قبل بضع سنوات التقيت رجلًا ربما كان ستينيًا من إحدى بلاد الشام وقد أعلن تشيعه، التقيته في بعض الحسينيات ووجدته ملتزمًا بالحضور ويرفض الجلوس على الكرسي معتقدًا أن في ذلك قلة أدب مع أهل البيت (عليهم السلام)، فقد كان شديد الولاء والحب للأئمة الأطهار (عليهم السلام)، إلا أنني رأيت منه أمرًا غريبًا عندما قام للصلاة، فقد كان يركع بأن يجثو على ركبتيه، وإذا سجد فإنه يمد يديه على الأرض بحيث أن يكون المرفقان بمحاذاة أذنيه!!
استغربت الأمر فسألته، وكان منه الجواب أن فهمكم للركوع والسجود خطأ، وأنا ما يقوم به هو الصحيح، وكان مصرًا على ما هو عليه؛ على اعتبار الخضوع الذي يستشعره يبرر التزامه بمثل هذه الوضعيات الغريبة!!
كلنا يعلم بأن الدين دين الله تعالى ولا يحق لأحد أن يبتدع فيه، وليست العبادات إلا للتقرب من الله عز وجل، ولذلك فإنه الواضع لها الراسم لحدودها، ولا شك في أن واقعة واحدة من وقائع الدنيا لا يمكن أن تخلو من حكم شرعي تفرغ به الذمم الممتثلة أمام الله سبحانه وتعالى، وهنا أمرأن:
الأمر الأول:
لغير المجتهد القادر على استنباط الأحكام الشرعية عن أدلتها المقررة خياران، فإما أن يقلد مجتهدًا جامعًا للشرائط وإما أن يكون محتاطًا في أعماله، ولا يحق له بحال من الأحاول أن يعتمد على فهمه فيعمل بما يراه كما كان حال صاحبنا الشامي، والسبب في ذلك أن الحجة بين الله تعالى وعبده هي الرؤية الشرعية للقادر عليها، وهو من نسميه مجتهدًا، وقد قال العسكري (عليه السلام): “فأما من كان من الفقهاء صائنًا لنفسه، حافظًا لدينه، مخالفًا على هواه، مطيعًا لأمر مولاه، فللعوام أن يقلدوه”.
وعليه فإن التزام المرجعية الدينية ضرورة دينية أصيلة لا يمكن الفرار منها حتى مع البناء على الاحتياط.
الأمر الثاني:
عرف عن مذهب الحق تميزه بفتح باب الإجتهاد، وقد أحدثت هذه الميزة حالة إثراء متقدمة جدًا يلمسها المنصف حتى في طريقة الحوار والطرح لدى الشيعة عمومًا، ومن طبيعة التعدد في الإجتهادات الفقهية تعدد المدارس المرجعية بشكل عام، وبالتالي انتشار العامة عليها، فلكل مُقَلِّد مرجع تقليد يرجع إليه محققًا الحجة التي أرادها الله تعالى له، وهذا أمر واضح جدًا وله من الظهورات ما يغنينا عن ذكر الشواهد عليه.
وفي التالي تأصيلات مهمة:
التأصيل الأول:
عندما نتحدث عن (الشعائر) فإننا في الواقع بصدد إسباغ تشريع على ما نقرر له الصدق على هذا المفهوم، فإذا قلت عن الممارسة الكذائية أنها من الشعائر فأنا في الواقع أشرع حكمًا؛ إذ أن الشعائر إما أن تكون واجبة وإلا فهي مستحبة، وقضية التشريع خطيرة جدًا، فقد قال أبو جعفر الباقر (عليه السلام): “من أفتى بغير علم لعنته ملائكة السماء وملائكة الأرض وملائكة الرحمة وملائكة العذاب، ولحقه وزر من عمل بفتياه”.
فالقضية في منتهى الخطورة ولا يبعد أن تكون سببًا في هدم عمل الإنسان (وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَّنثُورًا)، ولا مخرج من مغبة الوقوع في مثل هذه المهاوي السحيقة غير الرجوع إلى فقيه مجتهد جامع للشرائط يكون حجة بيننا وبين الله سبحانه وتعالى، ولو أنه أفتى ولم تكون الفتوى موافقة للحكم الواقعي فإن المعذرية له ولمن يقلده قد تحققت بتحقق العلم السابق للفتيا، ولذلك يجب أن يكون جامعًا للشرائط، وبالتالي فإنه يفتي عن علم، لا عن غير علم.
التأصيل الثاني:
وأقرب إليه بمثال الصلاة خلف إمام الحرم المكي، فهناك من الفقهاء من يجيزه بالبناء على أنه من المفردات الدالة على الوحدة الإسلامية، ولا يوجب الإعادة، وهناك من يجيزه في مورد التقية فقط، وعليه فإننا عندما ننقل رأيًا ما وجب علينا إسناده إلى صاحبه القائل به من الفقهاء، فنقول بأن المجتهد الفلاني يجيزه مطلقًا، ونقول أنه عند المجتهد الفلاني (بدعة) –مثلًا-، فلا يكون الحكم ببدعيته مطلقًا مفروضًا على الموافق والمخالف، بل هو حكم جار على نفس الفقيه القائل به ومن يقلده من عامة الناس، ولا شك في وجوب احترامه على الآخرين من غير الموافقين، فهو في نهاية المطاف رأي فقهي واحترامه ضرورة تقوائية دينية.
فالقول هنا بضرورة الإسناد وتجنب التعميم وكأن الحكم نازل بالوحي على قائله، وتأتي الضرورة هنا لقبح إقصاء الرأي الآخر وكأنه (لا شيء)، فهذا –كما قلت- قبيح وعيب أن يصدر من مؤمن.
التأصيل الثالث:
يتحرك الفقيه في ضمن محورين اثنين، محور المفهوم، ومحور المصداق، أما الأول فلا خلاف فيه غالبًا، ومثاله (الشعائر) وما يفهم من هذا اللفظ مطلقًا، وأما الثاني ففيه:
الحالة الأولى: أن يحدد الشارع المقدس المصاديق المطلوبة شرعًا، ولا يجيز تعديها لمصاديق أخرى وإن صدقت على المفهوم، وهذا ما يراه بعض الفقهاء في قضية (الشعائر)، فهم وإن أجازوا مثل (التطبير)، إلا أنه ليس بعنوان (الشعيرة)، وإنما بعنوان فعل معين مرجعه في الحكم إلى الإباحة، ولكنه ليس بشعيرة؛ فالشعيرة معينة في مصاديقها فقط.
الحالة الثانية: أن يحدد الشارع المفهوم مستغرقًا في مصاديقه دون قيد أو شرط غير الخروج بالدليل، وهذا ما يراه بعض آخر في نفس قضية (التطبير)، إذ أنهم يرون شعيريته وبالتالي الحكم باستحبابه، لا لأنه متعلق بقضية عاشوراء فقط، بل لأنه من مصاديق (الشعائر).
وفي الواقع أن هذا من اختصاص الفقيه المجتهد الجامع للشرائط، ولا ينبغي لغيره التدخل فيه إلا على نحو طلب العلم والمعرفة، وإلا فالتغيير والتقديم والتأخير ليس من شأنه؛ حيث إن القضية سوف تنتهي إلى تشريع أو نفي تشريع، وقد قدمنا بما يبين خطورة هذا الفعل.
التأصيل الرابع:
عندما نتحدث عن قضية مثل (التطبير) فليس المجيز يحتاج إلى ذكر قائمة من الفقهاء المجيزين، ولا المحرم يحتاج إلى ذكر قائمة من الفقهاء المحرمين، فالقضية لا هي حرب ولا تحدٍّ ولا صراع ولا شيء من هذا القبيل على الإطلاق، ولكنها قضية التزام بمرجع التقليد فقط، فلو أجاز (التطبير) كل الفقهاء ما عدا المرجع الذي أقلده، فإنهم في الحقيقة لن يؤثروا في موقفي الشرعي القاضي بالتزام مرجعيتي الدينية التي جعلتها لنفسي حجة بيني وبين الله سبحانه وتعالى وبإذن منه عز وجل بعد أن جعلها حجة لمن يحتج بها.
قصة المشكلة:
لم تكن قضية التطبير جديدة من حيث تردد الحكم بين الحرمة والجواز والاستحباب، إلا أنها أثيرت في العقدين الأخيرين بشكل يثير الشكوك، وقد نستفيد لو أن حوارًا موضوعيًا يقام حول هذه القضية، خصوصًا وأنها أثيرت في توقيت فيه الكثير من المنعطفات المهمة في تاريخ التشيع.
على أية حال، فإنه وكما شهد الجميع انقسمنا إلى قسمين رئيسيين، قسم يحارب (التطبير) بشكل غريب جدًا وكأنه المقوض للإسلام، وقسم يدافع عن التطبير بشكل غريب جدًا وكأنه روح الإسلام وجوهره، ولو أننا نتأمل قليلًا لما وجدنا مبررًا واحدًا لا للمحاربين ولا للمدافعين، خصوصًا إذا ما أرجعنا القضية إلى وضعها الطبيعي وهو الخضوع للحكم الشرعي، وبالتالي فإن حتى من يرى (التطبير) واجبًا، فهو رأيه الفقهي يلزمه ويلزم من يقلده، وبالمثل فإن من يرى (بدعيته) فإن رأيه الفقهي يلزمه ويلزم من يقلده، ولا يجوز لا لهذا ولا لذاك إمضاء رأيه على الآخرين، إذ لا مسوغ أصلًا، بل وهو مخالف مخالفة صريحة لأبجديات التقليد التي قامت عليها ثقافة من ثقافات المذهب الحق.
أتسائل:
لماذا تثار قضية (التطبير)؟ ولماذا يكون التعاطي معها بهذه الحِدِّية الغريبة جدًا؟ ولماذا هذا التطرف العجيب من كلا الطرفين؟
وأقول:
يعلم العالم ويشهد على أن بعض الفقهاء يحكمون بحرمة (التطبير)، وبعض يرى جوازه، وآخرون يذهبون إلى استحبابه، وبالتالي فإن من مخرجات هذا العلم أن من يدرس مذهب التشيع لا يبحث في قضية (التطبير) كأصل يحدد اختياره رفضه له، وهذا ما يجدد إثارة السؤال:
لماذا؟؟!!
رأيي:
وبالبناء على ما تقدم، فإن إثارة قضية (التطبير) بالشكل الذي نشهده في كل عام لا تخلو من قلة حكمة، وأرجو من المؤمنين مراجعة خطابهم وتحري الدقة فيه، تجنبًا لإثارة النفوس بما لا ثمرة فيه أصلًا.
السيد محمد علي العلوي
28 ذو الحجة 1433هـ/ 13 نوفمبر 2012م