنى مع أمه سبعين مرة في جوف الكعبة، فعندها يليهم أشرار أمتي، وتنتهك المحارم، وتكتسب المآثم ، وتسلط الأشرار على الأخيار، ويتباهون في اللباس، ويستحسنون أصحاب الملاهي والزانيات، فيكون المطر قيظًا، ويغيظ الكرام غيظًا، ويفشوا الكذب، وتظهر الحاجة، وتفشو الفاقة، فعندها يكون أقوام يتعلمون القرآن لغير الله، فيتخذونه مزامير، ويكون أقوام يتفقهون لغير الله، ويكثر أولاد الزنى، ويتغنون بالقرآن، فعليهم من أمتي لعنة الله، وينكرون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حتى يكون المؤمن في ذلك الزمان أذل من الأمة، ويظهر قراؤهم وأئمتهم فيما بينهم التلاوم والعداوة، فأولئك يدعون في ملكوت السماوات والأرض الأرجاس والأنجاس، وعندها يخشى الغني من الفقير أن يسأله، ويسأل الناس في محافلهم فلا يضع أحدٌ في يده شيئًا، وعندها يتكلم من لم يكن متعلمًا، فعندها ترفع البركة، ويمطرون في غير أوان المطر، وإذا دخل الرجل السوق فلا يرى أهله إلا ذامًا لربهم، هذا يقول: لم أبع، وهذا يقول: لم أربح شيئًا، فعندها يملكهم قوم، إن تكلموا قتلوهم، وإن سكتوا استباحوهم، يسفكون دماءهم، ويملؤون قلوبهم رعبًا، فلا يراهم أحدٌ إلا خائفين مرعوبين، فعندها يأتي قوم من المشرق وقوم من المغرب، فالويل لضعفاء أمتي منهم، والويل لهم من الله، لا يرحمون صغيرًا، ولا يوقرون كبيرًا، ولا يتجافون عن شئ، جثتهم جثة الآدميين، وقلوبهم قلوب الشياطين، فلم يلبثوا هناك إلا قليلًا، حتى تخور الأرض خورة، حتى يظن كل قوم أنها خارت في ناحيتهم، فيمكثون ما شاء الله، ثم يمكثون في مكثهم، فتلقي لهم الأرض أفلاذ كبدها، (قال: ذهبًا وفضة، ثم أومأ بيده إلى الأساطين)، قال: فمثل هذا، فيومئذ لا ينفع ذهب ولا فضة، ثم تطلع الشمس من مغربها.

معاشر الناس، إني راحل عن قريب ومنطلق إلى المغيب، فأودعكم وأوصيكم بوصية فاحفظوها، إني تارك فيكم الثقلين: كتاب الله وعترتي أهل بيتي، إن تمسكتم بهما لن تضلوا أبدًا، معاشر الناس إني منذر وعليٌ هاد، والعاقبة للمتقين، والحمد لله رب العالمين“.[7]

خلاصة القول:

مشروعنا الأصل هو الولاية، ولاية أهل البيت (عليهم السلام)، فقد قال أبو جعفر الباقر (عليه السلام): “بني الإسلام على خمس: على الصلاة والزكاة والصوم والحج والولاية، ولم يناد بشئ كما نودي بالولاية”[8]، وحتى نحقق القيام به بالشكل الصحيح الذي يرتضيه الله تعالى فإنه لا طريق لنا إلا الإستقواء بالنظر العلمي وبالدليل والبرهان وعلم الحجج، مع تجنب الخلط بما لونه الإنشاء وما يتفرع عنه من عاطفيات لا تنفع في مواجهة سطوة العولمة وأسطولها التثقيفي الهائل.

أما مفتاح النجاح فالمضي بالمشروع الإلهي وفق ضوابطه العلمية وتجنب الإنشغال بغيره وخصوصًا ما يستهلكنا معنويًا وذهنيًا وثقافيًا.

 

السيد محمد علي العلوي

25 جمادى الآخرة 1434 هجرية

6 مايو 2013 ميلادية

   

[1] – درس العولمة والتنوع الثقافي في شكل مقالة جدلية/ من إعداد الأستاذين: دامخي سيف الإسلام، وأحمد بن زاوي. نشر على مدونة فيض القلم (الإلكترونية)

 [2] – سورة العلق 6

[3] – ما ذكرته مختصر جدًا، ولكنني طلبت النتيجة بتقدمة مبسطة مراعاة للمقام، فالنقاش ليس في المثل بقدر ما هو أصل الفكرة، وهي فكرة (سياسة الإنهاك الذهني)

[4] – وسائل الشيعة (آل البيت) – الحر العاملي – ج 27 – ص 131

[5] – سورة الإسراء 20

[6] – دابة تعلم من فرائها جلود غالية الثمن.

[7] – مستدرك الوسائل – الميرزا النوري – ج 11 – ص 372 – 374

[8] – الكافي – الشيخ الكليني – ج 2 – ص 18

 

مقالات مشابهة

اترك تعليق


The reCAPTCHA verification period has expired. Please reload the page.